كل إنسان معرض للحروب الروحية لاختبار إرادته، حتى القديسين والأبرار. غير أن أولئك الأبرار كانوا منتصرين في محاربتهم...
والمحاربات الروحية قد تأتى إلي الإنسان من داخل نفسه، أو من الشيطان، أو من العالم، أو من الناس الأعداء الأشرار...
والمحاربات الداخلية، التي من داخل النفس، من أفكار العقل وشهوات القلب وحركات الجسد، هي أصعب من المحاربات الخارجية، لأنَّ الإنسان يكون فيها عدو نفسه. ولأنه يضعف أمامها، إذ هو يشتهيها ولا يريد مقاومتها. لذلك كانت نقاوة القلب هي أهم شيء في الحياة الروحية. والقلب النقي هو حصن لا يُنال. إنه يشبه بيتًا مبنيًا على الصخر، مهما هبَّت عليه الزوابع لا تسقطه...
ورُبَّما يكون سبب الحرب الداخلية، اندماج الخطية في الطبع، بحيث يترسَّب في عقل الإنسان وقلبه ما يحاربه. وقد يكون سببها حالة فتور يجوزها الإنسان، أو طبيعة ضعيفة تستسلم للخطأ، أو إهمال الإنسان في ممارسة الوسائط الروحية، فيضعف القلب من الداخل، ويترك الفكر يطيش بلا ضابط... وربما تبدأ بالتراخي في ضبط الحواس، والحواس هي أبواب يدخل منها الفكر.
والحرب الروحية الداخلية قد تأتي خفيفة أو عنيفة. وحتى إن بدأت خفيفة، فإن تراخى الإنسان لها تسيطر عليه.
ومن المحاربات الداخلية، حرب الأفكار وحرب الشهوات.
أمَّا عن حرب الأفكار، فقد تأتي في اليقظة أو أثناء النوم. والأفكار الخاطئة التي تحارب الإنسان أثناء نومه، ربما تكون مترسبة من أفكار وأخبار وصور النهار، مِمَّا كمن في العقل الباطن من شهوات وأفكار، وما جلبته الأذن من حكايات وأخبار، وما قرأه الشخص من قصص، وما رأته العين من صور، بحيث ترسب كل ذلك في ذهنه.
كل هذه تأتي مرَّة أخرى في أحلام أثناء الليل، أو في سرحان أثناء النوم، أو ما يسمونه أحلام اليقظة. ويستمر الإنسان في ذلك، إن كان القلب قابلًا لها. أمَّا إن كان رافضًا لها، فإنها تتوقف، ويصحو هو إلى نفسه.
وإرادة الإنسان ضابط هام للفكر، فهي التي تسمح بدخول الفكر. أمَّا إن دخل خلسةً، فهي التي تسمح باستمراره أو إيقافه. ومن موقف الإرادة تأتي المسئولية?
ومن هنا نرد على السؤال القائل: هل هذه الأفكار إرادية، أم غير إرادية، أم شبه إرادية: أي من النوع الذي هو غير إرادي الآن، ولكنه نابع من إرادة سابقة تسبَّبت فيه؟! فقد يغرس الشيطان في عقل الإنسان يدخل إليه بغير إرادته. وهذا الفكر إن لم تكن عليك مسئولية في دخوله. فلا شك عليك مسئولية في قبوله.
إن أردت، يمكنك أن تطرد الفكر ولا تتعامل معه ولا ترحب به. لأنك إن قبلته، تكون خائنًا لمحبة اللَّه، ومُقصِّرًا في حفظ وصاياه، وفي صيانة قدسية قلبك من الداخل...
وقد يأتيك الفكر الخاطئ في حلم. فإن كنت نقيًا تمامًا، سوف لا تقبل هذا الفكر في الحلم أيضًا. وإن كنت لم تصل إلى هذا المستوى وقبلته، فستحزن في يقظتك كثيرًا لقبوله. وحزنك سيترك أثره العميق في عقلك الباطن، بحيث ترفض كل حلم مماثل في المستقبل، ولو بالتدرج، إلى أن تصل إلى نقاوة عقلك الباطن.
إذن قاوم الفكر الخاطئ بالنهار أثناء يقظتك، لكي تتعود مقاومته حتى بالليل أثناء نومك. وتنغرس هذه المقاومة في أعماق شعورك، ويتعوَّدها عقلك الباطن... إذن زمام أفكارك في يدك: سواء الأفكار التي تصنعها بنفسك، أو التي ترد إليك من الخارج، من الشيطان أو من الناس. وما أصدق المثل القائل:
إن كنت لا تستطيع أن تمنع الطير من أن يحوم حول رأسك، فعلى الأقل تستطيع أن تمنعه من أن يُعشِّش في شعرك...
وإن اشتدت عليك الأفكار بطريقة ضاغطة ومستمرة، فلا تيأس، ولا تقل لا فائدة من المقاومة، وتستسلم للفكر!! فإن اليأس يجعل الإنسان يتراخى مع الفكر، ويفتح له أبوابه الداخلية، ويضعف أمامه ويسقط. أمَّا أنت فحارب الأفكار، واصمد في قتال الأفكار، ولا تجعلها تقودك. إنما اطلب نعمة اللَّه لكي تنقذك، حتى وأنت ساقط. قل له يا رب: حتى إن أنا سقطت، فإنني واحد من رعيتك ومن خليقتك، فلا تتركني، بل أنقذني من سقوطي. إنها خطية ضعف، وليست خطية خيانة لك...
وعمومًا، الجأ أولًا إلى الوقاية فإنها خير من العلاج. املأ ذهنك إذن بفكر صالح. حتى إذا أتاك الشيطان يومًا بفكر رديء، لا يجدك متفرغًا له، فيبعد عنك. لا تترك عقلك في فراغ، خوفًا من أن يحتك الشيطان ويغرس فيه ما يريد.
ولذلك فالقراءة الروحية مفيدة لك جدًا، وكذلك أية قراءة عميقة. فإنها تشغل الذهن وتمنع الأفكار الرديئة عنه...
كُن مستيقظًا باستمرار، ساهرًا على نقاوة قلبك، فلا يسرقك الفكر الخاطئ دون أن يحس... فاطرد الأفكار في بادئ الأمر حينما تكون ضعيفة، وأنت لا تزال قويًّا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لأنك إن تركت الأفكار الخاطئة باقية فترة في ذهنك وتثبت أقدامها وتقوى عليك. وتضعف أنت ولا تقوى عليها.
اهتم بالفضيلة الروحية التي يسمونها استحياء الفكر... إذ يستحي الفكر من أن يخطئ، بينما هو أمام اللَّه الذي يراه ويسمعه في كل مكان وكل وقت.
ابتعد أيضًا عن مسببات الخطأ، عن العثرات التي تجلب لك أفكارًا خاطئة. ابتعد عن كل لقاء ضار، وعن كل معاشرة أو صداقة خاطئة، وعن كل القراءات التي تسبب لك أفكارًا دنسة، وعن كل السماعات والمناظر التي هي مصدر للفكر الخاطئ ومادامت الحواس هي أبواب الفكر، فلتكن حواسك نقية، لكي تجلب لك أفكارًا نقية. أمَّا إن تراخيت مع الحواس، فإنك تحارب نفسك بنفسك.
إن أتعبك الفكر وأنت وحدك، اهرب منه بالحديث مع الناس. لأنه ليس بالإمكان الجمع بين ما يقوله الناس وما يوحي به الفكر الخاطئ. واعلم أن الهروب من فكر الخطية أفضل من محاربته. لأنك حتى لو قاتلت الفكر الخاطئ وانتصرت عليه، يكون قد لوَّث ذهنك ولو إلى لحظات...
لا تخدع نفسك وتقول: "سأرى كيف يسير الفكر وكيف ينتهي؟" ولو من باب حُب الاستطلاع. لأنك تعرف تمامًا أن هذا الفكر سيضرك، ورُبما يُخضعك له.
أيضًا إن الأفكار الخاطئة إذا استمرت، قد تقودك إلى انفعالات وشهوات تكون أخطر لأنها تنتقل من الفكر إلى القلب، ومن الذهن إلى العاطفة.
وحرب الشهوات هذه، أود أن أحدثك عنها في مقال آخر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/453y6ha