1- انتقى الله من البشرية إبراهيم أبا الآباء، لكي يجعله نواة لشعب جديد، ينشأ بتربية إلهية خاصة، ويكون كمتحف حي للديانة الإلهية وللعبادة الحقة، وسط الشعوب الوثنية التي تملأ الأرض. ونظرًا إلى حالة البشرية المنحطة لم يثقل الله بوصايا صعبة على الشعب الناشئ المحاط فكريًا وعمليًا بألوان من خطايا الوثنيين.
وحتى في هذا الشعب المختار ظهر تعدد الزوجات أيضًا. لم يأمر الله به، ولكنه تسامح فيه: إذ كانت له ظروفه الخاصة من جهة، ومن جهة أخرى فإن المستوى البشري المعاصر لم يكن يسمح وقتذاك بالسمو الذي أراده الله للإنسان منذ البدء. لابد من سياسة تدرج يتخذها الله الرحيم الشفيق، لكي يأخذ بيد البشرية الساقطة، ويقودها خطوة خطوة إلى الوضع الإلهي الذي كان في البدء.
وكمثال لسياسة التدرج التي عامل بها شعبه تشريع الطلاق مثلًا: في البدء لم يكن هناك طلاق، ولكنه ظهر لما فسدت البشرية. فلم يلغه الله دفعة واحدة، وإنما تدرج مع الناس. تركهم فترة طويلة في حريتهم المطلقة، يستخدمون الطلاق بدون قيد ولا شرط. ثم قيدهم في الشريعة بكتاب طلاق يُعطى للمطلقة. ويقول القديس اوغسطينوس إنه "في هذا الأمر كان يظهر التوبيخ أكثر من الموافقة على الطلاق. فمن المعروف أن إجراءات قسيمة الطلاق كانت نوعًا من التعطيل، لأنه تستغرق وقتًا يراجع فيه الزوج نفسه. ومع ذلك فقد قال السيد المسيح لليهود "من أجل قساوة قلوبكم، أذن لكم أن تطلقوا نساءكم" (متى8:19).
إذن فلم يكن السبب أن الأمر كان يتمشى مع قصد الله، وإنما هو تنازل من الله ليتمشى مع ضعف الإنسان. وقد قال ذهبي الفم: "أن الزوجة المكروهة، وإذا لم يكن يؤذن بطلاقها، كان يمكن أن يقتلها الزوج، لأنه هكذا كان جنس اليهود الذين قتلوا الأنبياء (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)... فسمح الله بالأقل ليزيل الشر الأكبر... فيخرجوهن بدلًا من أن يذبحوهن في البيوت".
ولكن الله صبر على ذلك زمنًا، ثم وبخ الشعب علانية على الطلاق، مُظهرًا لهم كراهيته لهذا الأمر (ملاخي 16:2). وأخيرًا ألغى الطلاق في العهد الجديد، إلا لعلة الزنا، لأن هذه الخطية بالذات تكسر جوهر الزوج من أساسه، كما سيظهر ذلك عند كلامنا عن "الجسد الواحد".
تنازل الله إذن في تشريعه مع مستوى الناس، لكي يرفعهم تدريجيًا إلى المستوى الذي يريده لهم: سمح لهم بأكثر من زوجة، سمح لهم بالطلاق، سمح لهم بالتسري، سمح لهم برجم الزناة... كل ذلك لأنهم كانوا وقتذاك لا يحتملون السمو الذي أراده لهم.
وكان من غير المعقول أن يعطى الله الناس شريعة فوق مستواهم لا يستطيعون تنفيذها. ولذلك حسنًا وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين بقوله عنهم "يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس" (متى4:23).
وهكذا اختار الله نقطة بدء منخفضة تتفق ومستوى الناس، مع عرضه الكمال عليهم يختاره مَنْ يشاء ومَنْ يحتمل، دون أن يكون إجباريًا. ولكنه تدرج شيئًا فشيئًا في تشريع هذا الكمال حتى تم ذلك في المسيحية. وحتى في هذه أيضًا ترك درجات عليا من الكمال اختيارية، لأنه كما قال "ليس الجميع يحتملون" (متى11:19). غير أنه احتفظ في المسيحية بسمو للحد الأدنى.
من أجل هذا قال العلامة ترتليانوس "كل واحد يعلم الآن، أنه قد سمح لآبائنا -حتى رؤساء الآباء أنفسهم- ليس فقط بالزواج وإنما بتعدد الزيجات أيضًا، بل إنهم احتفظوا كذلك بسراري. ولكن على الرغم من استعمال الطريقة الرمزية في الكتاب في الكلام عن الكنيسة والمجمع، فإننا سنشرح هذا الإشكال في بساطة بقولنا إنه "كان من الضروري في الأزمنة الماضية، أن تقوم ممارسات ينبغي إبطالها فيما بعد أو تعديلها". بقي علينا أن نشرح لماذا كان ذلك ضروريًا في تلك الأزمنة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/4gpbx7j