إنَّ تعبير ”الحياة النُّسكية ascetical life“ يعني المنهج النُّسكي في الحياة والذي يتضمن ضبط النَّفْس في الأكل، السهر، الصمت، عدم الرَّاحة، الطاعة، التلمذة، إلخ... وأساس هذه الحياة النُّسكية مُتأصِل في العهدين القديم والجديد، وتظهر عناصر الحياة النُّسكية في كِتابات الآباء الرَّسوليين بالترتيب التالي:
1) تحديد أيام مُعيَّنة للصوم.
2) تحديد ساعات مُعيَّنة للصلاة. (25)
3) عدو الزواج، وخاصَّة الزيجة الثَّانية. (26)
4) جحد العالم، أي العالم المادي.
وفي المصادر الرَّهبانية الأولى، تتماثل الحياة الرَّهبانية كثيرًا مع ”النُّسْك“ الذي يعني ”تدريب - مُمارسة - تمرين، إلخ..“ ويُستخدم هذا المُصطلح في النصوص الآبائية للدلالة على الحياة الرَّهبانية والنُّسْكية ومُمارستها (27)، ويُدعى الرُّهبان ”نُسَّاك“ أي هؤلاء الذين تركوا العالم وعاشوا في عفة وبتولية وحياة فقر زاهدة (28)، وقد كانت هذه الكلمة تُستخدم في الأدب اليوناني عادةً للإشارة إلى ”الإنسان الذي يتدرّب أو يُمارِس إحدى الفنون“ والراهب بحسب تعريف القديس يوحنَّا الدَّرجي هو ”ذاك الذي في جسده التُرابي يُجاهد ليبلُغ رُتبة وحالة الكيانات غير الجِسدانية، الراهب هو ذاك الذي يضبط طبيعته تمامًا ويُلاحظ حواسه على الدوام... الراهب هو نفس حزينة مشغولة في نومها ويقظتها بغير انقطاع بذِكْر الموت“. (29)
وهذا التعريف يُردِّد بوضوح صدى أفكار النُّسَاك الأوائِل، كما عبَّر عنها أنبا زكريا حينما قال أنَّ الراهب هو الذي يغصِب نفسه في كلّ شيء (30)، وهكذا يُمكننا أن نرى كيف كان للنُّسْك دورًا أساسيًا وجوهريًا في الحياة الرَّهبانية.
وكانت أتعاب الجسد وجهاداته هي الثمن الذي يدفعه الراهب لأجل نوال عطايا الروح القدس، ولذلك تُوضح ”الأقوال“: ”اعطِ دمًا وخُذ روحًا“ (31) فهذه الأتعاب هي وسائل نوال الفضيلة، أو بالأحرى هي وسيلة للبلوغ إلى هدف الرهبنة، لأنها تُنقي القلب والذهن وتجذِب النِعمة الإلهية. (32)
لكن الحياة النُّسكية لم تكُن قط هدفًا في ذاتها، فالنُّسْك ببساطة هو مُساهمة من الجسد في جهاد النَّفْس وسعيها لبلوغ غايتها وهدفها، كما شرحه القديس إيسيذروس الفرمي (انظُر كتابنا ”إيسيذروس الفرمي“ -الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة- إخثوس ΙΧΘΥΣ ) في إحدى رسائله، وإذ كان بعض الرُّهبان يتخذون من النُّسْك هدفًا في ذاته، كان الأدب النُّسْكي يُحذِّرهم دومًا مُوضِحًا أنَّ قيمة النُّسْك نسبية فقط (33)، وعلى سبيل المثال، عندما وجد الأنبا ثيؤدوروس أحد الأخوة يتفاخر في المجمع بأصوامه الشديدة قال له: ”خير لك أن تأكُل لحمًا في قلايتك، من أن تتفاخر هكذا وسط الأخوة“.
ويُميِّز الأدب الرَّهباني بوضوح بين النُّسْك الإلهي والنُّسْك الشيطاني، فالأوَّل يتصِف بالتعقُّل والاعتدال، بينما الثَّاني نُسْك بلا تفكير ولا تعقُّل ومُغالى فيه، ولذلك لا يقود إلى نقاوة القلب بل إلى الذاتية الشيطانية، وكان القانون الذهبي للرُّهبان أن يتحاشوا كلّ التطرُّفات المُغالى فيها (34)، فمن الضروري أن يتلازم النُّسْك مع التمييز والإفراز الذي يُسميه نيلوس ”مصدر وأصل ورأس كلّ فضيلة“ والذي يُسميه صفرونيوس الأورشليمي (تنيَّح عام 638 م) ”مَلِكة الفضائِل“، إذ أنَّ هدف النُّسْك هو إماتة الأهواء الشهوات وليس قتل الجسد، كما قال الأنبا بيمن ذات مرَّة للأنبا إسحق ”لقد تعلَّمنا ألاَّ نكون قَتَلَة للجسد بل قَتَلَة للشهوات“. (35)
وعلى أيَّة حال، كانت المزية الكُبرى للحياة النُّسْكية أنها تسمح للراهب أن يحيا في شَرِكَة دائمة غير مُنقطِعة مع الله وذلك بتكريس دائم مُستمر لحياة الصلاة.
ولابد أن نوضح أنَّ العقل الرَّهباني، بخلاف فِكْر الغنوصيين أو المانيين، لم يُعتبر قط المادة شرًا في ذاتها، لأنَّ الله هو خالق كلَّ الأشياء، والثُّنائية اليونانية ”الخير - الشر“ لم تصِر قط إيمانًا في المسيحية الأُرثوذُكسية، فليس هناك شيء رديء، لأنَّ الله لم يكُن ليخلِق شرًا (36)، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. لذلك يجب ألاَّ يترُك الإنسان المُقتنيات لأنها ببساطة شر في ذاتها، بل يجب أن يوزعها بتعقُّل وبلياقة لأنها يُمكن أن تكون أدوات للخطية.
كذلك لم يرفض الرُّهبان إمكانية الخلاص خارج إطار النُّسْك الرَّهباني، وكثيرًا ما كانت الملائكة تتراءى للرُّهبان لتُخبرهم أنَّ بالرغم من أنهم يعيشون حياة نُسكية لسنوات طويلة في البريَّة، إلاَّ أنهم لم يبلُغوا بعد القامة الروحية التي لبعض المؤمنين العاديين الذين يعيشون في العالم. (37)
لقد كان النُّسْك تربية جسدية سلبية، تهدِف إلى إضعاف الجسد الفاسد بالخطية وتنقيته وإعداده للقيامة، وكان الرُّهبان يُؤمنون أنه ”بقدر ما يضعُف الجسد، بقدر ما تزهر النَّفْس“.
ومن الناحية الأخرى، أكَّد القديس باسيليوس أنَّ الرَّاهب يجب أن يحتفظ بجسده في حالة صحية جيدة وإلاَّ لن تستطيع النَّفْس أن تُعايِن الإلهي.
وهكذا... رغم أنَّ أحدًا من آباء البريَّة لم يفرِد كِتابًا خاصًا عن التربية، إلاَّ أنه من البيِّن أنهم كانوا واعيين تمامًا بالمفاهيم التربوية، وكان لهم أفكارهم ورؤيتهم الخاصَّة لها، وهذه الآراء والأفكار تتماثل في مناح عديدة مع آرائنا وأفكارنا، وعلى أيَّة حال، قدَّموا عاملًا جديدًا في تشكيل الشخصية الإنسانية ألا وهو النِعمة الإلهية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/sy8y7nf