وننتقِل لشمال أفريقيا، إلى قرطاچنة حيث تطور عِلْم المارتيرولوچي، على يد القديس كبريانوس الأسقف والشهيد الذي كتب مقالة مُعنونة ”الحث على الاستشهاد“ مُوجهة إلى فورتوناتوس Fortunatus، يقول فيها ”نحن الذين – بسلطان من الرب – منحنا المؤمنين العِمَاد الأوَّل، علينا أن نُعِد كلٍ منهم للعِمَاد الثاني بحثُّهم وتعليمهم أنَّ هذا العِمَاد أعظم في النعمة، وأسمَى في القُوَّة وأرفَع في الشرف.. بمعمودية الماء ننال غُفران الخطايا، وبمعموديِة الدم نظفر بإكليل الفضائِل، إننا على أبواب حرب قاسية وشديدة، وعلى جنود المسيح أن يُعدِّوا ذواتهم لها بإيمان حي وشجاعة قوية، واضعين في اعتبارِهِم أن يشربوا يوميًا كأس دم المسيح حتى يُمكنهم بذلك أن يسفُكوا دِمائهم لأجله“.
ويستطرِد الشهيد كبريانوس فيقول ”أنَّ العذابات في أزمنة ضد المسيح، تستلزِم أن نُعِد لها قلوبنا ونُشجِع نِفوس الأُخوة لكي نكون جميعًا مُستعدين للنِضال السماوي الروحاني، فليثبُت إيماننا ولنتسلَّح بكلمة الله، ومن واجبي أن أُعِد شعب الله الذي ائتمنني عليه ليكون كجيش في المُعسكر السمائي ليُواجهوا سِهام وأسلحة إبليس، ولا يمكن لمن لم يتمرن على القِتال أن يكون جُندِيًا صالِحًا للرب أو أن يفوز بإكليل الجِهاد، ها أنا أُرسِل لكم ثوب الأُرجوان الذي للحَمَل الحقيقي الذي فدانا وأحيانا، لكي تفصَّلوه لأنفُسكم فيصير ثوبًا خاصًا بكم، حتى يتغطَّى عُرينا القديم بثِياب المسيح: ثياب تقديس النعمة السمائية“.
استجيبوا لبوق الحرب، لقد أخذنا بتدبير الرب المعمودية الأولى، وليكُن كل واحد منا مُستعِد للمعمودية الثانية أيضًا، معموديِة الدم، أنَّ نِعمِتها أعمق وقُوَّتها أعظم وكرامِتها أثمن، التي يتمجد بها الله والمسيح، التي ننال بها إكليل كل الفضائِل، وقد صار المسيح رب المجد مِثال لنا في احتماله الآلام حتى الموت!!
فلا يوجد عُذر لإنسان يرفُض التَّألُم لأجله، وإن كان هو قد احتمل كل ذلك بسبب خطايانا فكم أحرى بنا جدًا أن نحتمِل بسبب خطايانا!!
الروح القدس يُعلِّمنا أنه لا ينبغي أن نخاف من جيش الشيطان، وأنَّ رجاءنا هو في إعلاننا الحرب ضده، لأننا بذلك ننال السُكنى الإلهية والخلاص الأبدي، ولا يوجد أعظم من وعد الرب لنا بالأمان والحِماية، فإن كنا نحيا بقلوب مُكرسة حقًا لله، فلنقبل أن ندخُل نفس امتحانات آلام الشُهداء، وجزاؤُنا يفوق بلا قياس آلامنا إذا قهرنا الشيطان ورجعنا إلى فردوسنا مُنتصرين... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). نُقدِّم لله إيماننا، إيمان غير فاسِد غير مُتزعزِع وفضيلة واسعة راسِخة، وقلبًا مُقدسًا، فنجلِس ونصير شُركاء ميراث المسيح ونفرح بامتلاكنا للملكوت السمائي.. فالاضطهاد يُغلِق أمامنا الأرض ويفتح أمامنا السماء، ضد المسيح يُهدِّد ولكن المسيح يضُم ويحمِل ويسنِد.
كتب القديس تحية للشُّهداء يقول فيها ”أيها البواسِل المغبوطُون.. إنَّ الكنيسة أُمُّكم فخورة بكم.. أيها المُتسربِلون بالبأس، عظيمة هي قُوَّة عزيمتكم وثبات أمانتكم حتى نهايِة المجد، لم تخضعوا للعذابات بل العذابات هي التي خضعت لكم واستعجلتكُم لنِيل الأكاليل..إنَّ المُتفرجين بإعجاب على تلك المعركة الروحية التي كانت بمثابِة سِباق نحو المسيح كانوا يرون خُدَّامه يُصارِعون دون أن يُغلبوا أبدًا، مُعترفين بإيمانهم بصوتٍ عالٍ!! مُمتلئين بحيوية وشجاعة تفوق قُدرِة البشر، بلا سلاح من هذا الدهر، إنما مُتوشِحون بأسلحة الإيمان، والمُحتمِلون العذابات كانوا يرون قِيامًا أكثر قُوَّة من الذين يُعذِّبونهم، الأمشاط الحديدية انتهت من الضرب والتمزيق، إلاَّ أنَّ الأعضاء المضروبة والمُمزقة انتصرت عليها..
عزيز هو الموت الذي يشتري الأبدية مُقابِل الدم، كم كان المسيح فَرِحًا وكم كان يسُرُّه أن يُحارِب ويغلِب في شخص خُدَّامه المُخلصين ويُعطيهم ما يشتهون أن ينالوه!! لقد كان حاضرًا في تلك المُسابقة التي أُثيرت لأجل اسمه، وأعان وسَنَد وقوَّى وبعث الحيوية، والذي غلب مرة الموت لأجلِنا ما بَرِحَ ينتصِر فينا“.
كشف لنا القديس كبريانوس عن مفهوم الألم والاستشهاد في ضوء الحياة الأبدية والتعلُّق بالسماء حيث مجد إلهنا وحيث لا تقِف أمامه خليقة صامتة، فكتب مقالة عن الموت (الموت Mortality) عندما اجتاح البلاد وباء الطاعون، وهو الذي أدركته الضيقات وعاصر الاستشهاد حتى قَبِلَ الموت بقلبٍ راضِ واثِق، وأحنى رأسه للسيَّاف وهو يشكُر الله، فارتجف السيَّاف من شدة إيمانه..
ويرى الشهيد كبريانوس: ”إننا وُضِعنا في معسكرٍ قاسِ، على رجاء نوال المجد السمائي، وعلينا أن لا نرتعِب من عواصِف العالم، ولا نهتز منها، لأنَّ الرب سبق وكلَّمنا عن كل ما سيحدُث لنا، وأوصى كنيسته وهيَّئها وشدَّدها لتحتمِل كل ما سيأتي... هوذا السماويات تحتل مكان الأرضيات، والأمور العظيمة بدلًا من التفاهات، والأبديات عِوَض الفانيات، فما الداعي إذًا للقلق والجزع؟!!“.
من يرى هذا ويرتعِب في حزن إلاَّ الذي بلا رجاء ولا إيمان؟!! فلا يرهب الموت إلاَّ ذاك الذي لا يُريد الذهاب مع المسيح.
إننا بالموت نبلُغ وطننا السمائي، الراحة الأبدية.. هذا هو سلامُنا وراحتنا الأبدية، ومن منَّا لا يتوق بالإسراع لنوال الفرح الأبدي لنذهب إلى دعوة المسيح لنا مُتهللين بالخلاص الإلهي.
وينتقِل الشهيد ليُحدِّثنا عن الاشتياق للاستشهاد فيقول ”عبيد الله يشتاقون للاستشهاد، يُدرِّبون الفِكر على أمجاد الثبات بالتأمُّل فيه للاستعداد للإكليل“.
ويتكلم القديس على الاستشهاد كهِبة إلهية ”الاستشهاد ليس من سلطانك، بل هو عطية من الله، فليس لك أن تعترِض إن فقدت ما لستَ مُستحِقًا له... فالله الدَّيان يُتوِج خُدَّامه الذين تهيَّأت أفكارهم " حياتهم " للاعتراف والاستشهاد " ولو لم يستشهِدوا " لأنه لا يطلُب دمنا بل إيماننا“.
ويذكُر القديس أيضًا كيف يكون تكريم الشُهداء وقيمة الشهادة العملية للإيمان... فيقول ”ينبغي أن نحمِل الشهادة باجتهاد، كما حملها الذين تحرَّروا من هذا العالم بُناءً على دعوة من الرب، لأنهم سبقونا كمُسافرين، وكبحَّارة اعتادوا على الإبحار، فنشتاق إليهم بعد أن أخذوا معهم إلى هناك الثوب الأبيض... ليتنا نستعِد لقبول إرادة الله الكامِلة بعقل رزين وإيمان ثابِت وفضيلة نشِطة.. ولا نُقاوِم الرب بل نأتي إليه متى دعانا بنفسه...
لنتحرَّر من فِخَاخ العالم، ونعود إلى الفردوس والملكوت.. إننا نتطلَّع إلى الفردوس كبلدنا والآباء (البطارِكة) كآباء لنا، فلماذا لا نُسرِع بل ونجري، لكي ننظُر مدينتنا ونُحيِّي آبائنا، فإنَّ لنا أحِباء كثيرين ينتظروننا، فأي سعادة تغمُرنا وإياهم عندما نجتمِع سويًا!!
هناك الشَرِكَة المجيدة مع الرُّسُل، هناك خورس الأنبياء المُتهللين، هناك جموع الشُهداء غير المحصيين، هناك جموع البتوليين الفائزين، هناك الرُّحماء مُكللين.. هذا هو شوقِنا العظيم، وهدف ذهابنا وإيماننا..!!“.
وفي رسالِة القديس (أل 76) التي يُحيِّي فيها الشُهداء الذين فازوا بأكاليلهُم، ويشجع الذين ما زالوا في السُّجون أو تحت التعذيب، وحُكِم عليهم بالعمل الشاق في المناجِم... كتب يقول:
”ها أنتم قد احتملتُم بصبر ضرب العصى، مُتهيئين بهذا التنكيل القاسي للاعتراف العَلَنِي بإيمانكم، صبرًا! فالعصاة الخشبية الصغيرة لن تُؤثِر بشئ على الجسد المسيحي، الذي وضع كل رجائه في الخشبة الكُبرى..
من سيندهِش أن يراكم، يا آنية الذهب والفضة، في المنجم، الذي هو مصدر الذهب والفضة؟ إلاَّ أنَّ الوضع هنا قد انقلب فبدل أن يُعطي المنجم الذهب والفضة نراه هنا قد تقبَّلهُما.
أقدامكم قد تقيدت بالأغلال، وأعضاؤكم المُباركة – يا هياكِل الله – تكبلت بالقيود، كما لو كان بتضييق الخِناق على الجسد يُمكنهم أن يُقيِّدوا الروح! أو كما لو أنَّ ذهبكم يمكن أن يعتريه الصدأ بملامسة حديد السلاسل!!
إنها أغلال مُباركة لن يفُكها حدَّاد بل الرب يسوع نفسه! إنها لقيود مُباركة فعلًا، تلك التي تجعلكم تسيرون قدمًا في الطريق المُستقيم المُؤدي إلى الفردوس! مرحبًا بكِ أيتها الأغلال العزيزة التي تُقيد لحظة في هذا العالم لتُحرِّر إلى الأبد في العالم الأبدي هناك عند الله، في المناجِم لا نجد الفِرَاش الذي ننعم فيه بقسط من الراحة، ويتعرَّض تنعُمنا وراحِتنا للعُري والبرد، لكن من قد لبس المسيح فقد تنعَّم بالكساء الكامل والوقاية الحصينة.. يا له من مجد وبهاء سيؤول“.
وأكَّد القديس كبريانوس في رسالته الشهيرة في وحدة الكنيسة (De Ecclesiae Unitate) على أنَّ الشِقاق والهرطقة من عمل الشيطان، وإنهما أشد خطرًا على وحدة المؤمنين من الاضطهاد..
وبعد أن كتب رسائِل كثيرة عن الاستشهاد، ذهب إلى ساحِة الاستشهاد وخلع ثياب الحبرية وأعطاها للشمامِسة وجثا على رُكبتيهِ مُصلِيًا، ثم طلب من أولاده إعطاء الجلاَّد 25 قطعة ذهبية... ووضع المؤمنون لفائِف ومناديل تحته ليتلقوا دمه الطاهر بركة لهم، ثم عصب عينيهِ بيديهِ وحاول أن يتعجَّل المُتباطِئ في تنفيذ الحكم، وانطلقت روحه إلى مسيحها لترِث نصيبها المُعَد لها مع الشُهداء..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2byn3sa