← اللغة الإنجليزية: Wisdom / sapience / sagacity - اللغة العبرية: חוכמה - اللغة اليونانية: Σοφία - اللغة اللاتينية: Sapientia.
أولًا: الحكمة لغويًا:
تترجم كلمة "حكمة" ومشتقاتها عن الكلمة العبرية "حكمة" ومشتقاتها والتي وردت أكثر من 300 مرة في العهد القديم، أكثر من نصفها في أسفار أيوب والأمثال والجامعة (أنظر خر 3:28؛ 6:31؛ 26:35...؛ تث 6:4...؛ 2صم 14: 20...؛ 1مل 2: 6 ...؛ مزمور 37: 30؛ 51: 6...؛ أم 1:2، 7...؛ جا 1:13- 18..؛ إشعياء 13:10؛ 11:2...؛ إرميا 8: 9... إلخ.).
كما ترجمت الكلمة العبرية "سكل" שֶׂכֶל إلى "حكمة" (أم 23: 9) وإلى "معرفة" (أم 1: 3)، وإلى "تعقل" (أيوب 34: 35)، وإلى "فطنة" (1أخ 22: 12؛ أم 12: 8) وجميعها تؤدي معنى الحكمة.
وقد استعملت كلمة "حكمة" للدلالة على المهارة الفنية (خروج 3:28؛ 3:31؛ 35: 25)، أو للدلالة على المقدرة الحربية (إشعياء 10:13)، وللدلالة على ذكاء الحيوانات الصغيرة (أم 24:30)، أو للدلالة على الدهاء في الشر (2صم 13:3) أو في تنفيذ العدالة (1مل 2: 9).
ويعرَّف البعض "الحكمة بأنها فن الوصول إلى الغاية باستخدام الوسائل الشريفة". وتكتسب الحكمة بالخبرة، فتزداد حكمة الإنسان -عادة- بتقدمه في الأيام كما يقول أيوب: "عند الشيب حكمة وطول الأيام فهم" (أيوب 12:12؛ 15: 10؛ أم 16: 31). وقد يحدث أن يكون الشاب حكيمًا أو الشيخ جاهلًا (أيوب 32: 9؛ جا 13:4).
والرجل الحكيم في المفهوم الكتابي هو من يهتم بأمور الله بنفس الغيرة التي يهتم بها الآخرون بالأمور الدنيوية (لو 16:8). ويختلف الحكيم عن الأنبياء في كونه لا يوحَى إليه شخصيًا. كما يختلف عن الكهنة في عدم اقتصار موهبته على أمور العبادة فحسب. كما يختلف عن الكتبة في أنه لا يكرس نفسه تمامًا لدراسة الأسفار المقدسة. والكلمة نفسها لا تعني -بالضرورة- أن يكون "الإنسان الحكيم" إنسانًا متدينًا. أما في العهد الجديد وفي كتب الأبوكريفا المترجمة عن اليونانية، فإن كلمة "الحكمة" ومشتقاتها مترجمة دائمًا عن الكلمة اليونانية "صوفيا" (Sophia).
ثانيًا: تاريخها:
(1) كان لكلمة "حكيم" في زمن الأنبياء دلالة غير دينية، فقد كان شعب إسرائيل يشعر بأنه أقل من الشعوب المجاورة له ثقافة، ولكنه لم يكن يرى في ذلك نقصًا، فالقدرة العقلية بدون انضباط أخلاقي، كانت في الحقيقة ثمرة الشجرة المحرمة (تك 3: 5). وكانت الحكمة أساسًا شيئا تفتخر به الأمم (إش 10: 13؛ 12:19؛ 10:47؛ حز 3:28 - 5؛ زك 2:9) وبخاصة عند الأدوميين (أرميا 49: 7؛ عوبديا 8).
وهذه الحكمة الذاتية استوجبت الشجب (إش 51: 21؛ 29: 14؛ إرميا 4: 22؛ 9: 23؛ 18: 18).
كانت إسرائيل تسعى إلى اكتساب ثقافة خاصة بها، ولا شك أن سليمان قد أعطاها دفعة قوية في هذا الاتجاه (1مل 29:4 - 34)، لكن الأزمنة كانت شديدة الاضطراب، كثيرة المشاكل الأدبية مما كان يسبب ضغوطًا قوية لم تكن تسمح للاتجاه الروحي أن ينمي تعليمًا دنيويًا، لذلك اتخذت الحكمة في إسرائيل مفهومًا بغيضًا، هو مفهومهم عن مشيري البلاط الملكي الدهاة الذين يقدمون المشورة مختلطة بفكر الأمم (إش 14:28- 22). كما أن الربط بين كلمة "الحكمة" والديانة الحقيقية قليل جدًا (تث 4: 6؛ إرميا 8:8)، بينما توصف حكمة الأمم أحيانًا بالحماقة (تث 6:32؛ إرميا 4: 22؛ 9:8). لذلك لا يسعنا إلا الرجوع إلى فترة ما بعد السبي بحثًا عن كتابات الحكمة المرتبطة بالعبادة في إسرائيل.
(2) إن العوامل التي إنتجت "كتابات الحكمة" تشبه - إلى حد ما - تلك التي أنتجت "كتابات الكتبة"، فقد كانت الحياة في فلسطين حياة شقاء وكآبة بسبب وجود الغزاة، ولم تكن هناك مشاكل سياسية حين كانت البلاد في قبضة الفرس المحكمة، ثم أصبحت البلاد بعد ذلك أضعف من أن تلعب أي دور في الصراع بين إنطاكية والإسكندرية، وبدأت النبوة تختفي، بدا تحقيق رجاء مجيء المسيا أبعد من أن يكون له تأثير عميق على الفكر. ولم تكن الأحوال قد نضجت بعد لتوقد شعلة الحماس للرؤى. كما لم يكن في الأمة مشاكل دينية حيوية، حيث كانت عبادة الأوثان قد اندحرت واستقرت الإصلاحات الطقسية، وكانت الأعمال الفنية ممنوعة (سفر الحكمة 4:15-6)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ولم يكن المزاج اليهودي من النوع الذي يمكنه أن ينتج فلسفة تأملية [لاحظ الهجوم العنيف على ما وراء الطبيعة أي "الميتافيزيقا" في (سيراخ 3: 21- 24)]. وبدأت -بالتأكيد- العبقرية التجارية لليهود تثبت ذاتها في تلك الفترة، إلا أن هذا لم يرض ذوي الاتجاهات الدينية (سيراخ 28:26)، لذلك رجع الناس- من جهة- إلى سجلات وكتب الماضي، ومن جهة أخرى درسوا مشكلات الدين والحياة عن طريق الملاحظة الدقيقة للطبيعة والإنسان، وجاءت "كتابات الحكمة" نتيجة لهذه التأملات.
(3) تشمل أسفار الحكمة أيوب والأمثال والجامعة مع بعض المزامير [وبخاصة (مز 19؛ 37؛ 104؛ 107؛ 147؛ 148)] وبعض الأسفار القانونية الثانية وهي يشوع بن سيراخ، والحكمة وجزء من باروخ. كما تشمل كتابات الحكمة من ذلك العصر أجزاء من كتاب فيلون (Philo) والمكابيين الرابع وأسطورة أحيكار. ومن الصعب تحديد مدى تأثر هذه الكتابات بآداب الأمم الأخرى، فقد كان لمصر أدب الحكمة الخاص بها والذي لا بد أنه كان معروفًا -إلى حد ما- في فلسطين. كما أنه كان لبابل وفارس أثرهما أيضًا. ولكن ليس ثمة اقتباس معين من أي من هذه الثقافات. أما الثقافة اليونانية فكان لها أثر واضح في أدب الحكمة اليهودي، رغم اعتداد الكاتب اليهودي بنفسه، فقد كان في اليهودية حيوية تكفي لتفسير هذه الحركة دون الحاجة إلى تأثيرات خارجية. وعلى كل حال، فإنه من الخطأ بل من التعسف أن ننسب كل كتابات الحكمة إلى التأثر بالأدب اليوناني.
ثالثًا: الأساس الديني:
تتميز مجموعة كتابات الحكمة بالخصائص التالية:
(1) المقدمات عامة: وقد استقى الكُتَّاب من الحياة أينما كانت، مع التسليم بأن بعض الأمور، ربما تعلمها شعب إسرائيل من الأمم الأخرى، فهناك ثمة إشارة إلى أن أمثال لموئيل هي لكاتب غير يهودي (أم 31: 1). كما يشجع سيراخ تلاميذه على السفر إلى البلاد الأخرى (سيراخ 34: 10، 11؛ 39: 5). والحقيقة هي أن كل رؤساء الأرض إنما يترأسون بالحكمة (أم 16:8؛ جا 9: 14، 15)، كان يمكن للإنسان أن يجمع بعض المعرفة الصحيحة عن الله من خلال دراسته للظواهر الطبيعية (مز 19: 1؛ سيراخ 16: 29 - 17: 14؛ 42: 15 - 33:43؛ حكمة 13:2، 9؛ أنظر رومية 1: 20).
(2) وعلى أي حال تحتاج هذه الحكمة إلى عمل نعمة الله حتى تزدهر (سيراخ 13:51- 22؛ حكمة 7:7؛ 8: 21). وعندما يتكل الإنسان على قدراته الشخصية فحسب، فلا بد أن يخطئ (أم 3: 5- 7؛ 19: 21؛ 21: 30؛ 28: 11؛ سيراخ 5: 2، 3؛ 6: 2؛ باروخ 3: 15- 28)، فمركز الحكمة الحقيقية هو الله (أم 15: 33؛ 19:20، 21)، فمنه تنبع (أم 1:7؛ 9: 10؛ مز 111: 10؛ أي 28:28، سيراخ 21: 11)، وإليه تنتهي ([أم 2: 5) - راجع بصفة خاصة الفقرة الجميلة في (سيراخ 1:14- 22)]. فالطريق إلى الحكمة شاق جدًا (أم 4:2، 5؛ 4: 7؛ سيراخ 17:4؛ 22:14، 23؛ حكمة 1: 5؛ 17: 1)، ولا بد من الانتباه المستمر إلى كل نواحي الحياة، ولن يفرغ المرء أبدًا من التعلم (أم 9:9؛ جا 13:4؛ سيراخ 18:6).
(3) ويختلف الأمر بالنسبة للشريعة المكتوبة فهي لا تُذْكَر إلا قليلًا في أسفار أيوب والجامعة والأمثال (أم 7:28- 9؛ 18:29). ويتضمن سفر الحكمة -وهو سفر يحارب الوثنية- بعض الآيات القليلة عن الشريعة، لكنها تُبَيِّن التقدير الكبير للشريعة (حكمة 2: 12- 15؛ 18:9). أما ابن سيراخ فلا يجد من العبارات القوية ما يكفي لمدح الشريعة [وبخاصة الأصحاحين الرابع والعشرين والسادس والثلاثين (سي 24؛ 36)- انظر أيضًا (سي 2:21؛ 13) . إلخ)]، بل إنه يقول إن الشريعة هي الحكمة (سي 23:24- 25)، ويعتبر الأنبياء معلمين للحكمة (سي 44: 3، 4). إلا أن هذا التطابق الغريب، يكشف عن أن أقوال ابن سيراخ ليست نابعة عن دراسة متعمقة للشريعة، والحكمة الثمينة عنده لا توجد إلا في الكتب المقدسة (انظر باروخ 4: 1).
(4) وينطبق نفس الأمر على العبادة في الهيكل، حيث يبدو واضحًا التحريض على القيام بمتطلبات الشريعة (أم 3: 9؛ ابن سيراخ 35:4- 8؛ 38: 11) كما يبدو أنه كان لسيراخ اهتمام خاص بالكهنوت (سي 33:7- 35؛ 15: 5- 21). كما تقرر أسفار الحكمة أن تقديم الذبائح والصلاة لا يصلحان بديلاُ عن البر والاستقامة، بل بالحري مكرهة (أم 14:7؛ 15:8؛ 20: 25؛ 3:21، 27؛ 28: 9؛ سيراخ 34: 18- 26؛ 35: 1، 2، 3، 12؛ جامعة 1:5).
(5) من الملاحظ أن كتب الحكمة تكاد تخلو من الحديث عن الحياة بعد الموت، [ما عدا (سفر الحكمة 3: 1)]. ويبدو التأثير اليوناني في سفر الحكمة واضحًا. وتوجد في سفر أيوب أقوال تدل على الثقة واليقين (أي 13:14- 15؛ 19: 25- 29) لكن هذه الآيات لا تُشكل القضية الرئيسية في السفر، بينما لا يذكر سفر الأمثال شيئًا عن هذا الموضوع. كما أن رجاء الأمة قي مجيء المسيا يبدو خافتًا في (سفر الأمثال 2: 21، 22) ولا يظهر إطلاقًا في سفر الجامعة. أما في (سيراخ 35: 19؛ 36: 11- 14) وفي (الحكمة 8:3؛ 5:16- 23) فهو أمر هام.
(6) وغني عن البيان أن الفرد هو مركز الاهتمام في جميع هذه الكتابات. وعندما تجتمع هذه الفردية مع ضعف التعليم عن الأخرويات، ينتج غموض شديد في عقيدة الثواب والعقاب. ويتفق سيراخ تمامًا مع العقيدة القديمة بأن الثواب والعقاب إنما هما في هذه الحياة، فيقول إن الإنسان لا بد أن يعاقب كل خطاياه ولو على فراش الموت إذا لم يكن قد عوقب عليها من قبل (سي 1:13؛ 11: 29).
رابعًا: المثل العليا:
يمكن وصف منهج الحكمة إذًا بأنه منهج ديانة "طبيعية" فهو يحترم الوحي لكنه لا يفيد منه كثيرًا. فالمثل الأعلى هو إنسان يؤمن بالله ويسعى أن يحيا بحكمة يتعلمها من ملاحظة قوانين هذا العالم مع احترام لائق لفرائض إسرائيل التقليدية.
(1) الشخصية التي تتحقق نتيجة لذلك، شخصية تدعو للإعجاب من وجهات نظر عديدة. فالإنسان في أسفار الحكمة ذكي وجاد ومجتهد. ويبدي سفر الأمثال احتقارًا شديدًا للكسلان (انظر أيضًا جا 9: 10)، والكذب والظلم مرفوضان في كل صفحة -تقريبًا- من صفحات أسفار الحكمة، كما أن هناك تأكيدًا مستمرًا على ضرورة فعل الخير (مز 37: 21؛ 112: 5، 9؛ أي 22: 7؛ 16:31- 20؛ أم 27:3، 28؛ 14: 31؛ 13:21؛ 9:22؛ جا 11: 1؛ سيراخ 4: 1- 6؛ 36:7؛ 29: 11- 15؛ 24:40... إلخ.).
ويرى جميع كتَّاب أسفار الحكمة أن الحياة تستحق أن نحياها، بل وفي أشد لحظات التشاؤم، وجد كاتبا سفري أيوب والجامعة ما يشدهما إلى التأمل في العالم، بل نجد أن سفري الأمثال وسيراخ ينظران للحياة نظرة تفاؤل، وبخاصة في يشوع بن سيراخ، إذ يهتم بالأشياء الطيبة في الحياة (سيراخ 23:30- 27؛ 31: 35 - 27؛ انظر أيضًا جامعة 24:2؛ مع حكمة 6:2-9).
(2) إن عيوب المثل الأعلى في الحكمة هي عيوب بديهية، فالإنسان شديد الاهتمام بنفسه دائمًا، ويصد عن نفسه كل تطرف لئلا يؤخذ في الشرك (جا 16:7- 18) ويدقق دائمًا في أموره حتى مع أصدقائه (سيراخ 17:38؛ 6: 13؛ أم 17:25)، وكذلك في وسط أسرته (سيراخ 33: 19- 23)، ويحب فعل الخير في حرص وحذر (أم 6: 1- 5؛ 16:20؛ سيراخ 12: 5-7؛ 19:29)، لذلك اختلطت مفاهيم الصواب والخطأ مع المنفعة والخسارة، فالزنا ليس خطأ فحسب (أم 17:2؛ سيراخ 23:23)، ولكن الزوج المجروح هو عدو خطير (أم 5: 9- 11، 14؛ 34:6، 35؛ سيراخ 23: 21)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ولذلك تأثرت "النظرة الأخلاقية" فمع أسمى الملاحظات في الأمثال وسيراخ، تذكر وصايا تتعلق بآداب المائدة (أم 23: 1-3؛ سيراخ 31: 12- 18)، ومجرد مداعبات عادية (أم 20: 14) بينما تحوي أجزاء أخرى على مزيج من الدوافع المتباينة (أم 22: 22- 28؛ سيراخ 17:41- 24).
(3) لذلك يصبح توقع المجازاة في الأرض دافعًا واضحًا (أم 3: 10؛ 11: 25) وما ورد في (سفر الحكمة 8:7- 12) هو أحسن تعبير عن فضل الحكمة لذاتها. ومع أن الثروة في حد ذاتها ليست شيئًا خطيرًا (أم 10:2؛ 11:28؛ 4:23، 5؛ 28: 11؛ جا 13:5؛ سيراخ 11:19؛ 31: 5- 7)، كما أن سائر الكتابات تشجب الغني الذي يأتي عن طريق شرير، فإن الحكمة ليست مطلوبة رغبة في البر فقط، بل طلبًا للغنى أيضًا (أم 8: 21؛ 11: 25؛ 13: 18؛ سيراخ 4: 14؛ 20: 27، 28؛ حكمة 21:6). وهذه الرغبة في المنفعة تسبب تحولًا غير مستحب في المفاهيم، التي لولا ذلك لبلغت الذروة. ولعل أبلغ تعبير هو قوله: "لا تفرح بسقوط عدوك ولا يبتهج قلبك إذا عثر لئلا يرى الرب ويسوء في عينيه فيرد عنه غضبه" (أم 24: 17، 18).
(4) لكن لعل أخطر عيب هو أن منهج الحكمة يؤدي إلى أرستقراطية دينية (سيراخ 6: 32- 36.. إلخ.)، فلم يكن يكفي أن يكون القلب والإرادة صالحين، بل كان يلزم تدريب فني طويل أو لعل المدرسة هي المقصودة من قوله: "منزل التأديب" (سيراخ 51: 31)، ويعتبر الجاهل والأحمق بين الأشرار (أم 1: 22... إلخ.)، فالمعرفة فضيلة والجهل رذيلة، ولا شك في أن "الحكمة تنادي في الخارج، وفي الشوارع تعطي صوتها" (أم 1: 20، 21؛ 8: 1-13؛ 9: 1- 6)، ولعل في ذلك إشارة إلى مناداة المعلمين في الشوارع يلتمسون من يستمع إليهم، لكن نداء الحكمة لا يلبيه إلا الموسر المترف الذي لديه فسحة من الوقت. ورغم امتداح أسفار الحكمة للعمل اليدوي (أم 12: 11؛ 24: 27؛ 28: 19؛ سيراخ 7: 16؛ 26:38- 36) إلا أن يشوع بن سيراخ يقول صراحة أن العمال والحرفيين لا يحصلون على الحكمة (سيراخ 26:38).
وقد سار الكتبة على نفس الدرب، وتشكلت من الكتبة والحكماء طبقة اعتبرت أن "هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون" (يو 7: 49).
خامسا: تعليم الرب يسوع:
إن عرض المناهج والمثل العليا لمدرسة الحكمة إنما هو أيضًا عرض من الناحية العملية لموقف ربنا يسوع المسيح من الحكمة فقد اتخذ في الكثير من تعليمه هذا الأسلوب، ولعل اتساع مجال أتفاق الرب يسوع مع كتبة أسفار الحكمة، أحد العوامل الرئيسية التي تجعل العالم كله ينجذب إلى تعاليمه ويعجب بها، فقد استخدم في تشبيهاته وأمثاله كل ما كان في حياة عصره بدءًا بزنابق الحقل إلى الملك الجالس على العرش، كما كانت أقواله موجزة واستخدم أسلوب المقابلة والطباق حتى تعلق التعاليم بالذهن، ولعل ما ورد في (إنجيل لوقا 8:14- 10) والمقتبس من (سفر الأمثال 6:25، 7) هو أقرب ما يكون لأسلوب كتابات الحكمة.
ومما يتفق فيه الرب مع أسفار الحكمة هو النظرة المشرقة رغم معرفته الأكيدة للآلام التي كانت تنتظره. وينبغي ألا ننسى أن التقشف المبالغ فيه كان غريبًا عنه تمامًا (لو 34:7؛ مت 11:19). لكن الرب لم يكن ليرضى على أسلوب الحكمة الذاتية، فكان محور تعليمه هو: أعط بسخاء، أعط كما يعطي الآب السماوي وبلا اعتبار للذات، دون أن تنتظر الجزاء. ويبدو أن القول الوارد في لوقا 6: 27- 38) كان موجهًا رأسًا إلى كتابات مثل حكمة يشوع بن سيراخ، كما أن مهاجمته للأرستقراطية الدينية لا تحتاج إلى إيضاح، فقد أغلق البعض قلوبهم أمام تعليم الرب؛ سواء لاعتمادهم المستمر على الحكمة العالمية، أو لتمسكهم العنيد بتقاليد الكتبة، بينما كانت رسالته موجهة إلى جميع الناس على أساس واحد هو أن يكونوا راغبين في البر، وكانت هذه هي الحكمة الحقيقية التي "تبررت من بنيها" (مت 11 :19؛ لو 35:7). ويشير الرب يسوع إلى حكمة العالم بالقول: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (مت 11: 25؛ لو 10: 21).
سادسًا - في سائر أسفار العهد الجديد:
(1) بالرغم من ورود كلمة "حكمة" ومشتقاتها مرات عديدة في بقية أسفار العهد الجديد، إلا أنها لا تحوي إلا القليل جدًا مما له صلة بالمعنى الدقيق للكلمة، والاستثناء الوحيد الجدير بالذكر هو ما جاء في رسالة يعقوب التي يعتبرها البعض ضمن أسفار "الحكمة" لأن رسالة يعقوب تدعو إلى التأمل في الطبيعة (يع 1: 11؛ 3:3- 6، 11، 12؛ 5: 7)، وإلى التأمل في حياة الإنسان (يع 2:2، 3، 15، 16؛ 13:4.. إلخ)، كما أنه يستخدم أسلوب الطباق، والمعنى الدقيق لكلمة "حكمة" (يع 1:5؛ 3: 15، 17).
أما غيرة يعقوب الشديدة على الأخلاق، فإنها أقوى منها في أسفار الحكمة الأخرى حتى لتفوق سفر أيوب في ذلك.
(2) أما كتابات الرسول بولس فتختلف عن ذلك في أنها نابعة من اختبارات عميقة تبحث عن أسسها في الإعلان الإلهي، ولذلك فهو لا يستخدم أسلوب الحكمة الدنيوية، كما أنه لا يستعين بصور الطبيعة في تشبيهاته. إلا أن هناك جزءًا يحتاج إلى تعقيب خاص، وهو ما جاء في الأصحاحات الثلاثة الأولى من رسالته الأولى إلى الكنيسة في كورنثوس، فالحكمة التي يندد بها بولس ليست حكمة اليهود، بل حكمة الفلسفة اليونانية والتأنق في البلاغة، لكن سواء كانت يهودية أو يونانية، فالمشاكل الأدبية والأخلاقية واحدة، والمبالغة في تقدير ما حققه الإنسان يحجب رسالة الله، لذلك أقتبس القديس بولس من العهد القديم ما يناسب ذلك الرأي (إش 14:29؛ مع 1كو1: 19؛ أي 13:5؛ مزمور 94: 11؛ مع 1كو 3: 19، 20). وقد أرسى الرسول بولس مقابل هذه الحكمة "تعليم الصليب" الذي يزري بكل تعليم بشري، فهو يعلم الإنسان الاعتماد الكلي على الله.
(3) إلا أن الرسول بولس كان له حكمة خاصة (1كو 6:2)، هي التي علمها للمسيحيين للنمو في الفضيلة وليس في المعرفة العقلية (1كو 3: 1-3). ويعتبر بعض الشراح أن هذه الحكمة هي التعليم الذي نجده مثلًا في الرسالة إلى الكنيسة في رومية، مع ربطها بالاختبارات الروحية للمؤمن الذي أصبحت حياته كلها تحت قيادة الروح القدس (1كو 2: 10- 13)، لأن النمو الروحي تصاحبه دائمًا استنارة أسمى لا يمكن وصفها بصورة وافية مقنعة، لمن ليس له نفس الاختبار (1كو 14:2).
سابعًا: تجسيد الحكمة:
(1) يتميز أصحاب أسفار الحكمة بخاصية أصبحت ذات قيمة بالغة في علم اللاهوت المسيحي qeologia، وهي ميلهم إلى تجسيد الحكمة تجسيدًا مجازيًا (أم 1: 20- 33؛ 8: 1 - 9: 6؛ سيراخ 4: 11-19؛ 23:6-31؛ 14:20- 15: 10، 24؛ 51: 13- 21؛ الحكمة 6: 12- 9: 18؛ باروخ 3: 29- 32)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. وليست هذه التجسيدات أمرًا فريدًا [انظر مثلًا تجسيد المحبة في (1كو 13)]، لكن أسلوب كتاب الحكمة المدروس المتكلف إلى حد ما - يبدو فيه التجسيد في استعارات رقيقة، فالحكمة تبني بيتها، وتذبح ذبحها، وتمزج خمرها وترتب مائدتها (أم 9: 1- 2) وأشهر هذه التجسيدات ما جاء في (سفر الأمثال 8: 22- 31)، فالحقيقة التي هي أنفع الأمور للإنسان، كائنة من قبل أن يوجد الإنسان، بل من قبل الخليقة كلها.
(2) ونادرًا ما تنسب الحكمة -كصفة- إلى الله في العهد القديم (1مل 3: 28؛ إش 13:10؛ 31: 2؛ إرميا 10 :12؛ 51: 15؛ دا 5: 11)، بل وفي أسفار الحكمة أيضًا (أي 5: 12، 13؛ 9:4؛ مز 104: 24؛ أم 3: 19). ويبدو أن ذلك راجع جزئيًا إلى الإحساس بأن علم الله لا يمكن مقارنته من حيث النوع بعلم الإنسان، كما يرجع أيضًا إلى حقيقة أن الحكمة عند الكتبة الأوائل كان لها نغمة دنيوية، أما الكتابات المتأخرة فأقل ترددًا في ذكر حكمة الله (انظر سيراخ 42: 21؛ باروخ 32:3) حتى أصبح تجسيد الحكمة هو تجسيد لصفة إلهية، مما هيأ الطريق أمام عقيدة "الكلمة" أي "اللوغوس" (Logos)ة.
(3) وجاءت أعظم خطوة في تجسيد الحكمة في سفر الحكمة، فالحكمة هو "القدوس المولود الوحيد لله" (حك 7: 22)، و"ضياء النور الأزلي" (حك 26:7؛ أنظر عب 1:3)، و"تحيا عند الله" (حك 3:8)، وتشاركه و"تجلس على عرشه" (حك 9: 4)، والحكمة أصل أو "أم" جميع المخلوقات" (حك 7: 12؛ 8: 6)، و"الحكمة أسرع حركة من كل متحرك ... وتنفذ في كل شيء (حك 7: 24)، و"تدبر كل شيء" (حك 8: 1) و"تقدر على كل شيء... وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها" (حك 27:7) "وتحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء لله وأنبياء" (حك 28:7).
ولا شك أن التجسيد هنا لم يعد مجرد بلاغة بل أصبح حقيقة، فهي تعتبر كائنًا سماويًا هي تجسيده، فهي أقنوم سماوي. وقد استخدم المدافعون عن العقيدة المسيحية الأصحاح الثامن من سفر الأمثال (أم 8)، في المجادلات الدينية.
* انظر أيضًا: كتاب الحكمة والإفراز في الجهاد الروحي للأنبا متاؤس، نصح.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/bn2czwv