في هذا اليوم الخالد، يوم الجمعة الكبيرة، نقف وقفه تأمل هادئة، لنري أمامنا صورة عجيبة تجمع بين أمرين هما:
محبة الله وخلاصه العظيم.. في ناحية وجحود البشر وخيانتهم للرب.. في ناحية أخرى
كان الله في هذا اليوم، في عمق حبه وحنانه، وفي عمق جوده وإحسانه، يقدم للبشر فداء إلهيًا عجيبًا، مغفرة كاملة لكل ما صدر عن البشرية من خطية وإثم ونجاسة، وصفحًا كاملًا عن كل تعديتهم وعصيانهم وتمردهم.. حتى أنه قدم غفرانًا لصاليبه، ووعدًا بالفردوس للص اليمين. يقابل هذا الحب قسوة من البشر بلغت أقصي حدودها، وخيانة بشعة ما كان أحد ينتظرها.. ومع أنه كان هناك فرح في السماء، بالخلاص العظيم الذي منحه الرب للبشر، كانت -في نفس الوقت- ظلمة علي الأرض كلها!
كان كل شيء يبدو وقاتمًا حقًا..
الوثنية كانت سائدة في العالم كله. فماذا عن اليهود الذين أؤتمنوا علي أقوال الله وعلي وعوده. (رو 3: 2)؟ وماذا عن المدينة المقدسة التي تعبد الرب؟ وماذا عن هيكلها المقدس الذي تقدم فيه الذبائح والقرابين وتتلي فيه الصلوات والمزامير والتسابيح؟ وماذا عنى هذا الشعب الذي يفتخر أعضاؤه بأنهم أولاد إبراهيم "ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد" (رو9: 4،5).
للآسف، كانت أورشليم طوال هذا الأسبوع مركزًا للتآمر والدسائس. وكان كهنتها ورؤساء الكهنة فيما يخططون لأبشع جريمة في التاريخ.
كانوا يخططون لقتل الفادي العظيم الذي جاء لأجل خلاصهم! وكانوا يبحثون عن تهم يلصقونها بذلك القدوس الكامل، الذي بلا خطية وحده الذي قدم مثالية سامية لم يعرفها العالم من قبل.. كانوا يصيحون ضد القلب الكبير الحاني، الذي أحب الكل وأحسن إلي الكل.. باذلين كل قواهم للتخلص من المعلم الصالح الذي جمع الكل حوله.
حتى التآمر، وشهادة الزور، والحسد، والقسوة، وكل ذلك كان قد زحف إلي الكهنوت اليهودي في ذلك الأسبوع..
وإذا بمجمع السنهدريم العظيم، الذي يضم رؤساء الكهنة والشيوخ والقادة وأقدس شخصيات في اليهودية.. إذا بهذا المجمع يجتمع ليلًا ضد الناموس، ويبحث أعضاؤه عن شهود زور ليشهدوا ضد المسيح (مت 26: 60).. فلم تتفق شهاداتهم وأقوالهم.
وأورشليم المدينة المقدسة، مدينة الملك العظيم، لم تعد في تلك الفترة البشعة موضع مسرته..
بل أنه بكي عليها وهو يقول "يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هوذا بينكم يترك لكم خرابًا (مت 23: 37- 38) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). نعم، لقد كان الهيكل المقدس في ذلك الحين، مركزًا للتآمر والدسائس، وفقد قدسيته. وقد أراد الرب أن يطهره في أحد الشعانين. ولكن قاده اليهود لم يريدوا.
ومن يوم الأحد بدأ التآمر، وبدأت البشرية تظهر بشاعها.
كان ذلك منذ أن صرح الحسد الأسود في قلوبهم قائلًا: "انظروا، إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم كله ذهب وراءه" (يو 12: 19) وأمكن أغراء واحد من الاثني عشر، تلميذ الرب للأسف الشديد! وكان أحد البارزين، إذ كان الصندوق في يده، أو كان في قلبه. إنه واحد من الذين أختارهم الرب ليكونوا خاصية! ولكن خان سيده ومعلمه، وباعه بثلاثين من الفضة، بثمن عبد. ولم يستح بعد ذلك من أن يجلس معه المائدة، ويغمس لقمته في نفس صحفته، ليتحقق فيه قول الكتاب "الذي أكل خبزي رفع علي عقبه" (مز 41: 9)
وقوف أعداء الرب ضده، ربما كان أمرًا منتظرًا لا يدهش أحدًا. أما خيانة واحد من خاصته له، فكان أمرًا بشعًا.
وتزداد البشاعة أن هذا التلميذ يسلمه بقبلة! لذلك تذكارًا لقبلة يهوذا، واحتجاجًا عليها، تمنع الكنيسة التقبيل من عشية الأربعاء (يوم التآمر) إلي نهاية أسبوع الآلام. وكذلك فإن هى تذكارًا لهذا التآمر، تصوم الكنيسة يوم الأربعاء من كل أسبوع.. ما أبشع الصورة التي قدمتها لنا البشرية في هذا الأسبوع. ما أبشع معاملتها لمن أحبها وأتي لخلاصها! ومن أمثلة هذا أن اليهود الذين كانوا يركزون كل آمالهم في التخلص من حكم الرومان، والذين نادوا بالمسيح ملكًا يوم الأحد، لكي يخلصهم من حكم قيصر، عادوا في هذا الأسبوع يتملقون قيصر، ويهتمون المسيح بأنه ضد قيصر (لو 23: 2)، ويلجأون إلي بيلاطس الحاكم الروماني لكي يخلصهم من المسيح الرب ويقتله! فلما قال لهم بيلاطس في تعجب "أقتل ملككم؟!" ردوا عليه في هوان وصغر نفس، قائلين "ليس لنا ملك إلا قيصر" (يو 19: 15). كم كانت حينئذ مذلتهم، وكم كان كذبهم، في سبيل التخلص من المسيح مخلصهم، الذي نادوا به ملكًا منذ أيام!!
بل ما أعجب رفضهم أن يكتب علي صليبه عبارة "ملك اليهود" (يو 19: 21) مدافعين الآن عن قيصر الذي أذلهم، وملتمسين رضا ذاك الذي خلط دمهم بذبائحهم (لو 13: 1).
أن يهوذا لم يكن هو الخائن الوحيد في قصة الصلب.
ألم يكونوا خائنين أيضًا أولئك الذين صرخوا قائلين (اصلبه اصلبه) (دمه علينا وعلي أولادنا) (مت 27: 25)، هؤلاء الذين شفي المسيح مرضهم، وأخرج من بعضهم شياطين، وأطعم جياعهم، وصنع معهم معجزات لم يصنعها أحد من قبل.. وأخيرًا نسوا له كل إحساناته، وفضلوا عليه لصًا هو بارا باس..! (مت 27: 20) ولم يكتفوا بالاتهامات والشكاية إلي الحكام، إنما أشبعوه إهانات وسخرية وتهكمًا ولطمًا وضربًا وبصاقًا.. وكانوا يلطمونه قائلين "تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟ (مت 26: 68). كل هذا، ضد المسيح الوديع الطيب، الذي قال عنه الكتاب (لا يخاصم، ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت 12: 20، أش 42: 3). حقًا كم كان أبشع البشرية يوم الجمعة الكبيرة.
هذا عن العامة وعن الأعداء. فماذا عن تلاميذه؟
يكفي أنه تحقق فيه قوله "تأتي ساعة - وقد أتت الآن - تتفرقون فيها كل واحد إلي خاصته، وتتركونني وحدي،" (يو 16: 32) من كان يظن أن الأحد عشر القديسين يتركونه أيضًا وحده! ولكن هذا هو الذي حدث في بستان جثسيماني، في أشد أوقاته صراعًا عنا تركه أعمدة تلاميذه، أعني الثلاثة الكبار، بطرس ويعقوب ويوحنا، هؤلاء الذين قالوا لهم: "امكثوا ههنا واسهروا معي" (متي 26: 38). فناموا وتركوه. ومع أنه عاتبهم أكثر من مرة قائلًا (أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة)، إلا أنه في تلك الساعة الحرجة، "كانت أعينهم ثقيلة" (مت 26: 43). وعندما قبض عليه، نقرأ في الإنجيل عبارة مؤلمة هي:
"حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا" (مت 26: 65).
ومع أن هذا كان موفق البشرية - في أعلي قممها - من السيد المسيح، إلا أنه لم يغضب بسبب أن تلاميذه تركوه وهربوا، بل أنه هو أيضًا أراد لهم أن يمضوا حفظًا علي سلامتهم، لكي لا يصيبهم ضرر وقتذاك بسببه. فليفعل به الأعداء ما يشاءون، أما تلاميذه فليظلوا سالمين. وهكذا قال للجند الذين أتوا للقبض عليه: أنا هو. فإن كنتم تطلبونني، دعوا هؤلاء يذهبون. ليتم القول الذي أعطيتني لم أهلك منهم أحد (يو 18: 8،9).
وعندما وقف المسيح للمحاكمة، لم يقف معه احد.
لم يدافع عنه احد، وهو الذي دافع عن أشر الخطاة.. لم يوجد شجاع واحد يقول فيه كلمة حق. ولم يوجد شجاع واحد يحتج علي شهادات الزور.. وقبل السيد المسيح هذا الظلم، ولم يدافع عن نفسه. وفي فمه نبوءة إشعياء النبي عنه "قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (أش 63: 3).
والمؤلم أن تلاميذه لم يتركوه فحسب، بل قال عنهم كلكم تشكون في، في هذه الليلة. (مر 14: 37)
ما أقسى علي القلب المحب، أن يشك فيه محبوه، ومحبوه كلهم، وأن يجرح في بيت أحبائه (زك 13: 6). بل ما أقسى أن ينكره أحباؤه! من يستطيع أن يحتمل هذا ولكن السيد المسيح أحتمل أن ينكره بطرس ثلاث مرات في ليلة واحدة، أمام جارية، ويسب ويلعن ويجدف ويقول لا أعرف الرجل (مت 26: 70- 74). إلي هذا الحد المؤلم، وصلت البشرية يوم الجمعة الكبيرة.
الأعداء تآمروا وأسلموه للموت. والأحباء خافوا وتركوه وهربوا.
ووقف المسيح وحده، يحتمل خيانة الأردياء، ويحتمل ضعف الأحباء، ويشفق علي هؤلاء وأولئك. ويقول لله الآب "يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يريدون ماذا يفعلون". كان السيد المسيح هو النور الوحيد وسط هذه الظلمة البشرية. وقد قال للمتآمرين عليه:
"هذه ساعتكم، وسلطان الظلام" (لو 22: 53).
وكان الظلام يعمل بكل قوته. وبدأت النعمة تعمل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/8y5c8c9