بدأت معكم في مقالي السابق موضوعًا عن الوداعة. فتحدثت عن علاقة الوداعة بدماثة الخلق، فشرحت بعضًا من شخصية الإنسان الوديع، ورقته وهدوئه ولطفه واحتماله... ولكي نستكمل هذا الموضوع، علينا أن نتحدث عن نقطة أخرى هامة وهى علاقة الوداعة بقوة الشخصية، وبالذات بفضائل أخرى مثل الشجاعة والشهامة والنخوة والجرأة، وهل كل تلك الفضائل تتعارض مع الوداعة في رقتها وهدوئها؟...
إن الفضائل لا يناقض بعضها بعضًا، فهي تتكامل ولا تتعارض. وينبغي أن يفهم الناس معنى الوداعة في حكمة. فالمعروف أن الطيبة هي الطبع السائد عند الوديع. ولكن عندما يدعوه الموقف إلى الشهامة أو الشجاعة أو الشهادة للحق، فلا يجوز أن يمتنع عن ذلك بحجة التمسك بالوداعة. أما إن امتنع عن الموقف الشجاع، فلا تكون هذه وداعة حقيقة، إنما تصير رخاوة في الطبع، وعدم فهم للوداعة، بل عدم فهم للحياة الروحانية بصفة عامة. فالروحانية ليست تمسكًا بفضيلة واحدة تُلغى معها باقي الفضائل، إنما هي في ممارسة كل الفضائل معًا بطريقة متجانسة ومتعاونة...
إن الشخص الوديع الطيب الهادئ، ليس هو جثة هامدة لا تتحرك.. بل إنه- إذا دعته الضرورة – يتحرك بقوة نحو الخير ونحو الغير.. ولا يكون هذا ضد الوداعة في شيء. إنما عدم تحركه يكون نوعًا من الخمول، ويُلام عليه. وربما يصبح هزأة في نظر الناس...
فالوديع يمكن أن يدافع عن المظلوم، وان ينقذ المحتاج. هل إذا رأى شخصًا في خطر، معرّضًا للقتل من بعض الأشرار، ألا يهمّ بإنقاذه، أم يحجم عن ذلك مدعيًا أن الوداعة لا تتدخل في شئون الغير؟! وهل إن سمع فتاة تصرخ وهى تستغيث بسبب أشخاص يحاولون الاعتداء عليها، أتراه يبعد عن إنقاذها، أم هو بكل شهامة ينقذها، ولو أدّى به الأمر أن يدخل في عراك أو شجار... فهكذا يكون موقف الرجولة والفروسية. وهو لا يتعارض مع الوداعة في شيء...
إن الوديع لا يكون سلبيًا باستمرار، إنما يتخذ الوضع الإيجابي حينما تدفعه الضرورة إلى ذلك. فهو يشهد للحق ولا يمتنع. كما يتدخل لحل مشاكل الغير حين يكون في طاقة يده أن يفعل ذلك. ويكون حله للمشاكل في هدوء يتفق مع طبيعته، وفي حدود الواجب عليه.
من خصال الوديع أنه لا يتكلم كثيرًا. ولكنه في ذلك يضع أمامه قول سليمان الحكيم "لكل شيء تحت السموات وقت. للكلام وقت، وللسكوت وقت"... لذلك فهو يتكلم حين يحسن الكلام. ويصمت حين يحسن الصمت. وإذا تكلم يكون لكلامه تأثيره وقوته. وإن صمت تكون في صمته أيضًا قوة – ولكنه لا يصمت حين تدعوه الضرورة إلى الكلام، شاعرًا بأننا أحيانًا ندان على صمتنا...
هنا ونسأل: هل يمكن للإنسان الوديع الطيب القلب أن ينتهر ويوبخ ويؤدب؟ نقول: إن كان ذلك من واجبه، فلابد أن يفعل ذلك. فالأب له أن يؤدب أولاده، وإن لم يؤدبهم يجازه الله على تقصيره. وكذلك المدرس بالنسبة إلى تلاميذه، ورئيس أي عمل بالنسبة إلى مرؤوسيه. فكل هؤلاء يمكنهم أن ينتهروا ويوبخوا المخطئين، حفظًا على سلامة سير الأمور. ولا يكون ذلك ضد الوداعة... على أن يكون التوبيخ في غير قسوة، وبأسلوب عفيف لا تتدنى فيه الألفاظ عن المستوى اللائق. والمعروف أن الأنبياء والرسل كانوا يوبخون البعيدين عن طريق الرب لكي يقودوهم إلى التوبة. وما كان يتهمهم أحد بأنهم ضد الوداعة.
في موضوع الوداعة إذن، ينبغي أن نفرق بين الأشخاص الذين هم في وضع المسئولية، وبين الذين لا مسئولية لهم. فالذي هو في منصب الإدارة والمسئولية، له أن يأمر وينهى، بكل حزم لكي تستقيم أمور إدارته. ولكن ليس له أن يأمر في تسلط أو غطرسة، فهذا لا يتفق مع الوداعة. وهكذا يحتفظ بين الوداعة والسلطة. ولكن الإنسان الوديع العادي الذي لا مسئولية له، فإنه ينأى عن الأمر والنهى واستخدام السلطة.
كذلك فالشخص المسئول ينبغي أن تكون له هيبته واحترامه، لا في كبرياء، إنما لتوقير منصبه وشخصه أيضًا. ويمكن أن يجمع بين الوداعة والهيبة. فهو لا يكلم الناس من فوق، في تعالٍ بل في بساطة وحسن تعامل واحترام لمشاعرهم، دون الإخلال بوقار رئاسته. وهكذا فإن الشخص المسئول، يمكن أن يكون وديعًا، لا وضيعًا. وكبيرًا لا متكبرًا...
هل يمكن إذن للإنسان الوديع أن يغضب وأن يحتج دون أن يتعارض ذلك مع وداعته.
نعم، يمكن أن يغضب، ولكن في غير نرفزة (عصبية) لأن النرفزة هي ضعف في الأعصاب لا يليق بالوداعة. إنما الوديع في غضبه يعبر عن عدم رضاه، ويعبر عن ذلك في حزم وفي هدوء، بدون صخب أو ضوضاء... وهو في غضبه يعمل على تصحيح الأخطاء.
وله أيضًا أن يحتج، ولكن في أدب وبأسلوب يليق بوداعته. واحتجاجه يكون تعبير عن عدم رضاه.
إن الإنسان الوديع له إنسانيته الكاملة، وله حقوقه وعليه واجبات. وإن كانت الطيبة هي الصفة السائدة في شخصيته، إلا أنها لا تلغى باقي صفات الشخصية من الشجاعة والشهامة والجرأة والشهادة للحق. كما أن للوديع حماسة قد تظهر في حينها، وإرادة تحب أن تعمل. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). والطيبة عنده لا تعنى السذاجة، وإنما هي دائمًا تمتزج بالحكمة، وتسلك بالأسلوب الرصين في هدوء وبعد عن الضجيج.
فالوديع لا يهين أحدًا، وفي نفس الوقت لا يعرّض ذاته للمهانة.. وهو لا يرد على الإساءة بالإساءة، وأيضًا يبعد عن المسيئين ويتحاشى الخلطة بهم. وهو يحترم الناس، ويتصرف بما يدعوهم إلى احترامه. هو في مستوى مرتفع عن الخطأ. فبقدر إمكانه لا يقع في خطأ. أما إن أخطأ إليه أحد، فذاك يبكته ضميره ويبكته الآخرون.
لهذا كله لا نتناول الوداعة بأسلوب أنصاف الحقائق، بل نعرضها بحقيقتها الكاملة، سواء من جهة دماثة الخلق، أو من جهة قوة الشخصية أيضًا. وبهذا تتضح صورتها الحقيقية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/pc3rt8j