وهذا ما ذكره داود النبي في المزمور (103) الذي بدأه بقوله (باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب، ولا تنسى كل إحساناته) إلى أن قال (الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة... لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا. لأنه مثل ارتفاع السموات على الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، ابعد عنا معاصينا، كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه. لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن) (مز 103: 8-14).
وهكذا نصرخ للرب في صلواتنا قائلين (كرحمتك يا رب ولا كخطايانا) والعجيب أن الله يفعل ما هو أكثر:
فلا يكتفي بعدم معاقبتنا، إنما أيضًا يصنع معنا إحسانًا!
كم من مرة -ونحن في عمق الخطايا- نطلبه فيستجيب، بكل حب، كأننا لم نخطئ إليه ولم نكسر وصاياه! إنه يخجلنا بمحبته وحنانه، ونسيانه للإساءة، ومقابلتها بالإحسان! ألا نشكره كثيرًا من أجل كل هذا؟!
إن الذي يتأمل خطاياه، وكم هي بشعة، يتعجب من حنو الله في تعامله معه، كيف أنه يطيل أناته عليه، ولا يطبق عليه ما تستحقه هذه الخطايا من عقوبة أمام العدل الإلهي...
كم من خطايا تبدو أبسط من خطاياك بكثير، نالت عقوبات شديدة جدًا. والأمثلة عديدة ومتنوعة:
حنانيا وسفيرا، كذبًّا على بطرس الرسول في إخفاء جزء من المال، فكانت النتيجة أنهما وقعا ميتين للتو، دون أن تُعْطَى لهما حتى فرصة للتوبة... ومع ذلك كم من أناس يكذبون مرارًا كل يوم، وقد يكذبون على كهنة ورؤساء كهنة. والله صابر لا يعاقبهم. راجع نفسك في هذه النقطة، وأشكر الله.
والسيد المسيح يقول من قال لأخيه يا أحمق، يكون مستحقًا نار جهنم (متى 5: 22) وكم من مرة نقول هذه العبارة، أو ما يشابهها في المعنى... ثم نعترف بالخطأ، ويغفر لنا الله، ولا تلحقنا نار جهنم...
هيرودس الملك مَجَّدهُ الناس، وقالوا (هذا صوت إله، وليس صوت إنسان) وسكت، (ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط مجدًا لله. فصار يأكله الدود ومات) (أع 12: 22، 23) ونحن كم يمجدنا الناس أحيانًا ونسكت، ولا يعاقبنا الله بشيء ألا نشكر الله على عدم معاقبته؟!
زكريا الكاهن مجرد أنه استصعب أن يكون له ولد وهو شيخ، عاقبه الله بأن بقى صامتًا تسعة أشهر حتى ولد الصبي.
ونحن ألا نخطئ كل يوم خطايا أكثر من زكريا الكاهن، ومع ذلك فلا عقوبة!
ألا نشكر الله إذن على أنه لم يستخدم معنا عدله الإلهي (ولم يجازنا حسب خطايانا)؟! فلنحسب خطايانا التي نرتكبها كل يوم، وربما كل ساعة، ويقابلها الله بصبر عظيم...! ومع ذلك ها نحن نحيا، وطول أناة الله ما زالت صابرة علينا، لكيما تقودنا إلى التوبة.
فلنشكر الله إذن على احتماله العجيب...
الناس لا يحتملوننا في القليل، وهم معرضون للخطأ مثلنا والله الكلي القداسة والصلاح، والكلي العدل، يحتملنا في أمور خطيرة جدًا تتكرر منا كل يوم، ومع ذلك لا نشكر! بل نحن أنفسنا ربما لا نقدر أن نحتمل غيرنا فيما هو أقل بكثير من الأمور التي نخطئ فيها إلى الله، ويحتملنا... بل ويحتمل الله جميع الخطايا، التي يخطئ بها جميع الناس، في جميع البلاد، في كل حين، في الماضي والآن وفي المستقبل. ولم يضرب العالم بضربات قاسية، مثلما فعل قبلًا في الطوفان وحرق سدوم... ومع ذلك لا نشكره!!
ألا تركع حاليًا وتقول (أشكرك يا رب لأنك احتملتني، ولا تزال تحتملني، وتحتمل عدم شكري)! حقًا يا رب أنك طيب وحنون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وما أصدق قول داود النبي عنك:
(يا رب، من مثلك؟! ليس لك شبيه بين الآلهة، ولا مثل أعمالك) (مز 71: 19)، (مز 86: 8).
جميل هو التأمل في معاملات الله، سواء لك أو لغيرك. وجميل هو التأمل في صفاته الجميلة. إنك تتغنَّى بها فتشكره عليها. تشكره لأنه حنون، ولأنه طيب، ولأنه محب، ولأنه غفور، ولأنه طويل الأناة، ولأنه (يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن) (مز 103: 14) ويعاملنا هكذا.
اشكره على إحساناته إليك، والى كل أحبائك وأصحابك وأقاربك ومعارفك، والى باقي الناس. أشكره على إحساناته إلى الأسرة والى الكنيسة والى الوطن... إحساناته العامة والخاصة.
أجلس بينك وبين نفسك، وأستعرض حياتك منذ ولدت:
كم مرة طلبت من الرب طلبا، فاستجاب لصلاتك، وأعطاك سؤل قلبك؟ كم ضيقة أنقذك منها؟ كم امتحانات أنجحك فيها، وكنت تشعر أنك غير مستعد لها؟ كم مرض شفاك منه أو أنقذك من الإصابة به؟ كم مشكلة حلها لك؟ كم قضية كانت نتيجتها في صالحك؟ كم خطية ارتكبتها ولم يسمح أن تنكشف للناس؟ كم باب رزق فتحه أمامك؟ كم عمل قمت به ووفقك فيه؟ كم مرة كان معك في خدمتك وفي نشاطك؟ كم أعطاك نعمة في أعين الآخرين كم عثرة أنقذك منها؟ وكم خطية كدت تقع فيها وانتشلتك النعمة؟ كم وكم وكم...؟؟؟
أتستطيع أن تحصي إحسانات الله إليك؟! لست أظن هذا ممكنًا...!
فكم بالأكثر لو أضفت إليها إحساناته إلى أحبائك، وإحساناته العامة التي شملتك وشملت غيرك أيضًا... والخيرات التي أتتك حتى بدون صلاة وبدون طلب، وإنما من فرط نعمته وافتقاده وحبه... كل ذلك ضعه أمامك، وقدِّم عنه شكرًا في كل تفاصيله. وبخاصة الأمور التي كانت معقدة جدًا، ولم يكن أحد يستطيع حلها سوى الله، وقد كان...سجل كل هذا، حتى لا تنساه...
من منا يشكر الله لأنه يبصر؟ لكنه إذا مرضت عيناه، وبدأ يعالجها، ويبدأ حينئذ يشعر بنعمة البصر التي لم يشكر عليها من قبل. كذلك من من الناس يشكر الله على أنه يمشي حسنًا على قدميه؟ ولكنه لا يذكر ذلك، إلا إذا حدث له كسر في رجله، واحتاج إلى عصا يتوكأ عليها. حينئذ يدرك أن مجرد المشي على قدميه كان أمرًا يحتاج إلى شكر... حقًا ما أصدق قول الحكيم:
الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يَحِس به إلا المرضى.
فنحن من عادتنا أننا لا نشعر بقيمة الشيء الذي عندنا، إلا إذا فقدناه... وهكذا لا نشكر الله على أن أجهزة جسدنا سليمة، إلا إذا اختل واحد منها. فلا أحد يشكر الله على معدة سليمة تهضم الطعام جيدًا. ولكنه إذا مرضت معدته، ونقص بعض من عُصاراتها، أو أصيب بقرحة في المعدة، حينئذ يشكر الله على كل يوم تقوم فيه معدته بعملها الطبيعي، أو تعمل دون أن تتألم، أو بدون دواء؟ أشكر الله إذن على صحتك، لأن كثيرين يشتهون الحالة التي أنت فيها، ولا يجدونها...
ذلك لأن المرض ليس شرًّا في ذاته، لعازر المسكين كان مثقلًا بالأمراض، وكانت الكلاب تلحس قروحه... لكن كل هذا لم يكن شرا في ذاته، ولم يفصله عن الله، بل بالعكس كان لفائدته. فعندما اتكأ في أحضان إبراهيم، قدم عنه تقريرًا أنه (استوفَى بلاياه على الأرض، لذلك هو يتعزى) (لو 16: 25). هكذا فلتشكر الله على المرض، لأنك قد تستوفي به البلايا، وتأخذ نصيب لعازر المسكين قال القديس باسيليوس الكبير:
(انك لا تعرف ما هو المفيد لك: الصحة أم المرض).
القديس بولس الرسول أعطى شوكة في الجسد، لمنفعته الروحية (لئلا يرتفع من فرط الإعلانات. وقد طلب من الله ثلاث مرات أن يفارقه هذا المرض) (2كو 12: 8) ولكن الله لم يستجب صلاته، بل قال له (تكفيك نعمتي).
طبعًا نحن بضعفنا البشري نطلب الصحة. ولكننا لا نعرف ما هو المفيد لنا...
ربما يتعبني المرض على الأرض، ولكنه يساعدني على دخول الملكوت.
هكذا إذا كان استغلالي له حسنًا. ومن الناحية الأخرى ما أكثر ما تكون القوة الجسدية ضارة لِمَن يستخدمها بطريقة خاطئة! المهم إذن هو الصحة الروحية.
حُكِي في بستان الرهبان عن أحد النبلاء الأثرياء، أن كانت له ابنة وحيدة مريضة مُشرفة على الموت. فَطُلِبَ من أحد الآباء القديسين أن يصلي من أجلها لكي تُشْفَى. فحاول القديس أن يعتذر بكافة الطرق، ولكن الرجل ألحَّ عليه. فصلى القديس وعاشت الفتاة، إلا أنها سلكت في سيرة شريرة أضاعَت كرامة أبيها، لدرجة أنه عاد إلى القديس مشتهيًا أن تموت هذه الابنة الوحيدة...!!
عجيب أن كثيرين لا يذكرون في المرض سوى أوجاعه:
دون أن يذكروا بركات المرض وفوائده! بل أن البعض قد يصل إلى حالات من الضيق والتذمر، وقد يعاتب الرب ويقول: لماذا يا رب فعلت بي كل هذا؟ أما أنت فلا تَكُن هكذا.
إنما في مرضك أشكر الله على البركات التي حصلت عليها نتيجة لهذا المرض:
قل له أشكرك يا رب على هذا المرض، الذي أعطاني فرصة أعمق للصلاة، أو الذي أعطاني توبة، ومنحنى تواضعا وانسحاق قلب وشعورًا بضعفي. أشكرك يا رب على هذا المرض الذي جعلني أشعر بمحبة الناس وسؤالهم عني. أشكرك لأن المرض منحنى فترة خلوة قضيتها على الفراش، وكانت لازمة لي، على الأقل لأفحص نفسي، ولأنفرد بك.
نشكر الله أيضًا، لأنه سترنا , وأعاننا، وحفظنا وقبلنا إليه، وأشفق علينا وعضدنا، وأتى بنا إلى هذه الساعة...
هذا ما تعلمنا الكنيسة أن نشكر الله عليه، في صلاة الشكر التي نرددها مرات في صلوات الساعات (في الأجبية) كل يوم... وكل كلمة من كلمات الشكر هذه، تحتاج إلى تأمل خاص.
وقد نشرنا لك عنها كتابًا خاصًا، اسمه (تأملات في صلاة الشكر) موجود هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت صدر منذ سنة 1964 وأعيد طبعه عدة مرات، فيمكنك الرجوع إليه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/thankfulness/more.html
تقصير الرابط:
tak.la/x3h5vsm