إننا نقول في (قانون الإيمان): "ننتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي"..
فبالقيامة ننتقل إلى السماء، إلى الدهر الآتي. إلى عالم آخر غير عالمنا الحالي فما هو؟ وما طبيعة الحياة فيه؟
لو كانت الحياة في الآخرة مثل حياتنا ههنا على الأرض، إذن ما هو الفرق؟! وما معنى النعيم الأبدي؟ وما معنى ملكوت السموات؟ وما هي المكافآت التي تعطى للمؤمنين الغالبين؟
طبيعي أن الحياة على الأرض، غير الحياة في السماء.
والحياة في هذا الدهر، غير الحياة في الدهر الآتي.
بل إننا نقول في صلاتنا بالمزامير "أنت يا رب تنجينا، وتحفظنا من هذا الجيل وإلى الدهر" (مز 12: 7).
لقد لخص السيد المسيح الحياة في الدهر الآتي بعبارة جميلة دقيقة موجزة قال فيها:
".. يكونون كملائكة الله في السماء" (مت 22: 30).
هنا عجيب شديد، وهنا الفارق الأساسي بين الدهر الحاضر، والدهر الآتي. بين هذا العالم المادي، والعالم السماوي الروحاني بعد القيامة.
الأشرار في الدهر الآتي، سوف يلقون في جهنم، في الظلمة الخارجية (مت 25: 30)، أي خارج مجمع الأبرار.
وحديثنا حاليًا هو عن حالة الأبرار في الدهر الآتي: كيف يجدونه؟
في الدهر الآتي سكون كل الأبرار معًا، في وحدة شاملة.
تجتمع كل الشعوب والأمم والبائل والأجناس، بلا تمايز بينها. لا تمايز من جهة الجنس أو اللون، لا خلاف عرقي ولا قبلي ولا قومي. الكل معًا في سلام، وفي وحدة القلب والفكر.
تبطل العداوات والحقد والحروب. ولا يكون صراع ولا منافسة..
الكل بلغة واحدة. أهي لغة الروح، أم لغة الملائكة؟
لست أدرى.. المهم أنهم سيفهمون بعضهم بعضًا، ولا يحتاجون إلى مترجم. بل لهم فهم واحد، ومفاهيم واحدة وفكر واحد.
تبطل الألسنة واللغات التي تميز مجموعة عن أخرى..
إن وجد تمايز، فإنه يكون في الدرجة الروحية.
وفى درجة المكافأة. لأن كل إنسان سينال جزاءه بحسب أعماله (مت 16: 27).
وطبيعي أن أعمال الناس على الأرض كانت متفاوتة في النوع والعمق والدرجة. فعلى هذا القدر تكون مكافأتهم في السماء أيضًا متفاوتة. ولكن الكل يكونون سعداء.
ويتكون المجتمع السمائي في الدهر الآتي، من الملائكة والبشر.
الكل يكونون معًا. وهنا نوع آخر من النعيم الأبدي، وهو عشرة البشر مع الملائكة بكافة درجاتهم وطغماتهم السمائية، ومعهم جموع الأنبياء والرسل، والشهداء والأبرار، في حفلة تعارف كبرى تضم الجميع..
حياة الدهر الآتي تتميز بالفرح الدائم.
لذلك يطلق عليها لقب (النعيم الأبدي). وكلمة (الأبدي) تعنى لا نهاية لها. فالدهر الحالي له نهاية. وحتى عندما تطول سني حياة إنسان على الأرض، تدركه الشيخوخة بكل ما فيها من تعب وضعف.
أما الأبدية فهي الفرح الدائم الذي لا ينقص ولا يهتز. إنه الموضع الذي لا حزن فيه ولا كآبة، ولا خوف ولا دموع، ولا عوز ولا فقر.
إنه يقدم أروع مثال لما حاول الفلاسفة يتخيلوه. كما كتبوا عن (المدينة الفاضلة) أو (مدينة الله).
في الدهر الآتي سوف يبطل عمل الشيطان وتبطل حريته، وينتهي الشر.
لا تكون خطية فيما بعد. لا تكون هناك أية شهوة بطالة، ولا أي فكر شرير. الدهر الآتي سوف يتميز بالطهارة الكاملة، وبحياة القداسة التي تشبه ملائكة الله في السماء..
وطبعًا سوف لا توجد حروب روحية من عدو الخير (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) يجاهد البشر في الانتصار عليها.
بل سوف يتمتع الجميع بنقاء تلقائي وصفاء في الروح والعقل. لخصه الكتاب في عبارة "إكليل البر" (2 تي 4: 8).
يتكلل البشر بالبر، أي تصبح طبيعتهم في حالة من القداسة غير قابلة للخطأ، ومنزهة عن كل شر.
في هذا الدهر نعيش في عالم مادي. فهل في الآخرة في الدهر الآتي، سنعيش في عالم مادي أيضًا؟!
هل سنعيش في ثقل هذا الجسد المادي وفي شهواته؟! وهل شهوات الجسد تتفق مع طهر السماء وقدسية السماء؟!
لا شك أن الجسد في السماء، سوف لا يكون كما هو حاليًا على الأرض. إنه ستخلص طبعًا من الجاذبية الأرضية.
محال أن تجذبه الأرض وهو في السماء!! وإلا فإنه يسقط من السماء إلى الأرض.
لذلك نؤمن أن الأجساد -في القيامة- ستقوم بطبيعة سماوية، لكي يكون هناك تجانس بينها وبين البيئة السماوية التي ستعيش فيها بعد القيامة. وهكذا يعلمنا الإنجيل أننا سنقوم بأجساد سماوية (1 كو 15: 49).
ستكون الأجساد في الدهر الآتي غير قابلة للتعب، ولا للمرض، ولا للموت ولا للتحلل، ولا للفساد. أجساد لها الطابع الروحاني (1 كو 15: 44، 53).
المتعة في السماء، ستكون غير المتعة على الأرض.
لأنه لو كانت المتعة في الدهر الآتي من نوع المتعة الأرضية، فما الفرق إذن بين مباهج الأرض ومباهج السماء؟! وماذا عن الذين جربوا كل أنواع المتعة الأرضية، وملوها وسئموها؟! وارتفع الأنقياء عن مستواها! هنا يقدم لنا الكتاب نوعًا أسمى من هذا كله، في قوله:
" ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9).
هنا إذن ارتفاع عن كل الأرضيات وكل الماديات، وكل الجِسْدَانيات. فكلها قد رأتها العيون، وسمعت بها الآذان. ولا يستطيع أحد أن يقترح أو يستنتج نوعًا آخر من المتعة، وإلا يكون قد خطر على بال إنسان!
وفى حياة الدهر الآتي، لا يوجد تزاوج ولا توالد.
فمن غير المعقول أن يولد إنسان جديد، ويجد نفسه في النعيم الأبدي دون أن تختبر إرادته ويثبت استحقاقه لهذا النعيم. حينما خلق الله آدم وحواء، كانا عريانين في الجنة وهما لا يخجلان (تك 2: 25). ما كانت الهوة الجنسية قد دخلت إلى طبيعتهما، ولا حتى مجرد معرفة الجنس والتمايز الجنسي.. لكنهما عرفا ذلك بعد الخطية والسقوط. فهل سيعود البشر إلى السمو الذي كان له قبل السقوط؟ أم سيبقى في عبودية (الجنس) وشهواته وضغطاته؟!
في الدهر الآتي سيرجع الإنسان إلى البساطة الأولى والنقاوة الأولى.
ولكن بوضع ثابت لا يتحول عنه ولا ينحرف.
حياة الدهر الآتي هي الشهوة الروحية التي اشتهاها القديسون.
واعتبروها انطلاقًا للروح من ضباب الجسد ورباطاته، ومن الحياة على المستوى المادي. حتى قال سمعان الشيخ "الآن يا رب تطلق عبدك بسلام حسب قولك" (لو 2: 29) كما قال القديس بولس الرسول "لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).
إذن حياة الدهر الآتي هي حياة الانطلاق من قيود الجسد والمادة ومن رباطات هذا العالم الحاضر.
إنها حياة الحرية الحقيقية، حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/s5dm59k