موضوع تأملنا في هذه الليلة هو عبارة: كله للخير.
إننى من زمان أقول في كل مشكلة نضع أمامنا هذه العبارات الثلاث: ربنا موجود، ومصيرها تنتهي، وكله للخير... وهذه العبارة الأخيرة وردت في الكتاب المقدس في الرسالة إلى رومية إصحاح 8 (رو 8) "كل الأمور تعمل معا للخير للذين يحبون الرب". فالذي يحب ربنا يشعر أن كل شيء يعمل للخير. وربنا نقول عنه صانع الخيرات، وفي صلاة الشكر نقول "نشكر صانع الخيرات الله الرحوم".
* فالله لا يعمل إلا خيرًا. فإذا كان ما يأتي إليك خيرًا فهو خيرًا، وإذا كان شرًا فالله إما أن يمنع هذا الشر، وإما أن يجول الشر إلى خير. من أجل ذلك نقول في سفر الجامعة "نهاية أمر خير من بدايته" لأن لا بُد أن تكون خيرًا.
صدقوني حتى منذ بدء البشرية لما خلق الله آدم وحواء، وكانا في منتهى البساطة والنقاوة، لا يعرفان شيئًا عن مسائل الجنس، وعندما أخطأ آدم وحواء بدأت تتفتح أعينهما وعرفا مسألة الجنس. صحيح خطية آدم كانت شرًّا وكانت عاقبتها الموت، ولكن نتيجة هذه الخطية أنهما طردا من الجنة وبدأوا يتناسلون وينجبون أولادا، وانطبقت عليهم عبارة الرب "أثمروا وأكثروا وأملأوا الأرض".
فلو بحثنا في نشأتنا وكيف أتينا إلى هذه الحياة، نقول إننا أتينا نتيجة خطية آدم، فأصبحت خطية آدم وهي شر في ذاتها، وعاقبتها الموت، نتيجتها حياة البشرية كلها، وهذا الإنتاج البشري كله.
ومثلًا في حكاية يوسف الصديق، تعرض لحسد أخوته، وأخوته باعوه كعبد، ووصل كعبد في بيت فوطيفار في مصر، وربنا أعطى له النجاح هناك، وبعد ذلك أتى عليه شر آخر غير شر أخوته، هو شر امرأة سيده التي أرادت أن يخطئ معها، فقال عبارته العظيمة "كيف أخطئ وأفعل هذا الشر العظيم أمام الله"، ومع ذلك أدعت عليه التهمة ظلما وأخذوه وألقوا به في السجن.
ومع ذلك كيف حول الله كل هذا إلى الخير؟ أعطى له موهبة تفسير الأحلام وفسرها لإثنين من خدم فرعون، ووصل خبره إلى فرعون، وفرعون استخدمه واستفاد من تفسير أحلامه، وقال له "هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله" وسلمه خاتمه وجعله الثاني في المملكة.
تصوروا هو الثاني في المملكة بسبب الشر الذي حدث له من أخوته، ومن امرأة سيده، ولولا التجربة لبقى راعيا للغنم في بيت أبيه، أما كل ما حدث من شر لبقى راعيا للغنم في بيت أبيه، أما كل ما حدث من شر فقد إنتهى به إلى أن أصبح الثاني في المملكة والمتسلط على كل أرض مصر، ويسجد الناس عند قدميه، وقال لأخوته "أنتم فهلتم بي شرا، والرب أراد خيرا" وهذه العبارة ما زالت مسجلة. صحيح أن ربنا يحول الشر إلى خير.
هذا الموضوع حدث أيضًا مع داود النبي، فداود النبي كان ولدا جميلا أشقر الشعر مع حلاوة في العينين، ويرعى غنم أبيه. وبعد أن أنتصر على جليات الجبار، وقع في يد شاول الشرير الذي أذله وكان يطارده من بلد إلى بلد، ومن مغارة إلى مغارة. هذا الشر من شاول تحول إلى خير، فأصبح داود شخصية قوية تعود عاى المتاعب والخروج منها، وتعود على الضيقات والخروج منها، وأخشوشن هذا الفتى الجميل الأشقر. وأصبح ملكا عظيما، وشر شاول تحول إلى خير في نفسية داود وصلابته وقوته.
أمر آخر حدث مع داود: الابن الأول له الذي ولد بالخطية من بثشبع ووصل لحالة مرض شديد بين الموت والحياة، داود صلى من أجله وصام، ومع ذلك مات الولد. فموت هذا الولد كان خيرا، لأنه لو عاش لأصبح الابن البكر لداود، والأخ الأكبر بالنسبة لسليمان وينافسه ويكون ضده. وحسن أنه مات. شر يتحول إلى خير. وهنا نرى أمرا عجيبا أن داود صلى صلاة لم يستجيب لها الله، ولكن لو استجاب لها الله لكانت ضررا على داود، ولذلك أحد الحكماء قال عبارة جميلة: "هناك صلوات تكون استجابتها في عدم استجابتها، لو كانت في غير صالح الشخص". قال لي مرة أحد الأشخاص تقدمت إلى عمل، وصليت ألف أبانا الذي من أجل هذا العمل ولم يستجبها الله. ولكنه فتح لي باب رزق أحسن بكثير من طلبى الأول. بحيث لو استجيبت صلواتى السابقة لحدث لي ضرر.
فالله يعمل كل الأمور للخير. كله للخير.
* صدقونى حتى خيانة يهوذا التي لا يوجد أبشع منها. ولكن آلت النتيجة إلى الخير في عملية الفداء! ولكنه لم يكن يقصد ذلك.
* شك توما إنتهى إلى خير لأنه صار إثباتا عمليا للقيامة.
* نفي القديس يوحنا الحبيب إلى بطمس، وبطمس هذه جزيرة تقع في الجنوب الغربي لآسيا الصغرى، كان حكام الرومان ينفون إليها المجرمين، وأسوأ الناس. نفي القديس يوحنا إلى جزيرة بطمس في بلاد صخرية صعبة، وكان هذا للخير، لأنه في هذه الجزيرة رأى رؤى عجيبة، وأبصر السموات مفتوحة، ورأى العرش الإلهي، ورأى القوات السمائية بمتنوع درجاتها. وأيضًا في هذه الجزيرة إلى جوار هذه الرؤى التي قال فيها "أبصرت بابا مفتوحا في السماء"، أيضًا سمع ورأى نبوات تحدث في المستقبل في مصير البشرية كلها، إلى أن وصلت هذه النبوات إلى مسكن الله مع الناس، فكان نفيه في جزيرة الذي يبدو شرا في عينى الناس، ولكنه انتهى إلى خير بالنسبة له وبالنسبة لنا.
نفس الوضع بالنسبة لنفي القديس أثناسيوس الرسولي، طبعا نفي بابا الكنيسة أمر متعب للكل، ولكن مع ذلك في المنفي استطاع أن يؤسس كنائس كثيرة، ومن تواضعه ترك هذه الكنائس التي أسسها إلى أصحابها، ولم يضمها إلى الكرسى المرقسى، كما كان في كل مكان ينفي إليه يعلم الناس التعليم السليم.
* نفس الوضع بالنسبة للكتيبة الطيبية التي ذهبت للخارج في بلاد الغرب، واستطاعت أن تؤسس المسيحية هناك رغم أنهم قتلوا القديس موريتيوس ولكن القديسة فيرينا أيضًا كانت تعمل خيرًا.
القديس أغسطينوس يقول لنا كلمة لطيفة. كانت هناك شكوك في الإيمان في ذلك الحين، وبخاصة من جماعة البيلاجيين فالقديس أغسطينوس يقول "نشكر هؤلاء الهراطقة لأن الشكوك التي قدموها جعلتنا نتعمق بالأكثر في فهم الكتاب المقدس ونرد عليهم، فأصبحنا أكثر معرفة بسبب هؤلاء".. وكله للخير.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
* نفس الوضع نقوله بالنسبة للقديس أثناسيوس. كانت الشكوك التي قدمها الآريوسيون والفهم الخاطئ لآيات الكتاب المقدس، جعله الله هذا كله يتعمق في الرد عليهم لإثبات إلوهية السيد المسيح. وهكذا وضع لنا كتابه المشهور Contra Arianos كتاب لاهوتي عميق فيه فهم سليم لآيات الكتاب المقدس وكل ذلك بسبب مشكلة آريوس.
في غير هذا الموضوع نرى أشياء أخرى في الحياة العملية الضيقة التي تصيب أي إنسان أو تصيب المجتمع. أيضًا كله للخير، الضيقة نرى فيها يد الله كيف تتدخل وكيف تعمل؟ وهذه أمور جربناها كلنا، في كل ضيقة تبدو يد الله واضحة، وأيضًا في كل ضيقة تكون مجالا للصوم والصلاة. وقال أحد القديسين "وراء كل ضيقة توجد بركة. لكن يجب على الإنسان أن يكون دقيقا في معرفة البركة".
المرض مثلًا أيضًا نقول كله للخير، لأن في المرض تصفو نفس الإنسان أكثر ويكون قريبا من الله أكثر، وكم من الناس قادتهم الأمراض إلى التوبة أكثر من ألف عظة. وأيضًا المرض من نتائجه تعاطف اجتماعى من كل الناس، من الأصدقاء والغرباء مع المريض في حالة المرض، وهذه فضيلة اجتماعية.
حتى الأمراض المستعصية وراءها خير، ما هو؟ العلماء يحاولون أن يبحثوا بجدية ويرون ماذا يفعلون للقضاء على هذه الأمراض. وهكذا تنتج الكثير من المخترعات الحديثة، وأنواع الأدوية والعلاجات الحديثة أيضًا.
في مستشفي كليفلاند يوجد شيء لطيف: إذا حدث خطأ معين، يرقبون هذا الخطأ ويبحثون فيه لكي يعرفوا كيف يتم الانتصار عليه لذلك وراء كل خطأ في عملية يجريها أحد الأطباء من العمليات، تقوم البحوث لكي تستفيد من الخطأ.
أنا مثلًا مَرَّت على فترة قضيت فيها أربعين شهرًا في الدير فيما يسمونه House arrest هذه الفترة أيضًا كانت للخير، ففي أثنائها تَمَكَّنت من تأليف 16 كتابًا، بخلاف التعمير في الدير والزراعة. وكانت فترة هدوء وتأمل ولها فوائدها الروحية.
نقطة أخرى أريد أن أتحدث عنها وهي العاهة: فمن الجائز أن أي أحد يعتبرها شرًا وتعبًا، ولكنها أيضًا قد تكون للخير. فمثلًا طه حسين فقد بصره والمعروف أن الإنسان عندما يفقد موهبة تنتعش المواهب الأخرى لكي تغطى. فهذا الذي فقد بصره استطاع أن يستخدم عقله وصار عميد الأدب العربى في مصر وفي الشرق، وصار أول مدير لجامعة الإسكندرية، وأيضًا صار وزيرا للتربية والتعليم، كل هذا بسبب أنه فقد شيئا فبدأ يعوضه بطريقة سليمة، وكان هذا التعويض للخير.
* يذكرنا هذا أيضًا بقصة القديس ديديموس الضرير، الذي فقد بصره أيضًا، وبفقد البصر بدأ العقل يعوض، وصار عالما في اللاهوتيات، بل مديرا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وقال عنه القديس أنطونيوس "لا تأسف يا ديديموس لفقد بصر مادي تشترك فيه الحيوانات والحشرات، وإنما افرح لأن لك بصيرة روحية تستطيع أن ترى بها نور اللاهوت". وأيضًا لفقده البصر استطاع هذا القديس أن يجد وسيلة للكتابة على البارز، وأن يعرف هذه الوسيلة قبل برايل بـ15 قرنًا. وكان فقد بصره للخير.
هناك واحد لا يجد وظيفة ويكون تعبانا لأنه كل ما يتقدم لوظيفة لا يوافقون عليه. فيدخل في العمل الخاص وجائز أنه ينجح فيه أكثر من أي وظيفة أخرى.
* الموت كل الناس يخافونه ويعتبرونه شرا، ولكن الله يحوله إلى خير وبخاصة إذا كان بالموت يتخلص الإنسان من آلام لا تحتمل. وأيضًا بالموت يصل إلى عالم أفضل.
نقطة أخرى تؤكد أن كله للخير. الإنذار أو التهديد الذي وصل إلينا. وكيف أنه ينتهي إلى الخير.
فوجدنا تعاطف من إمام الأزهر الشريف، ووجدنا تعاطفا من كثير من الكُتَّاب والصحفيين، ووجدنا تعاونا من وزارة الداخلية ومن الأمن، وصارت لنا البوابات التي دخلتم منها، أليس هذا كله للخير؟! وبلا شك أننا سوف نرى خيرا أكثر بعد ذلك لأننا نؤمن أن الله صانع الخيرات.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/troubled/all-for-good.html
تقصير الرابط:
tak.la/7gn3s9j