من الواجب أن نذكر أن هناك نقاط تشابه ونقاط اختلاف في عادات الدفن بين بلاد الشرق وبلاد الغرب، وكذلك بين إسرائيل في القديم والشعوب القديمة التي كانت معاصرة لها.
(1) الأسباب: يتم دفن الميت في بلاد الشرق بطريقة توحي باستعجال ملحوظ،فمن النادر أن يتأخر دفن الميت في سورية عن عشر ساعات من موته، والأغلب في أقل من ذلك. فسرعة تحلل الجثمان، ولوعة الحزن، ونفور الناس من بقاء جثمان الميت في المنزل، كل هذه العوامل تدعو إلى سرعة التخلص من الجثمان. ويتطلب هذا من الأحياء كما حدث في حياة إبراهيم عند دفنه سارة أن يتعجلوا دفن موتاهم من أمام أعينهم (تك 1:23-4)، وكما نجد في حالة سرعة رفع جسدي "ناداب وأبيهو" إلى خارج المحلة (لا 10: 4)، وسرعة دفن حنانيا وسفيرة (أع1:5-11). كما كان من الأسباب التي تدعو إلى الإسراع في دفن جثمان الميت، أن من يمس جسد الميت يتنجس.
(2) دفن الرب يسوع المسيح: تم دفن جسد الرب يسوع التزامًا بعادات اليهود والشريعة (تث23:21؛ غل13:3)، وقد ذهب يوسف الرامي إلى بيلاطس الوالي طالبًا جسد يسوع ليدفنه في يوم مماته (مت57:27-60؛ مرقس42:15-46؛ لو50:23-53؛ يو38:19-42).
(3) الوقت المعتاد للدفن: يدفن الميت في الغالب بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من الوفاة، ويدفن اليهود الشرقيون موتاهم في خلال أربع وعشرين ساعة، ولو حدثت الوفاة في الصباح، يدفن الميت قبل الغروب. أما إذا حدثت بعد الظهر أو بعد الغروب، فيدفن عادة في صباح اليوم التالي.
(4) واجبات الابن: عندما يلفظ المتوفي أنفاسه الأخيرة، يقوم الابن الأكبر أو من يليه قرابة في الحاضرين، بإغماض عيني المتوفي: "ويضع يوسف يده على عينيك" (تك 4:46). ثم يُقفل الفم ويُربط الفكّان:"ووجه ملفوف بمنديل" (يو 44:11)، ثم تعلن الوفاة بالنحيب والعويل والصراخ المدوي مع عويل الندابات (مر 5: 38).
(1) سرعة الاستعداد: تتم هذه الإجراءات بسرعة، وتحت سطوة التقاليد لا يمكن أن تتم بنظام دقيق، فيسجى الجثمان في النعش بكامل ملابسه، ويغطي بعباءة أو ملاءة ثم يحمل إلى القبر. ونقرأ عن "حنانيا" أن الأحداث "لفوه وحملوه خارجًا ودفنوه" (أع 5: 6)، فقد تعجلوا دفنه دون إقامة أي مراسم أو طقوس.
(2) شعائر الدفن: كان الدفن عادة يستغرق وقتًا أكبر، وله شعائر معينة، فكان هناك غسل الجثمان (أع 9: 37)، ودهنه بزيوت عطرية وأطياب (يو12: 7؛ 19: 39؛ مرقس 16: 1؛ لو24: 1). ولف اليدين والقدمين بمنديل من الكتان (يو11: 44)، وكان الجثمان يضمخ عادة بالعطور والأطياب لتأخير عملية التعفن، وهو ما صنعه أهل بيت عنيا مع لعازر عند موته، فقد خرج عندما ناداه يسوع من القبر ملفوفًا بأقمطة ووجهه ملفوفًا بمنديل (يو11: 44)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. وقد احضر نيقوديموس مزيجًا من المر والعود "نحو مائة منا. فأخذا (يوسف الرامي ونيقوديموس) جسد يسوع ولفَّاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا" (يو19: 39، 40). "وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطًا ليأتين ويدهنه" (مر 16: 1؛ لو24: 1).
وكان تضميخ الجسد بالأطياب عادة قديمة فالملك آسا مثلًا "أضجعوه في سرير كان مملوءًا أطيابًا وأصنافًا عطرة حسب صناعة العطارة"(2 أخ 16: 14).
وكانت إجراءات الدفن، يقوم بها عادة الأقارب والأصدقاء، وفي أغلب الأحيان تقوم بها النساء. وقد احتفظت لنا أساطير اليونان بقصة تؤكد مغزى أن يقوم القريب أو الحبيب بإجراءات الدفن، فقد عرفت أليكترابموت "أورستس" (Orestes) ووضع رفاته في أنبوبة، فبكته وندبته قائلة: "يا ويلتاه، لم تتمكن يداي من غسل جثمانك، بل قامت بذلك الأيدي الغريبة التي كفنتك وقامت لك بالمراسم، ثم أحضروك إلّى في قارورة صغيرة ".
(3) الاختلاف في العادات بين اليهود والشعوب الأخرى: نتوصل من ذلك إلى نقطتي اختلاف بين عادات الدفن عند اليهود وعادات الدفن عند الشعوب الأخرى:
(أ) اعتاد اليونانيون أن يحرقوا جثث موتاهم، وهو أمر لا يوجد له نظير عند اليهود. ويكتب تاسيتوس (Tacitus) المؤرخ عن الاختلاف بين اليهود والرومان في ذلك، فلربما كان اليهود يدفنون موتاهم بدلًا من حرقهم بدافع من التقوى، ولعل ما حدث مع شاول وبنيه الثلاثة حيث "أخذوا جسد شاول وأجساد بنيه... وأحرقوها هناك" (1 صم 11:31-13) كان لسبب طارئ وليس لعادة متبعة، حتى إن نفس الرجال دفنوا تلك العظام المحترقة:"وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة في ياببش" (1 صم 13:31). ثم عادوا حسب أمرداود الملك وأخذوها من أهل يابيش جلعاد "ودفنوا عظام شاول ويوناثان ابنه في أرض بنيامين في صيلع في قبر قيس أبيه" (2 صم 4:21). وكان الناموس يسمح بحرق أجساد الموتى في حالتين: حالة الذي يموت تحت لعنة كما في حالة عخان بن كرمي وأسرته فقد أحرقوهم بعد رجمهم (يش 25:7). وحالة المذنب الذي يمسك في خطية الزنا (لا 14:20؛ 9:21).
(ب) وكما لم يمارس اليهود عادة حرق الجثث التي كانت متبعة عند الإغريق، فإنهم أيضًا لم يمارسوا فن التحنيط الذي أتقنه قدماء المصريين، وتعتبر حالتا يعقوب ويوسف استثناء، لأنهما ماتا في مصر فحنطا كعادة المصريين. فعندما مات يعقوب كان يوسف ابنه هو الوزير المسئول، لذلك "أمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه" (تك 2:50)، وعندما مات يوسف "حنطوه، ووضعوه في تابوت في مصر" (تك 26:50).
(1) عندما تتم كل الإجراءات ويحين وقت الدفن يحمل الجثمان إلى القبر على محفة، لأن بني إسرائيل لم يعرفوا التوابيت قديمًا، ويوسف هو الشخص الوحيد الذي ذكر عنه أنه "وضع في تابوت"، هذا إذا لم يكن سرير آسا (2أخ 14:16) نوعًا من التوابيت كما يظن البعض. وتحمل المحفة على الأكتاف إلى القبر.
(2) الندابات المحترفات: يقوم الأهل والأصدقاء بعملية ندب الميت وبكائه، تقودهم في ذلك "ندَّابة" محترفة، حتى يرتفع ضجيجهم وعويلهم مدويًا مجلجلًا (جا 5:12؛ إرميا 17:9؛ عاموس 16:5)، فقد أشار عاموس النبي إلى النحيب الذي سيكون عند خراب إسرائيل:"في جميع الأسواق نحيب، وفي جميع الأزقة يقولون آه ويدعون الفلاح إلى النوح، وجميع عارفي الرثاء إلى الندب" (عا5: 16). ويقول إرميا: "تأملوا وادعوا النادبات فيأتين.. ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة، فتذرف أعيننا دموعًا وتفيض أجفاننا ماء" (إرميا 9: 17، 18).
(1) القبور المحفورة في الأرض: عند الوصول إلى القبر، تجري بعض الشعائر ثم يرفع الجثمان من فوق المحفة ويوسد الثرى، ثم تُهال كومة من الأحجار فوق القبر غير العميق، وذلك لحفظ الجثمان من الضباع وبنات آوي واللصوص. وكان اليهود يحفرون القبور في الأرض كما يجري الآن عندهم في أورشليم وفي كل مكان آخر.
(2) مقابر العائلة والعادات الحديثة: من المعتاد أن تكون لكل عائلة مقبرة، سواء كان كهفًا طبيعيًا يجهز برفوف حجرية توضع عليها الجثث، أو قبرًا منحوتًا في صخرة كبيرة تنحت في جوانبها عدة كوى، تكفي كل منها لوضع جثمان واحد. وقد يستمر الدفن فيها على مدى أجيال متعاقبة (تك25: 10، 49، 31؛ 50: 13؛ يش24: 32). فنقرأ عن مغارة المكفيلة (تك 23؛ 49: 31). وعن دفن يشوع في ملكه في تمنة سارح (يش24: 30)، وقد دفن صموئيل في بيته في الرامة (1صم25: 1)، ودفن يوآب في بيته في البرية (1مل2: 34). أما منسي الملك فقد دفن في بستان بيته (2مل21: 18). ويبدو أن يوشيا الملك دفن في المقبرة التي دفن فيها كل من أبيه وجده (2مل23: 3). أما "آسا" فقد دفن في مقبرته التي حفرها لنفسه (2أخ16: 14).
وطبقًا للعادات اليهودية، لم يكن لليهودي أن يبيع مقبرته طالما كان في قدرته الاحتفاظ بها. وقد أصبحت المدافن الآن جماعية، فتتجمع مقابر أصحاب كل ديانة من الديانات الثلاث في مكان واحد.
(3) الأحجار المختومة: عندما يكون القبر كهفًا أو منحوتًا في الصخر، يغلق مدخله بحجر دائري كبير يدحرج إلى فم القبر ليحكم غلقه، ويؤمن إغلاقه بواسطة شريط يختم عند طرفيه بالشمع، وبذلك يصبح من السهل اكتشاف أي عبث بالقبر. وقد ذهب رؤساء الكهنة يطلبون من بيلاطس أن يأمر بختم وضبط القبر الذي وضع فيه جسد الرب:" فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر" (مت27: 66).
(4) زيارة المقابر:هناك أوقات محددة في بلاد الشرق يذهب فيها أهل الميت وأصدقاؤهم بعد يوم الدفن إلى المقابر لبكاء الميت عند القبر، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. فمثلًا يذهبون إلى القبر في اليوم الثالث من الدفن، وفي اليوم السابع، ثم في الأربعين، وكذلك في الذكرى السنوية.
(5) الحزن المُفْرِط: في بعض الأحيان يؤدي الحزن المفرط ببعض المتطرفين إلى إحداث جروح في أجسادهم. وقد نهى الناموس شعب إسرائيل عن مثل هذا العمل: "ولا تجرحوا أجسادكم لميت" (لا19: 28؛ 21: 5؛ تث14: 1)، ولكن هناك بعض إشارات في الكتاب لمثل هذا الحزن المفرط (2صم1: 11، 12؛ مراثي1: 16؛ 3: 8؛ إرميا 9: 1).
(6) الأناشيد الحزينة (المراثي): هناك بعض إشارات فيالكتاب المقدس إلى هذه الأناشيد الحزينة، فعندما ذهب المسيح ليقيم ابنة رئيس المجمع من الموت نقرأ عنه:"ولما جاء يسوع إلى بيت الرئيس ونظر المزمرين والجمع يضجون" (مت9: 23؛ مر5: 38). كما يرسم لنا الكتاب صورة حية لجنازة يعقوب (تك50: 6-13).
ما زال الشرقيون يرون كما كان الأمر في القديم أن أي تقصير أو نقص في إجراءات الدفن يعتبر مهانة كبيرة، أو غضبًا من الله على الميت، لذلك كان عدم دفن الميت يعتبر أكبر كارثة يمكن أن تحل بالإنسان. وقد أشارالكتاب المقدس إلى ذلك كثيرًا، فمن أعظم صور المهانة أن يترك جسد الميت مأكلًا للوحوش (2صم21: 10، 11؛ 1مل13: 22؛ 14: 11؛ 16: 4؛ 21: 24؛ 2مل 9: 37؛ إرميا 7: 33؛ 8: 1، 2؛ 22: 18، 19؛ حز29: 5؛ مز79: 3؛ رؤ11: 9). فالجثمان الذي لا يواري التراب، لا يعتبر عارًا للأسرة فحسب، بل يجلب لعنة على الأرض، فلابد من دفن جثة أي إنسان حتى لو لم يكن له من يدفنه، بل يجب دفن جثث المجرمين (تث21: 22، 23).
أما الدفن في العهد الجديد فينظر إليه في ضوء رجاء القيامة، حيث ينظر إلى الموت باعتباره رقادًا (1تس4: 13). كما ينظر إلى الجسد نظرة احترام باعتباره هيكلًا للروح القدس (1كو6: 19)، وأنه سيُقام ثانية (1كو6: 13، 14). كما يجب على المؤمنين ألا يحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم (1تس4: 13).
كما يستخدم الدفن رمزيًا للدلالة على موت المؤمن ودفنه وقيامته مع المسيح كما تشير إلى ذلك المعمودية (رو6: 4، 5).
وقد كشف "سوكينك" (Sukenik) في 1945 عن قبر بين أورشليم وبيت لحم يرجع إلى نحو 50م، وجد به أحد عشر إناء بها عظام بشرية مكتوب عليها بالفحم علامة الصليب واسم شخص اسمه سمعان برسابا [ولا يوجد اسم برسابا إلا في (أع 1: 23؛ 15: 22) وقد يكون هذا أول دليل عملي على وجود الجماعة المسيحية في أورشليم. كما اكتشفت مقبرة على جبل الزيتون في 1954 م. بها عدد من هذه الأواني، عليها أسماء وردت في العهد الجديد مثل يايرس وسالومة ومرثا ومريم وسمعان بن يونا. وقد رسم على أحد الأواني رسم دقيق للصليب، وعلى إناء آخر الحروف الثلاث “I.X.B.” (وهي اختصار "يسوع المسيح الملك"). كما توجد على القبور في سراديب روما المشهورة، نقوش تعبر عن إيمان الكنيسة الأولى.
كانت المقابر العادية، تحدد مواقعها بكومة من الأحجار غير المشذبة. وفي بعض الأحيان كانت توضع شواهد أو أعمدة كنصب تذكاري للمتوفي (2مل23: 17؛ حز39: 15)، فقال (الملك يوشيا): "ما هذه الصُّوَّة التي أرى؟" ولا شك في أن هذه العبارة تشير إلى شاهد القبر. كما نقرأ أن يعقوب نصب عمودًا على قبر راحيل (تك35: 20)، كما أنهم أخذوا أبشالوم وطرحوه في الوعر في الجب العظيم وأقاموا عليه رجمة عظيمة جدًا من الحجارة" (2صم18: 17)، ولكن لم تكن هذه الرجمة للتكريم بل للإهانة والتحقير، كما في حالة عخان بن كرمي.
وكانت المدافن في العهد الجديد خارج المدن والقرى (لو7: 12؛ يو11: 30) كما كانت هناك مقابر عامة لدفن الغرباء (مت27: 7). وكانت في العهد القديم مقابر عامة في أورشليم لبني الشعب (إرميا 26: 23)، لعل مكانها الآن بين سور المدينة ووادي قدرون.
* انظر أيضًا: المبيت في المدافن.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/qmbh64d