لما إستولى المسلمون تحت قيادة عمرو بن العاص على الإسكندرية، دمروا أسوار المدينة وأشعلوا النيران في مُعظم الكنائس وبينها الكنيسة القديمة لمار مرقس حيث كانت رفات جسم القديس مدفونة. ويؤخذ من رواية الأنبا ساويرس أسقف الأشمونين أن رفات القديس خلصت بمعجزة إلهية لأنه بينما كانت النيران متأججة في الكنيسة دخل بحارة المراكب، ولما لم يجدوا هيكل جسمه في صندوقه رفعوا الأبسطة الثمينة الموضوعة عليه وفيها عثروا على رأس مار مرقس. والمؤرخ نفسه يقول بأن الذي أخذ رأس مار مرقس في أثناء الحريق نزل إلى البحر وأراد الإقلاع فلم يتيسر له ذلك، وعندما أدرك أن هذه معجزة إلهية فذهب إلى البطريرك بنيامين وأعطاه الرأس فأخذها باحترام ووضعها في صندوق من الأبنوس. وقد جاء في تاريخ يوحنا السمنودي بطريرك الإسكندرية بأنه هو الذي شيد كنيسة مار مرقس ثانية، وأحضر لها لوازمها ومات في هذه المدينة سنة 686م ودفن في الكنيسة التي انتشلها من الدمار.
وتحت حكم الحاكم أحد خلفاء الفاطميين وهو من الأمراء المُعادين للمسيحيين، وفى مدة البطريرك زكريا وجد أحد الأمراء الأتراك ولا يُعرف كيف رأس القديس مار مرقس. ولما سمع بأن المسيحيين يعلقون أهمية كبرى عليها ولكي يشتروها يعرضون فيها كل ما يمكنهم أن يقدموه. عزم على حملها إلى القاهرة. وقد حصل عليها عندئذ الشماس بيكيرا وكان أحد مستخدمي الحكومة وقتئذ مقابل 300 دينار. وذهب وقدمها للبطريرك حيث كان في دير القديس مقار مع كثيرين من الأساقفة وجم غفير من المسيحيين. هذه هي على الأقل رواية كّتّاب اليعاقبة (لأنه [قال الأب رينودوت].
لا يوجد شيء محقق روايات المؤرخين اليونانيين واللاتين بخصوص نقل بقايا القديس مار مرقس، وقد أحل كثيرون من العلماء رواية البندقيين بهذا الخصوص موضعًا من الشك).
وقد جاء في الكلام عن بطريركية كريستودول أن رأس القديس مرقس كانت محفوظة في منزل أبى يحيى بن زكريا، وقد مرض هذا مرضًا خطرًا فخاف المسيحيون بعد موته أن تأتى رجال الحكومة لوضع الأختام على بيته نظرًا لكونه أحد مستخدمي عز الدولة، لحفظ الأشياء الموجودة هنالك. ولذلك أخذوا الصندوق ليلًا وحملوه إلى بيت مجاور. وبعد مضى زمن رأوا أن المحل غير آمن فأرادوا نقله إلى بيت الأب مانهوب مؤلف هذا التاريخ، ولكن هذا الرجل الذي كان قبل ذلك بيسير من المقربين للسلطان رفض حفظ هذه الذخيرة الثمينة عنده التي عهدت حينئذ إلى قس يدعى سمعان. إلا أن رجلًا أفريقيًا اسمه على ابن بكير من أهالي برقة وقف على سرائر كل هذه المسألة ورفعها إلى الحاكم بخطاب فألقى كل الذين اشتركوا في هذا النقل في الحديد. ولما مثلوا أمام حاكم الإسكندرية كوكب الدولة أفهمهم أنه لابد لهم أن يردوا رأس القديس مرقس وأن يدفعوا مبلغ عشرة آلاف دينار التي كان يظن بحسب فكره أن اليونانيين كانوا مستعدين لدفعها ثمنًا لباقي الأعضاء.
وبد أن مكث أبو الفتح المؤلف 37 يومًا في الحبس مع الذين كبلوا في الحديد عزم أخيرًا على أن يدفع 600 دينار فأطلق سراحه بعد ثلاثة أيام، وردت بعدئذ رأس القديس إلى المسيحيين التي كانت موضع احترام وتبجيل بطريركية سيريل لاكلاك (كيرلس لقلق) أيام حكم السلطان كامل.
رأس القديس مرقس وجدت في منزل أولاد السكري حيث كانت قد اكتشفت من عدة سنين مضت.
وقد أخبرنا الأب فانسليب Johann Michael Vansleb بأمور عجيبة تختص برأس القديس عند وصفه ممارسة تكريس بطاركة الإسكندرية قال: (بعد أن يعتلى البطريرك الجديد على كرسي البطريركية يُقدم هذه الرأس إلى الموجودين لتقبيلها، ويستمروا مُعيدين ثلاثة أيام بعد ذلك، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ولما كان مركز الكرسي الإسكندري في الإسكندرية كان يُعيد أول يوم باحتفال كبير في كنيسة الرسل والثاني في كنيسة الملاك ميخائيل والثالث في كنيسة القديس مار مرقس وبعد انتهاء القداس يأخذ البطريرك الجديد رأس القديس ويغطيها ببرقع جديد مُظهرًا بذلك أنه صار خلفه وهو مستعد لإتباع تعاليمه).
ثم قال: (وقد فقدوا هذه الرأس أيام أن سبى المدينة العرب تحت أمر عمرو بن العاص. لأن أحد البحارة دخل ليلًا في الكنيس وفتح الصندوق ظنًا منه بأنه يحتوى على حلى ثمين، فوجد الرأس وأخذها إلى مركبه. وبعد يومين رفعت مرساها للسفر مع بقية المراكب، ولكن تعذر إقلاعها مع أنها كانت كسائر المراكب الأخرى. ولما وصل الخبر إلى عمرو جاء إلى المركب ووجد بها هذه الرأس، وفى الحال أخذها إلى البر فسارت المركب. ولما ظهر للجميع بأن هذه البقايا هي التي كانت سببًا في ربط المركب، عاقب الأمير البحار بما يستحق لخيانته وكفره).
ثم قال: (وكتب الأمير خطابًا بعد ذلك إلى بنيامين بطريرك الأقباط وقتئذ وكان قد تقهقر إلى الصعيد خوفًا من العرب ينبئه فيه بالمجيء لرؤيته بعد أن أمنه على حياته. ولما حضر إليه ألقى بين يديه الرأس وقص عليه المعجزة التي حصلت، وأعطاه 10000 دينار مصري تساوى 10000 دوكا ذهبية من عملة البندقية لكي يبنى كنيسة احترامًا لهذه الرأس وسُميت بالمعلقة. وبعد ذلك الوقت كل البطاركة الذين رسموا اعتادوا على وضعها أمامهم وقت التكريس مغطاة ببرقع جديد وتقديمها للشعب لتقبيلها، ولكن في هذه الأيام لعدم وجود الرأس عندهم لم يمكنهم الاستمرار على هذه العادة).
وتجد في أحدث الكتب التاريخية البولاندية قطعة من الغرابة بمكان تخبرنا بأي طريقة وفى أي زمن نقلت بقايا القديس مرقس وهاك مُلخصها (الإمبراطور ليون الأرمني الذي حكم من 813 لي 820 م. منع رعيته من معاملة مدينة الإسكندرية تجاريًا نظرًا لمتلائها بالمسلمين أعداء اليونانيين واللاتينيين. ومع ذلك فبعض التجار البندقيين كانوا مُلزومين بحكم العواصف والرياح أن يلجئوا إلى ميناء الإسكندرية فيمضوا فيها بعض الزمن ريثما يتمكنوا من استئناف المسير.
وفى ذلك الحين عزم سلطان مصر على تشييد قصر فخيم له في قاعدة مُلكه فأمر برفع العمدان وألواح الرخام المزينة بها الكنائس وباقي الأثارات ليقيمها في قصره. وقد هدمت كنيسة مار مرقس الموجودة ببوكالي بالقرب من شاطئ البحر كغيرها، وأخذت أعمدتها وأحجار الرخام الموضوعة بها حول قبر الرسول، وأرسلت إلى مصر رغمًا عن معارضات وتوسلات البطريرك وإكليروس المدينة. وفى هذه الأثناء فكر التجار البندقيين في مشروع خطير وهو أخذ بقايا القديس الذي هو عندهم موضع احترام وتبجيل كي يذهبوا كل يوم للسجود أمام قبره.
ولما رأوا أن في استعمال القوة هياج الشعب المسيحي ضدهم عزموا على إرساء حراس قبر القديس بقولهم أن يقاياه ستحفظ في بلد مسيحية وتكون موضع احترام وتعظيم ساكنيها بدلًا من تركها في بلدة قد لا تمكث بها طويلًا بل تلعب بها أيدي الكفرة، وأما عندهم فيمكنهم أن يحرصوا في المحافظة على بقايا القديس حيث يكونون في مأمن من كل طارق. وقد أقتنع الحراس بهاته الوعود والأقوال، وسلموا بقاياه إلى هؤلاء التجار. ووضعوا جثة أحد القديسين مكانها فأقلع البندقيون بالجثة إلى إيطاليا، فعندما وصلوا إلى البندقية عرضوا الجثة على حاكم المدينة الذي وضعها في كنيسة قصره ريثما يتمكن من تشييد معبد يليق بهذه القديس العظيم. وهذه هي المدينة التي أُسعدت بامتلاك تلك البقايا المقدسة. فكنيسة البندقية تحيي ذكرى ذلك النقل في أوائل شهر فبراير. والشكر لله دائمًا سرمدًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/bswtj38