ثم جاء العلاَّمة أوريجانوس، الذي عاش في بيت له نفسية الاستشهاد، فقد أُلقِيَ القبض على لاونديوس أبيه ووُضِع في السجن، أمَّا ابنه أوريجانوس فكان يتوق أن ينال إكليل الاستشهاد مع والده، فمنعته أُمُّه من تحقيق رغبته بإخفاء ملابِسه.. فأرسل إلى أبيه يحثُّه على الاستشهاد قائِلًا له:
”إحذر أن تغيَّر قلبك بسببنا“
قُبِض على أوريجانوس سنة 250 م. في زمان الاضطهاد الذي أثاره ديسيوس، وأُلقِيَ في السجن ونالته عذابات شديدة، لكنه لم يستشهِد بل أُفرِجَ عنه، بعد أن وُضِع في طوق حديدي ثقيل ورُبِط بمقطرة أيامًا كثيرة.
كتب العلاَّمة أوريجانوس سنة 235 م. كِتابه ”الحث على الاستشهاد“، وقد أفرغ فيه خُلاصة اشتياقاته وخِبراته، وأرسله إلى صديقيهِ الحميمين أمبروسيوس وبروتوكيتس كاهن قيصرية، اللَّذينِ قُبِضَ عليهما، وطُرِحا في السجن، فوجَّه لهم مقاله Exhortatio Martyrium حث فيه على الاستشهاد وحذَّر من عبادِة الأوثان وقدَّم أمثلة للاستشهاد وتحدَّث عن وجوب الاستشهاد وأنواعه..
تكلَّم العلاَّمة أوريجانوس عن المُجازاة والجعالة المُعدَّة في السماء للمُضطهدين لأجل البِّر، وأشرك الطبيعة في فرحِة الشهادة لاسم الله، فوصف ابتهاج الملائِكة وتصفيق الأنهار بالأيادي وترنُّم الجِبال وتصفيق شجر الحقل بالأغصان من أجل الدفاع عن المسيحية...
اعتبر العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد الكامِل ليس فقط علانية بل في الخفاء أيضًا كشهادة ضمير وإماتة من أجل الله..
دخل العلاَّمة أوريجانوس إلى مُشاركة الشُهداء أتعابهم، وتلمذ كثيرين فصاروا شُهداء، إذ يقول: وُجِدَ وقت كان فيه الناس مُؤمنين بحق، حيث كان الاستشهاد هو عقوبة حتى لمن يدخل الكنيسة.. ووقفت الكنيسة كلها دون أن تتزعزع، وكان الموعوظون يتلقون التعليم الإيماني وسط الاستشهاد، ونظر العلاَّمة أوريجانوس للاستشهاد على أنه أحد البراهين على صحة الحق المسيحي واستمرار لعمل الخلاص...
رأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ غُفران الخطايا يستحيل بدون العِمَاد، لكنه أُعطِيَ للُمعمدين معمودية الدم. وكتب عن الأمجاد التي كلَّلت الكنيسة وسط الضيق، واصِفًا غلبة الشُهداء للعذابات واعترافهم بغير خوف بالله الحي، والأعمال البطولية العجيبة التي كانت للمؤمنين القليلي العدد، لأنهم بحق مُؤمنين يتقدمون في الطريق المُؤدي للحياة، موضحًا أنه لابد أن يكون استشهادهم بحسب مشيئة الله وبتبصُّر وصحو ورزانة، فالرب يُعلِّمنا أنه ليس بعدم بصيرة يذهب أحد إلى ساحِة الاستشهاد...
تطلَّع إلى الاستشهاد كواجِب كل مسيحي يرغب في الاتحاد بالله، ويشتاق للساعة، حتى أنه قال في محاورته مع هيراقليدس: ”أحضروا الوحوش، أحضروا صُلبانًا، أحضروا نارًا، أحضروا عذابات، لنستريح مع المسيح“، ورأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد مُؤسس على النموذج الأمثل للحياة كما حدَّدها الإنجيل.
ربط العلاَّمة أوريجانوس بين الاستشهاد وذبيحة الصليب، على اعتبار أنَّ ذبيحة الحَمَل لها انعكاسها في بذل دم الشُهداء الذين يبذلون دماءهم واعترافهم وغيرتهم على الصَّلاح، فالموت يُصبِح ثمينًا، ليس الموت العقيم غير المُثمِر في السماوات، بل ذلك الموت المُقدس من أجل الإيمان المسيحي.
رأى العلاَّمة أوريجانس ارتباط الشُهداء بالمسيح نفسه، وفي استشهادهم ضرورة للخلاص، وأنَّ كل من يبغى الخلاص ليسترِد روحه أفضل، يُقدم للموت، فكل من يحمِل شهادة يرتبِط مع من يشهد له ويصير واحدًا معه كالعريس والعروس، فالاستشهاد ذبيحة حُب مُرتبطة بذبيحة الصليب، لأنها ذبيحة غير مُنفصِلة عن ذبيحة المسيح نفسه..
وعن بركات الاستشهاد والاشتياق له يقول:
”من أجل المُكافأة أتمنى -لو كنت شهيدًا- أن أترُك ورائي أطفالًا وحقولًا وبيوتًا حتى يُمكنني أن أكون أبًا لأضعاف مُضاعفة من الأطفال القديسين، وأتمتع بهذه الأُبوَّة في حضرِة الله الآب“.
ويصِف العلاَّمة أوريجانوس نفوس الذين ماتوا على الإيمان بالمسيح، وهي في انطلاقها، كيف تسحق قُوَى الشياطين وتُحبِط كل مكائِدهم ضد الناس، ويُؤكِد قائِلًا: أنَّ قُوَى الشر تُعاني الانكسار بموت الشُهداء القديسين وكأنما صبرهم وحُسْن اعترافهم حتى الموت وغيرتهم على التقوى قد غلبت نِضال قُوَى الشر المُتآمرة على الشهيد، وأنهت قُوَّتهم وأضاعتها، وكثيرون ممن أسقطوهم وألقوهم أرضًا كانوا يرفعون هاماتهم حرة مُتحررة من وطأة قُوَى الشر التي جثمت على صدورهم وآذانِهِم... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). طالما انتفع الكثيرون من موت الشُهداء بقُوَّة لا يمكن التعبير عنها.
وفي عام 250 م. بدأ الاضطهاد في حبريِة البابا ديونيسيوس بابا الأسكندرية الذي قدَّم لمسات سريعة لشُهداء الإسكندرية في ذلك الوقت وكتب رسالته إلى دومثيوس وديديموس، ورسالته إلى فابيوس أسقف أنطاكية.
استبقاه الله ليُشدِّد الشعب أثناء الاضطهاد وفي المجاعات والأوبئة، وبالرغم من القبض عليه، إلاَّ أنَّ شعبه حمله من يديه ورِجله ودفعوه دفعًا داخل البطريركية.
وفي نهايِة كل اضطهاد كان يضُم المُرتدين، بعد أن كتب دِفاعات ورسائِل كثيرة، وهو الذي رأى أنَّ الاستشهاد في الدفاع عن وحدة الكنيسة لأفضل من الاستشهاد لأجل الامتناع عن عبادة الأوثان، ففي هذا مُحافظة على خلاص نفس واحدة وفي تلك مُحافظة على خلاص الكنيسة كلها..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/r89zyjj