ما أكثر الخطايا التي يقع فيها من يبني راحته على تعب الآخرين. وسنضرب لذلك أمثلة عدية منها:
يتخذه مجالًا للسخرية والتفكه والتسلية، غير مبال بجرح مشاعره، ومشاركة الناس له في جعل هذا الإنسان أضحوكة لهم... وبخاصة إن كان لا يستطيع الدفاع عن نفسه، أو يحتشم من ذلك، لأن الذي يتندر عليه أكبر منه سنًا أو مقامًا. هذا الساخر هو إنسان يجد راحته في تعب غيره نفسيًا...
ويستمر على ذلك إلى ما بعد منتصف الليل في صخب ولهو وغناء وضوضاء. ولا يبالى في كل ذلك بشعور غيره ولا بمصلحته. المحتاج إلى نوم، لا يستطيع أن ينام. والتلميذ لا يستطيع أن يذاكر. والمريض يزعجه الصوت، وربما يكون قد تناول حبوبًا منومة تفقد مفعولها. والباقون يفقدون حريتهم في الكلام وفي القراءة وفي الاستمتاع بوقتهم. ولكن صاحب الحفلة مسرور بحفلته، غير عابئ بتأثيرها على غيره.
ومثل ذلك من يفتح راديو أو ترانزستور أو قطار. هو يريد أن يسمع ولا يهمه غيره...
ينفخ دخانها في وجهه، أو فيما حوله. وقد يكون بجواره من يكاد يختنق من رائحة الدخان. وبخاصة لو كان ذلك في مكان مغلق، في حجرة، أو أتوبيس، أو طائرة... هو يريد أن يتمتع بمزاجه الخاص، ولا يعبأ بتعب غيره. وقد يفعل ذلك دون أن يستأذنه وحتى لو أستأذن يكون ذلك إجراء شكليًا. وما أكثر ما تتعب الزوجات من أزواجهن المدخنين... يدخل تحت بند التدخين أيضًا المصانع التي تعكر الجو بدخانها، وتؤذي صحة الناس لكي يكسب أصحابها مالًا... وكذلك العربات التي تنفث في سيرها دخانًا...
يطلب غيره تليفونيًّا في أي وقت. وقد يكون نائمًا، أو على مائدة الطعام، أو عنده ضيوف، أو يكون منشغلًا بعمل هام يجب أن يقوم به. ويظل هذا الإنسان يتكلم ويتكلم، ودون يسأل هل الذي يسمعه لديه وقت لسماعه أم لا. بينما اللياقة تقتضى أن يسأل...! وقد يكون صوته عاليًا يسمعه الذين حول السامع، وربما يعرفون به أسرارًا ما كان يجوز أن يسمعوها!
إنسان يزوره غيره على غير موعد، دون أن يعرف هل هذا القريب أو الصديق مستعد لاستقباله أم لا! ولكنه يدخل ويجلس ويتكلم. وقد تطول الجلسة، وصاحب البيت يخجل من أن يقول له أنه منشغل، أو كان على وشك الخروج لمهمة معينة أو موعد مع آخرين! ويكون هذا الضيف جالسًا في بيت صاحبه. إنما هو جالس على أعصابه... وما أصعب مثل هذا الزيارات إن كانت خلال أيام الامتحانات، ويعلو فيها الصوت، والطلبة محتاجون إلى هدوء... ومع ذلك فهؤلاء الضيوف يحاولون أن يجدوا راحتهم، ولو على تعب غيرهم.
كل ما يريده أصحاب الرحلات أن يتمتعوا بالدير، دون أن يضعوا في ذهنهم راحة الرهبان أو هدوء الدير. وقد الدير. وقد يكون في الرحلة أطفال يصيحون ويجرون ويلعبون. وقد يرتفع صوت أعضاء الرحلة، وقد يتجولون في الدير بغير نظام. وأحيانًا تكون في الدير عدة رحلات بعدة أتوبيسات مع عربات خاصة. ويجتمع في الدير مئات، وتسود الضوضاء أرجاء هذا المكان المقدس، وأصحاب الرحلة سعداء!! لا يفكرون في تعب الرهبان الذين تركوا العالم التماسًا للهدوء! وتزيد المشكلة إن أصر بعض أعضاء الرحلة على زيارة المتوحدين... إنهم يريدون راحتهم، ولا يفكرون في طقس الحياة التي يعيشها غيرهم...
معروفة قصة البابا ثاوفيلس الذي أراد زيارة القديس الأنبا أرسانيوس المتوحد فلما عرف أن ذلك يؤذي وحدته، امتنع عن ذلك...
وقد يقصون أسرار أناس آخرين، أو مشاكل معينة، أو أخطاء قد حدثت، أو يفتحون أذهان سامعيهم لمعرفة أمور جديدة عليهم من الخير لهم أن لا يسمعوها... ولكنهم يريدون أن يتكلموا، ولو اتعبوا السامعين، ولو صبوا في آذانهم معلومات مؤذية، ولو أتلفوا أفكارهم. وقد يحاول السامع أن يهرب، ولكنهم يضغطون بالكلام، لأنهم يجدون لذتهم في الحديث، شاء السامع أن يسمع أو لم يشأ!! هذا بالإضافة إلى إضاعة وقته...
وقد يكون هذا الضغط على إرادته، لكي ينفذ ما لا يريد. وقد يستخدم فيه أحيانًا الإلحاح المتعب الذي يشكل ضغطًا على أعصابه وعلى أذنيه... وقد يكون الضغط مباشرة أو عن طريق وسطاء. أو يكون ضغطًا على ضميره بتهديده بالالتجاء إلى أخطاء يشارك في مسئوليتها... المهم أن يصل الشخص إلى تحقيق غرضه بالضغط أو الضغوط، ولا يهمه مطلقًا شعور من يضغط عليه، ولا تعب أعصابه، وتعب فكره وتعب إرادته، والوقت الذي تستغرقه الضغوط...
ولو حدث ذلك مرة أو في بعض مناسبات، لكان ممكنًا الاحتمال بالمشاركة الاجتماعية "بكاء مع الباكين" (رو 12: 15). ولكن ماذا عن أشخاص تَعَوَّدوا الشكوى والبُكاء والنكد... ما أن يقابلوا صديقًا، حتى ينفتح ريكوردر الشكوَى والبكاء والحزن واليأس والتعب، إلى غير نهاية ومهما حاول السامع أن يخفف عنهم، لا يستطيع، ويزداد الأنين والتعب، وربما لغير سبب، أو لسبب تافه، أو بحديث متكرر، وبلا نتيجة! المهم أنهم يريدون أن ينفسوا عن أنفسهم، ولو تعب سامعوهم... ليتك حينما تتكلم، أن تنظر إلى ملامح سامعك... هل تعب؟ هل ضجر؟ ممكن أن تكمل كلامك أم لا.
ما أكثر الذين يفقدون أصدقاءهم ومعرفهم، بمداومة الشكوى والبكاء.
إنسانة تقف طويلًا أمام المرآة قبل أن تخرج. ولا تُفَارِق المرآة حتى ترضى تمامًا عن نفسها، إنها صارت في منتهى الفتنة. كل من يراها يعجب بها. ولا يهمها في كل ذلك إنها تعثر. المهم راحتها النفسية في أن تكون تكون موضوع الإعجاب، ولو تعب الذين يعجبون بها. نصيحتي لك: لا تجعلي المرآة تقودك... بل اهتمي أن لا تكوني عثرة لأحد...
إنسانة تريد أن تكون الأولى في إحدى الحفلات. وقد تحضر حفلة عرس، وتحاول أن تكون أجمل وأشيك من العروس نفسها!! تلبس ملابس فوق مستوى الكل، وتتحلى بحلي لا تتحلى بها امرأة أخرى. تريد أن تجذب انتباه الكل، ولو ألغت وجود غيرها، ولو أتعبت باقي النساء وشعرن بصغر نفس وبضآلتهن إلى جوارها! هذه أيضًا تبحث عن راحتها بتعب الأخريات. وإن ناقشتها ترد قائلة "إنها حفلة، ويجب أن أحتفظ بأناقتي". نعم ولكن في حدود المعقول. ودون إثارة الغيرة، ودون الدخول في مقارنات. البسي في الحفلة ما يناسب مستوى المشتركات في الحفلة، بأناقة معقولة.
ومثال ذلك الزوجة التي تطلب من زوجها طلبات فوق طاقته المالية. فإما أن ترهقه ماليًا، أو تضطره إلى الافتراض أو إلى الديون. أو أن يقول ليس معي! وأحيانًا تحرجه بحظها العاثر في أن تتزوج رجلًا ليس معه ما ينفقه عليها! وهكذا تجرح شعوره... ونفس الكلام ينطبق على الابن الذي يطلب من أبويه ما هو فوق طاقتهما، والمواطن الذي يطلب من الدولة ما هو فوق طاقتها.
وأحيانًا في الصوم الكبير!! وإن قيل له أن قوانين الكنيسة لا تسمح بإجراء سر الزواج في الصوم، يظل يضغط ويضغط، ويقدم أعذارًا وتبريرات خاصة بالسفر وبالإجازات. وإن وجد أن هذه التبريرات غير مقبولة، يحتج ويغضب ويصيح ويصر، ويهدد بالزواج عند الطوائف الأخرى. والمهم راحته في أن يتزوج، ولا يهتم بضمير الكاهن، ولا بقوانين الكنيسة، ولا بكسر الصوم. إنه يريد موافقة الكنيسة، وليس بركتها. يريد راحته على تعب غيره...!
حتى في المحيط الكنسي! كاتب يريد أن يحطم جميع البديهيات والمُسلمات التي يعرفها الكل، ومحاولًا أن يثبت خطأها، لكي يقدم رأيًا جديدًا، كأنه يفهم أكثر من الكل. هو الوحيد الذي يفهم، وكل ما ورثناه عن الأجيال هو خطأ إلى أن بعثه الله، ليقدم للناس المفاهيم السليمة... مِن هنا نشأ المبتدعون الذين يبتدعون شيئًا جديدًا، لعله يبني لهم مجدًا، بتقديم ما لم يصل إليه الغير. يحاول أن يظهر علمه، بإعلان جهل الكل، وقد يسأل غيره أحيانًا أسئلة محرجة المقصود بها أن يظهر جهلة. ثم يجيب هو عن الأسئلة ليظهر تفوقه...
لا يسمح لغيره بالظهور، ليبقى وحده في الصورة. كالأستاذ الذي لا يعطي المُعيد فرصة ولا شهادة، إلا بشق الأنفس. وفي نفس الأشكال يقع غالبية الناشئين، فلا فرصة سهلة لكاتب ناشئ، أو لمخترع ناشئ، أو لفنان ناشئ، لأن الكبار يريدون احتكار العبقرية ذاتها! ويجدون راحتهم في أن يخلو الجو لهم، ولو تعب كل الناشئين يحتكرون الجو ويحتقرون الغير...! يدخل في ذلك أيضًا من يحتكر الكلام أثناء اجتماع، ولا يعطي غيره فرصة لكي يتكلم!
الذي من أجل غيرته على زوجته، يكاد يحبسها في البيت. لا يراها أحد، ولا تتكلم مع أحد. ولا تضحك على فكاهة قالها الغير، حتى إن كانت فكاهة تضحك الحجر! وإلا يقيم الدنيا ويقعدها. لماذا تنبسطين في الكلام؟! كأنما اشترى عصفورة جميلة وحبسها في قفص. حتى إن غَنَّت داخل القفص، يمنعها من الغناء! وهكذا يضيق عليها تضييقا يجعلها تكره الحياة بسببه. وإن جادلته أو عاتبته، يقول لها "هذا هو الذي يريحني"! ولكنها راحة على تعب غيرك، لا تقيم فيها أي اعتبار لشعور زوجتك...
وبالمثل الزوجة الغيارة أو النكدية أو الكثيرة التحقيق مع زوجها، والتي ترهقه بأسئلة وإحراجات، لكي تستريح هي، مهما تعب هو...
كل شخص يريد أن يسبق غيره، أو يأخذ مكان غيره، أو يصل هو، ولا يهم أن يصل غيره أو لا يصل! والعجيب أن ذلك قد يحدث أحيانًا أثناء التناول من الأسرار المقدسة وبخاصة أيام الأعياد والمناسبات. بينما التناول يليق به إنكار الذات وانسحاق النفس، ولا يليق به بتاتًا أن يبحث الإنسان عن راحته بتعب غيرهم. يشبه هذا أيضًا من يبحث عن الأماكن الأولى في الاجتماعات، أو يحجزها قبل مجيئه. وكذلك من يقف في اجتماع، ولو أخفى الرؤية عن غيره. ومن يوقف عريته في مكان، ولو عطلت المرور على غيره... العجيب أن الزحام قد يحدث أيضًا في الجلوس من أب الاعتراف فقد يدخل معترف إليه. وهناك طابور طويل ينتظر. فلا يهمه كل هؤلاء، ويقضي ما يشاء من الوقت، ولو تعب المنتظرون. العجيب أيضًا أنه لا يعترف بهذا أثناء جلسته مع أب الاعتراف!
ومنها المنافسات في الوظائف والمناصب، حيث يريد أن يزيح شخصًا من مكانه ومركزه ليحل محله. أو يأخذ درجة أو علاوة بدلًا منه، ولو بتقديم شكوى ضده، أو إشاعة المذمة فيه. أو يتسبب في فشله ليضيعه. وفي مجال السياسة، حزب ينافس حزبًا، ويكره الناس فيه ليأخذ مكانه ويدخل في المنافسات أيضًا المضاربات في الأسواق. ونحن لا نقول إن كل منافسه خاطئة. بل نقصد المنافسات التي تلجأ إلى طرق خاطئة لأن تتعب غيرها أو تتخلص منه أو تحطمه...!
فالنشال يريد أن يأخذ ما في جيب غيره ليضعه في جيبه هو. وكذلك كل سرقة. ويدخل في هذا المجال الغش في التجارة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. واحتكار الأسواق والمضاربات فيه، والربا الفاحش، والسوق السوداء، الهروب من الضرائب والجمارك. في كل هذا يبني كل إنسان راحته على تعب غيره. ومثلها صاحب العمل الذي يبخس أجور عماله ليغتني هو، وكأنه يسرق عرقهم وتعبهم. وكذلك الذي يطلب رشوة ليقضى عملًا مشروعًا. إنها أيضًا سرقة وقد تكون بالإكراه، وهي راحة خاطئة بتعب الآخرين نضع مثال آخاب الملك الذي أراد أن يغتصب حقل نابوت اليرزعيلي (1مل 21). كذلك كل أنواع الظلم والتسخير.
وأيضًا مَن يسرق فِكْر غيره وينسبه إلى نفسه. ومَن يترجم لمؤلف، وينسب الفِكر لنفسه.
حيث تقوم مثلًا سرقات في شركة من كبار المسئولين فيها، وبقدم موظف بسيط، أو مدير، أو عضو مجلس إدارة منتدب ليحمل المسئولية كلها، ويتبرأ المخطئون الحقيقيون، فينالون راحتهم بتعب غيرهم. كذلك محاولة النجاة من مسئولية أي خطأ بإلصاقه بآخر. ومن يتهم غيره لينجو هو.
إذ يجد شاب راحته الجنسية في أن يضيع فتاة ويغتصبها. وحتى مجرد العلاقة التي تشغل عقل الفتاة وعاطفتها، وتضيع سمعتها، لمجرد أن يجد الشاب متعته في مصادقة فتاة، مهما أساء إليها بهذه الصداقة! إنها راحة مبنية على تعب الآخرين.
إنسان أعصابه تعبانه. ينفس عن ضيقه بأن يصب غضبه على الآخرين كلامًا أو كتابة، لكي يستريح هو، مهما تعبوا هم. وما ذنبهم في تعرضهم لأعصابه المرهقة. وإن عاتبته يقول: لم استطع أن أستريح إلا بعد أن قلت هذه الكلمة! ولكنها راحة خاطئة.
حيث تجد إحدى الدول راحتها في تحطيم دولة أخرى، أو في حصارها اقتصاديًا، أو في استعمارها وقد يفعل الأفراد مثل هذا في حدودهم الضيقة.
راحتهم هذه ما أكثر ما تتعب غيرهم، سواء الذين يريدون معرفة أسرارهم، أو الذين يلحون عليهم بالسؤال، ليستخرجوا منهم المعلومات، بالأسئلة المتواترة، والإلحاح المتعب، حتى يعصرونهم عصرًا ليستخرجوا كل ما عندهم من من المعلومات من ملومات بالضغط والإحراج.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/spiritual/over.html
تقصير الرابط:
tak.la/b786zjx