وهذا الأمر تحدث عنه الرب بصراحة فقال: "مَنْ أحب أبًا أو أمًا أكثر مني، فلا يستحقني.." (مت35:10-37).
إذن تحب أباك وأمك، ولكن. إن اصطدمت محبتها بمحبتك لله، فإنك تصغي حينئذ إلي قول الرب: "إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه و... حتى نفسه أيضًا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو26:14) طبعًا يحدث هذا إن كان أبوك وأمك يبعدانك عن طريق الرب، أو إن كانا ضد الله أو ضد عمله.
فمن أجل الله ومحبته، يجب أن تطرح جانبًا كل محبة أخرى. يمكن أن تترك الأب والأم والأقارب جميعًا. وفي ذلك قال الرب: {الحق أقول لكم ليس أحد ترك بيتًا أو أخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا... لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مائة ضعف الآن... وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية} (مر29:10-30).
إن محبة الله يجب أن توضع فوق كل محبة أخرى. ومحبة الوالدين يحب أن تكون داخل محبة الله. فلا يصح أن نكرم أبًا على حساب محبة الله، أو أن تجاهل أبًا بكسر وصية من وصايا الله. ولا تشترك معه في الباطل. وسنضرب لذلك مثلًا من الكتاب المقدس ومثلًا من تاريخ الكنيسة:
أحب يوناثان داود، وكان شاول الملك أبو يوناثان يحسد داود ويشتهي قتله والتخلص منه. وكم من مرة حاول ذلك. أما يوناثان فعمل كل جهده على إنقاذ داود.
رأى يوناثان أن الحق في جانب، وأباه في جانب آخر. فوقف إلي جوار الحق، ضد أبيه. ولم يتملق أباه، بل وبخه وجاهد لتحطيم خطط أبيه الشريرة.
في إحدى المرات "كلم شاول يوناثان أبنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود". فلم ينفذ يوناثان هذا الأمر. ولم ينضم لأبيه في رأيه ولا خطته. بل على العكس "تكلم يوناثان عن داود حسنًا مع شاول أبيه. وقال له: لا يخطئ الملك إلي عبده داود لأنه لم يخطئ إليك، ولأن أعماله حسنة لك جدًا... لماذا تخطيء إلي دم بريء بقتل داود بلا سبب" (1صم1:19-7).
وهكذا بين يوناثان لأبيه خطأه في حق داود. ومدح داود أمامه ولم يخف. واقنعه حتى رجع في تلك المرة عن فعله ولم يقتل داود... ولم يتملق أباه...
وأقام يوناثان عهدًا مع داود، وهو يعلم أن أباه يكرهه، وإتفق معه على خطة سرية تنقذه من أبيه، ودافع عنه أمام أبيه حتى غضب أبوه منه، وقال له: "يا ابن المتعوجة المتمردة، أما علمت أنك قد أخترت ابن يسي لخزيك... لأنه ما دام حيًا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك. والآن أرسل وأت به إلي، لأنه ابن الموت هو".
ولكن يوناثان صمد أمام غضب أبيه، وهاجم قرارات أبيه مرة أخرى، حتى ثار أبوه وكاد أن يقتله...
وفي ذلك يقول الكتاب: "فأجاب يوناثان شاول أباه وال له: لماذا يقتل "داود"؟ ماذا عمل؟! فصابي شاول الرمح نحوه ليطعنه. فعلم يوناثان أن أباه قد عزم على قتل داود. فقام يوناثان عن المائدة بحمو غضب ولم يأكل خبزًا.." (1صم30:20-34) وذهب يوناثان فأخبر داود، وأنقذه "وقبل كل منهما صاحبه وبكي". وقال يوناثان لداود: إذهب بسلام...
وهكذا نرى أن يوناثان البار، قد بكت أباه، وشرح له خطأه، ودافع أمامه بكل شجاعة عن داود الذي يكرهه أبوه. وتعرض لغضب أبيه وثورته. وبذل كل جهده حتى أفسد خطة أبيه في قتل داود.
أكانت الوصية الخامسة تلزم يوناثان أن يشترك مع أبيه في قتل داود، أو على الأقل يصمت ولا يعارض أباه؟!! كلا. بلا شك. لو فعل يوناثان كذلك -بفهم خاطئ للوصية- لأخطأ إلي الله، وإلي داود، وإلي نفسه، وإلي شاول أبيه...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
مثال آخر من الكتاب المقدس، وهو ما حدث بين سليمان الملك وأمه. جاءت أمه إليه، فقابلها بكل إحترام، وقام عن كرسيه وسجد لها، ثم أجلسها إلي جواره. فقالت له: "إنما أسألك سؤالًا واحدًا صغيرًا، لا تردني" فأجابها: "اسألي يا أمي لا أردك". فطلبت منه أمه طلبًا ضد الشريعة، طلبت أن تعطي أبيشج الشونمية زوجة لأخيه ادونيا. وكانت أبشيج تعتبر زوجة لأبيهما داود، أو بمثابة ذلك...
وعلى الرغم من الإحترام العظيم الذي قابل به سليمان أمه، فإنه لم يجبها في وساطتها لأدوينا، بل أمر بقتله.
وهكذا قال سليمان: ".. قد تكلم أدونيا بهذا الكلام ضد نفسه. والآن حي هو الرب... إنه يقتل أدونيا" (1مل19:2-24).
هذه القديسة العظيمة كان أبوها مرقس واليًا على البرلس والزعفران في عهد الملك ديوقلديانوس الكافر. ونتيجة لضغط الملك، بخر مرقس الوالي للأصنام.
فلما رجع إلى ولايته، وعلمت ابنته بخبره، دخلت عليه مغضبة، ووبخته توبيخًا شديدًا، وقالت له إنها تَتَبَرَّأ من أبوّته، وإنه كان الأفضل لو رأته ميتًا...
ونتيجة لهذا التوبيخ الشديد أفاق أبوها من غفلته، بكته ضميره، فرجع إلي ديوقلديانوس، وإعتراف بالسيد المسيح، ومات شهيدًا وإنضم إلي القديسين.
ولم يكن توبيخ ابنته دميانة له كسرًا للوصية الخامسة، بل إنقاذا لحياته من الهلاك الأبدي.
قُلنا إنه من حدود إكرام الوالدين، أن هذا الإكرام لا يتعارض مع محبة الله. نضيف نقطة أخرى هي:
يجب ألا يضحي الرجل بزوجته إكرامًا لأبيه وأمه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jcm4b9h