الأمانة (أي الإيمان) هي أم كل عمل صالح، وبها يقتني الإنسان مواعيد ربنا وإلهنا يسوع المسيح، كما كُتب: "أنه بدون إيمان لا يمكن أن نرضي الله" (عب11: 6). أما عدم الأمانة فهي قنية مثمرة للمحّال (أي الشيطان)، وهي أم كل عمل خبيث، أن منها يتولد انقسام النفس الذي هو عدم الترتيب. والرجل المنقسم لا ثبات له في جميع طرقه: فإن خرجنا إلى القفر لا تستقر أرجلنا، وإن دخلنا إلى الأصقاع المسكونة نطوّب المتصرفين في القفر!
يا إخوتي، إن لم نزرع فكيف نحصد؟ إن لم نقدم الأثمار لمانح الثمر فكيف نستطيع أن نثمر؟ إذا لم نصبر على الحزن فكيف نجد الراحة؟ وإن لم نثبت في البرية فكيف نأخذ ثواب تغرُّبنا؟ وإذا لم نُؤدَّ المسكنة والضيقة فكيف نأخذ الغنَى الصادق؟ وإذا لم يحسن اختبارنا في الشتائم والكلوم والاحتقارات فكيف نتبع أثار السيد؟ فهكذا إذا لم نحتمل من أجل الرب أن نثبت في طاعة الشيوخ فإننا ننتقل من مكان إلى الآخر.
أولًا سبيل الإنسان أن يستعلم من أفكاره لماذا ومن أجل أي سبب يريد أن يترك موضعه الذي يسكن فيه؟ هل لأنه يريد أن يهرب من التعب فيطلب البرية الداخلية ظنًا منه أنه يجد هناك موضعًا خاليًا من التعب؟ أو أنه قد جُرح من الشيطان الماقت الخير بحسده له إن كان قد تقدم في نجاحه في الأمور المرئية، وهو لم ينل بعد مبدأها، ولهذا يؤثر أن يترك مكانه؟ أو لعله يطلب ذلك هربًا من عمل الفضائل؟ أو أنه لم يحتمل أن يثبت في الخضوع فيطلب التوحد؟ أو لعله يلتمس ميراثًا أرضيًا يروم من أجله أن يترك مكانه؟ فالأفكار توضَّح هذه الأمور إن استفحصناها وفتشناها، وعلينا إذا علمنا الألم الذي يؤذينا أن لا نتبعه، لئلاَّ نسقط في أيدي الشياطين الخبثاء.
افحص إذًا ذاتك بتدقيق إن كان الأمر الذي تفكرَّ فيه هو من أجل الله تمامًا أم أنه بقصد فاسد. لأن كل من يعمل أمرًا بلا مشورة يضاهي رجلًا يطارد برجليه طيورًا طائرة في الهواء، إذ يعمل الأمور التي يفكرَّ فيها بلا مشورة. أما الرأي الصالح فهو بحفظ وصايا لرب.
فماذا ينبغي أن نقول عن هذه الأشياء؟ إننا نحتاج، يا أحبائي، إلى التيقظ، لأن العدو يحارب اختيار الإخوة، فإن تنازل الأخ وارتضى أن يفارق الموضع، يحتال العدو أن يقتنصه بفخ في موضع آخر. ولكن إن طردنا الناس من أجل حسدِ، أو كلفونا أن نشارك أعمالًا غريبة فهربنا إلى موضع آخر، فلنا عندئذ دالة عند الله، إذ أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح يقول لتلاميذه: "إن طردوكم من هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى". أما عن عدم التنزه، فالمخلص قال أيضًا: "لا تنتقلوا من بيت إلى بيت"، وأيضًا قال: "أي مدينة دخلتموها أقيموا هناك"، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. أما إن أردنا أن نعمل مشيئاتنا فأية فضيلة هذه؟! فإن أفرزنا المتقدمون علينا (أي قاموا بتنحيتنا)، فلنمنح موضعًا (أي نتنحَّى ونحتمل) مقاومين المحَّال (أي الشيطان) بالأكثر، فهكذا عمل داود إذ كان يحارب القبائل الغريبة فإنه تنحى من وجه شاول.
وإن سكنت حسنًا في البرية، وألح عليك الفكر أن تنتقل إلى الأماكن المسكونة، فأجبه واصفًا له حرب العالم والنوائب العارضة للذين يسكنون هناك. وإن سكنت في الكنونيون حسنًا وحضَّك الفكر أن تدخل البرية، فأجبه مخبرًا بحربها وتعبها. وإن سكنت وحدك منفردًا وآذاك الفكر أن تدخل إلى مجمع إخوة، فأجبه واصفًا جهادات الذين في الأديرة.
لا ينبغي أن نتبع أفكارنا بلا تمييز، لأننا لا نعرف ما يوافقنا كما تقول الحكمة. فلا ترفع ذاتك بأي نفسك لئلا يؤكل ورقك ويضيع ثمرك، وتترك ذاتك كالعود اليابس، لأن الخلاص يكون في المشاورة الكثيرة.
ولكنك ربما تؤثر أن تقول: إننا من أجل الاضطراب ومن أجل الوقيعة نريد أن نهرب من هناك. احتمل إذًا، وأنا أشير عليك بكلمة: أتؤثر أن تهرب من السجس والوقيعة؟ ضع بابًا على فمك بالرب، وأردد عينيك لئلا تبصر الأشياء الباطلة، فبهذا تفلت من الأمرين كليهما: من الوقيعة بالسكوت، ومن السجس بتحفظ العينين. فإن لم نغلب هذين الأمرين فإننا أينما مضينا نصادف في ذاتنا الذين يحاربوننا. فاغلبهم أنت، يا حبيبي، فتكون لك راحة أينما جلست.
ولكنك ربما تقول إنه عُرف انقلاب رأيي ونيتي عند أخوتي كلهم، ومن أجل هذا فأنا لا يمكنني أن أجلس في هذا الموضع، لأنني قد اشتهيت الفضيلة لكن الناس الذين أسكن معهم هم يدينونني بفكرهم ويعيرونني. فاسمع الآن يا حبيبي، اعمل الخير فتبصر أن الرب يشفي ضميرك وضمير إخوتك من أوهامهم فيك. وإلا فكيف تحتمل أن تترك الموضع والإخوة مرتابين بما يتوهمونه فيك؟ أتهرب من تعيير الناس وتمضي إلى مكان آخر حيث تظن أنك تجد هناك من لا يذكر نقصيتك الأولى؟ بينما النبي يقول: "انتظرت نفسي التعيير والشقاء"، فالتعيير يوافقك جدًا واحتمال الاحتقار من الناس من أجل الرب يطهر الخطايا، ويقنعك بذلك النبي قائلًا: إنه "في تواضعنا ذكرنا الرب وفدانا من أعدائنا"(مز36: 23). فحيث طرحك المعاند هناك قم وصارعه، لكي الذين عرفوا مناقصك تظهر لهم تقويماتك، وبهذا تحظى من الرب بمجد عظيم. فإن مخلصنا يسوع المسيح يقول: "ويكون الأولون آخرين والآخرين أولين". لأنه حين يُغسل الثوب الوسخ لا يُترك بعد مع الثياب الوسخة، وإن كان أحد عن حسد أو غيره خبيثة يُسَمِّي النقي وسخًا فلا يصدقه أحد، لأن منظر الثوب يوبخه، إذ يقول: "تغسلني فأبيض أكثر من الثلج"!
أما الذين يضادونك (إن وجدوا) ويؤثرون أن يقبلوا فكرك، فالكتاب يقول: "ويل للذين يسقون قريبهم كدرًا" (حب2: 14)، الذين تركوا الطريق المستقيمة ليمضوا في سبيل الظلمة، المسرورين بالسيئات والمستبشرين بالرجوع إلى الرديء، الذين طرقهم معوجة ومناهجهم وعرة، ليجعلوك بعيدًا عن طريق الحق المستقيمة وأجنبيًا عن العزم المقسط (أي اللائق). فلذلك يقول الرب إنهم لا يجدون سنن الحياة، لأنهم لو كانوا سلكوا سبيلًا صالحًا لوجدوا طرق الصديقين الممهدة. لأن الصالحين يقطنون الأرض، وأعداء الناموس يُقصون منها. يا بُني لا تنسى شرائعي وليحفظ قلبك كلماتي. فإن المجد لإلهنا إلى الدهور آمين.
أيها العبد، أهكذا وعدت المسيح أن ترضيه وأنت لا تشاء أن تحتمل بشهامة المحن والغموم الآتية إليك من المضادين؟ ولا تريد أن تقبل التأديبات والضغطات من المتقدمين عليك؟ حيث يقول الرسول: "إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون" (عب12: 8). أضُربت، افرح لأنك ضُربت، أجُلدت بواجب، افرح لأن ثوابك جزيل،لأن الرسل الذين بشّروا العالم بالخلاص كانوا في كل مدينة يُضربون كفاعلي الشر، فلم يسخطوا ولم يغتاظوا، بل كانوا يُسرون لأنهم أُهلوا أن يهانوا من أجل أسم المسيح. فافرح أنت لأنك قد أُهلت أن تهان من أجل اسمه.
لعل أحد المتوانين يقول: إنني أحزن لأن هذا أصابني بعد هذه الأتعاب كلها! يا عبد الرب، أهذا يحزنك؟! أليس من هنا يمكنك أن تعرف ذاتك إن كنت بالحقيقة بعد هذه لسنين قد غلبت الآلام: وذلك إن كنت تُسرُّ بالهوان الذي يأتيك، ولا ينشغل فكرك بما هو حاصل لك؟ لأنه إن ظن أحد أنه شيء وهو ليس شيئًا فإنه يخدع نفس (غل6: 3).
إن مهارة الربّان إنما تظهر في أوان تقاطر الأمواج. فمن يتعظَّم ويقول إن لي مثل هذه السنين في سيرة العبادة بينما هو لم يقتن صناعة السيرة، يكون كمن يحضر أدوات ويرتبها وهو لم يتعلم الصناعة بها! هل شِخت في الإسكيم `cxhma وصرت كمن له خبرة بالسيرة التي تقدم ذكرها؟ صر مثالًا للشباب وللذين لا خبرة لهم. أما إن كنت غرسًا جديدًا بعد فاخضع للشيوخ، فإن جنود الملك الأرضي يخضعون لمدبريهم وقوَّادهم، ليس من أجل الخوف فقط، بل ومن أجل الضمير. فإن كان أُولئك المتجندون بجندية بشرية يظهرون كل حرص ليسترضوا الذين يطيعونهم،فكيف تحتمل أنت يا من جحدت هذه الحياة أن تواجه مثل هذه الآلام ولا تطيع ولا تخضع، بل تطرح التأديب في المسيح ملتمسًا المديح ومجد الناس الكاملين، وتهرب من الأتعاب التي من أجلها تكون الكرامات؟ لماذا تحتمل أن تضيع مثل هذا السكوت والتعب من أجل راحة يوم واحد أو ساعة واحدة؟! أهذا هو مديحك؟ أهذه هي نجابتك أن يعرض لك حزن يسير فتكفر بالإسكيم والسيرة، وتمنح العدو عليك سلاحًا بتوانيك؟!
يا أخي، لا تمنح المضادين ظهرًا، بل اغصب نفسك وقاتلهم فيهربون منك. لأنني أشعر أن الذي ارتضى أن يكون لك وسيطًا لا يُسر بالعيب الذي لك، لأنه سوف يعطي عنك جوبًا للرب. إنما هذا هو سروره: إن وقفت للرب كاملًا.
أيها الحبيب، عُد إلى ذاتك وارجع إلى راحتك. البس درع البر وتناول حربة الأمانة وضع عليك خوذة الخلاص وخذ سيف الروح الذي هو كلمة الله. صر مثالًا للوداعة في الآلام للإخوة الناظرين إليك، وليتعجب الذين هم أكبر منك نسكًا من صبرك، وليُسر الروح القدس الساكن فيك بشجاعتك.
أما إن كنت لا تحتمل المحنة، فكيف تحتمل العظمة؟ وإن كنت لا تقدر أن تغلب طفلًا، فكيف تصارع رجلًا كبيرًا؟ وإن كنت لا تحتمل كلمة؟ فكيف تحتمل كلومًا؟ وإن كنت لا تحتمل لطمة وجلدة، فكيف تحتمل صليبًا؟ وإن كنت لا تحتمل صليبًا، فكيف ترث المجد في السموات مع القائلين: "هذه النوائب كلها تقاطرت علينا فما نسيناك ولا غدرنا بعهدك"، وأيضًا: "من أجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا كغنم للذبح" (مز44: 17، 22).
أشاء أن أسكت، أيها الحبيب، من أجل خزي وجهي، لكن وجع قلبي يضطرني أن أتكلم. نعم، أيها الأخ الحبيب،إننا قد نسينا الأشياء التي احتملها سيدنا كلها من أجلنا. لقد شُتم ورُذل، وسمع القائلين له: "بك شيطان" فلم يسخط. سمع من قال له: "أيها المضل" فلم ينتقم. لُطم وأُهين وصُلب وذاق الخل مع المّر، وطعن بالحربة في جنبه، وهذه كلها احتملها من أجل خلاصنا.
ويلي أنا الشقي، ويلي أنا الخاطئ، فإنني بلا عذر. ماذا أقول وبماذا أتكلّم؟ أنت يا رب، تعرف خفيات قلبي، فاغفر لي اللهم أنا غير المستحق، لأني لا أُوثر أن أسمع شيئًا بالكلية، ولا كلمة واحدة، من أجلك! من يبكي على المقتني التورّع حجابًا للرزيلة؟ لقد ترهَّبت بالكلام، وأنا بأعمالي أُسخط الله. حقًا إنه من أجل تكاثر الإثم تفسد محبة نفوس كثيرة.
أتضّرع إليكم، يا إخوتي، أن نتيقظ لدى الرب، فإنه لا يطرح المؤثرين أن يخلصوا، بل يؤازرهم. ولنقل نحن مع النبي: "ارجعي يا نفسي إلى راحتك فإن الرب قد أحسن إليك، لأنه نَّجى من الموت نفسي وعينيَّ من الدموع ورجليَّ من الزلق، لأرضي الرب قدامه في أرض الأحياء" (مز116: 7-9). ولنؤهل أن نسمع القول: "إن أبني هذا كان ميَّتًا فعاش، وكان ضالًا فوُجدَ".
ولإلهنا المجد مع أبيه وروح قدسه. آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/92wzwzv