يرجع هذا الموضوع إلى قصة أرملة فقيرة وضعت فلسين في صندوق العطاء, أي بضعة ملاليم, بينما كبار رجال القوم وضعوا بالمئات, والسيد المسيح رأي هذه الأرملة الفقيرة في عطائها وقال: الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد أعطت أكثر من الجميع لأن هؤلاء من فضلتهم. ألقوا في الصندوق, بينما هذه قد أعطت من إعوازها.
حقًا إن الله ينظر إلى عمق العطاء وليس إلى مجرد قيمته, والذي يعطي من إعوازه من احتياجاته يدل علي عطاءه فيه الكثير من الحب, ومن تفضيل غيره علي نفسه بعكس الذي يعطي مما فضل عنه.
وفي هذا الموضوع أود أن أتأمل معكم شخصية من يعطي من أعوازه, سواء من جهة المال, أو إعوازه من جهة الوقت, أو من جهة الراحة والصحة.
† هناك مثل عظيم للذي أعطي من أعوازه من جهة الأبناء انه إبراهيم أبو الآباء والأنبياء الذي أعطاه الله أبنًا في شيخوخته ثم أمره أن يقدم هذا الابن محرقة علي الجبل, فأطاع ومضي به ليذبحه حسب أمر الله, لذلك باركه الله بركة عظيمة, وبارك نسله.
مثال آخر هو حنة أم صموئيل النبي وكانت عاقرًا, وصلت ونذرت أن الله إذا أعطاها نسلًا تكرسه لخدمته، وفعلًا عندما منحها الله ابنها صموئيل قدمته لخدمة الرب منذ أن استطاع السير علي قدميه, ويؤسفنا في هذه الأيام أن كثيرًا من النساء يبخلن علي الله في الموافقة علي تقديم الزوج أو الابن لخدمة الرب.
† مثل آخر ممن يعطي ممن إعوازه هو مثال من يعطي نفسه لخدمة الرب.. إذ يكون ناجحًا جدًا في خدمة العالم. ولكنه يفضل خدمة الرب وتكريس نفسه لذلك فيعطيه ذاته, التي لا يملك غيرها, ويترك كل شيء من أجله, انه بلا شك أعظم بكثير من الذي يعطي المال من الإعواز.
لاشك أن الذي عنده مال كثير ويعطي منه لخدمة المحتاجين, ولكن عطاءه لا يكون له عمق مثل الذي يعطي وهو محتاجًا إلى ما يعطيه.
كانسان يقول: إن مرتبي كله لا يكفيني فكيف أدفع العشور لله؟! حقًا انك ستعطي من إعوازك, لذلك سيبارك لك الله الباقي من مالك, فيكون أكثر من المرتب كاملًا.
† هناك وصية أخري من أيام موسى النبي هي وصية البكور, إذ كان الشخص عليه أن يعطي إبكار أو أوائل كل ما يأتيه من الخير سواء من النبات أو الحيوان, فالشجرة حينما تطرح ثمرًا, يعطي أولي ثماره لله, وكذلك إذا بهيمة أو شاه ولدت له, فيعطي أول نسلها لله, حاليا توجد أزمة بطالة للخريجين فإذا حدث ونال أحدهم وظيفة معينة طالما كان ينتظر ولكن حسب وصية البكور, فان أول مرتب يصل إليه من المفروض أن يقدمه للرب لخدمة الفقراء, ويعتبر هذا المرتب هو بكور إيراداته, وفي نفس الوقت عطاء, من الإعواز.
وبالمثل أول عملية جراحية يقوم بها طبيب, أو أول كشف أو علاج عليه أن يقدمه للرب وبالمثل علي كل مهندس أو مدرس أو محاسب أو محام أو صاحب مهنة, يقدم أول مكسب له لله, انه تنفيذ لوصية البكور, وفي نفس الوقت هو عطاء من الإعواز.
† ان الأمر باختصار يدل علي مدي محبة الإنسان للمال, أو ارتفاعه عن مستوي ذلك, بذلك فان مال الفقير الذي يقدمه لله, هو أكثر قيمة من مال الغني الموسر.
أتذكر بهذه المناسبة قصة أولوجيوس قاطع الأحجار, الذي يكسب في اليوم درهمًا واحدًا فيمضي في الغروب إلى مدخل المدينة, ليري أي غريب قد جاء إليها, فيستضيفه من درهمه هذا الواحد.
وأتذكر بهذه المناسبة قصة كاهن في الإسكندرية كان أقدم خدام الكنيسة الكبرى, وقابله في الطريق إنسان محتاج يطلب منه صدقة, ولم يكن في جيبه أي شيء من المال ليعطيه لهذا المحتاج, فاضطر أن يقترض من صاحب محل قريب, وما اقترضه أعطاه لذلك المحتاج لكي ينفذ وصية: "مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ" (إنجيل متى 5: 42؛ إنجيل لوقا 6: 30).
ومن الأمثلة الأخرى الأب الفقير الذي يعلم أولاده من أعوازه, أو ذلك الأب المريض الذي يفضل عدم شراء الدواء اللازم له, ويقدم ثمن ذلك الدواء ليغطي احتياجات أبنائه, فهل يذكر الأبناء عطايا آبائهم, التي أعطوها لهم من احتياجاتهم.
† نقطة أخري هي العطاء من إعواز الوقت: أنت ترجع إلى بيتك وأنت في غاية التعب ولسان حالك يقول: ثقل النهار وحرّه لم أحتمل بسبب ضعف بشريتي, وتريد أن تنام وتستريح, ولكن ماذا عن الصلاة؟ تقول ليس لدي أي وقت لها. أو قل بصراحة ليس لدي اهتمام بها أو إنك لا تريد أن تعطي من أعوازك من جهة الراحة.. أعط إذن من إعواز وقتك سواء لعمل الصلاة, أو التأمل أو القراءة الروحية, وأعط من قلبك أيضًا, واعلم أن الله سوف لا ينسي لك تعبك, أنه سيقويك، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.. أقول ذلك أيضًا من جهة الخدمة فلا تحاول أن تعتذر عنها مبررا ذلك بأنه ليس لديك وقت, بل أعط الخدمة من إعوازك في الوقت أيضًا, لا تحاول أن تبرر نفسك; بضيق الوقت مثلا وتذكر تلك العبارة المهمة التي تقول: إن طريق جهنم مفروش بالمبررات.
اعرف أن عبارة ليس لدي وقت, ربما يكون تفسيرها: ليس عندي اهتمام بذلك, فلا شك أن الشيء الذي تعطيه اهتمامًا, سوف توجد له وقتًا.
أيضا من جهة التربية المنزلية, الأب والأم مسئولان عن تربية ابناهما روحيًا وليس فقط من جهة الصحة والتغذية والملابس والتعليم, فهل يعتبر كل منهما أنه لابد أن يكون لديه وقت يقضيه في جلسة روحية مع أولاده يعلمهم طريق الخير والبر.
إنني في حضوري العيد الألفي لبناء الكنيسة في روسيا, شكرت الكنيسة علي حفظها للإيمان خلال سبعين سنة من الشيوعية, وشكرت أيضًا الأمهات والجدات اللاتي اهتممن بالأطفال وعلمنهم الإيمان وإعدادهم لذلك.
قدموا إذًا وقتًا ولو من إعوازكم لتربية أولادكم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y3p28fx