أول ما نلاحظه هو تواضع الرب، الذي سمح بأن يكون صلبه وإهانته أمام الكل، بينما جعل قيامته الممجدة في الخفاء، سرًا لم يره أحد..!
لم يقم في مجد أمام جميع الناس، لكي يعوض الإهانات والتعييرات التي لحقت به في وقت الصلب... وإنما قام سرًا. واختار للقيامة وقت الفجر، حين كان جميع الناس نائمين، حتى لا يراه أحد في مجد قيامته...
إنه كان بعيدًا عن المظاهر المبهرة في قيامته، كما كان أيضًا بعيدًا عن المظاهر المبهرة في ميلاده...
ثم ظهر بعد ذلك لمريم المجدلية ولمريم الأخرى، ولبطرس وللنسوة، ولتلميذيّ عمواس وللأحد عشر، ثم لشاول الطرسوسي ولبعض الأخوة... للأحباء، للخاصة... ولم يظهر للذين شمتوا به قبلًا...
ومع كل ذلك فإن هذه القيامة التي حدثت في الخفاء، كانت تزعج اليهود إلى أبعد حد، وقد حاولوا بكل طاقاتهم أن يمنعوها، أو على الأقل يمنعوا الناس من الإيمان بها...
ولما وجدوا أنهم فشلوا في منع القيامة بالجند والحراس والحجر والأختام، أرادوا أن يمنعوا وصولها إلى الناس بطريقة أخرى: بالكذب، والرشوة، والإشاعات.
ولما فشلت هذه الحيلة، ولم يستطيعوا أن يمنعوا خبر القيامة بالكذب والرشوة، وانتشر خبر القيامة في الأرض كلها بكرازة التلاميذ، لجأوا إلى طريقة أخرى.
فحاولوا منع الكرازة بالقيامة بواسطة القبض على التلاميذ، وجلدهم وسجنهم، وتقديم شكاوي ضدهم للحكام...
وفشلت الطرق البشرية في منع الإيمان بالقيامة... وصدق قول الكتاب "كل آلة صورت ضدك لا تنجح".
فما سر هذه القيامة العظيمة؟ سرها أنه لأول مرة في التاريخ ولآخر مرة، قام شخص من الموت بذاته، لم يقمه أحد..! حادث أرعبهم...
لقد حقق السيد المسيح ما قاله عن نفسه... إنه لا يستطيع أحد أن يأخذها منه "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها"..
لقد غلبهم الناصري الجبار، الذي لم يقو الموت عليه، الذي داس الموت، وقام حينما شاء، وحسبما شاء، وحسبما أنبأ من قبل. ولم يستطع أحد أن يمنع قيامته...
ولكن لماذا لم يظهر لهم المسيح بعد القيامة؟ ألم يكن ذلك مناسبًا لكي يقنعهم فيؤمنوا؟!
لم يظهر لهم، لأنهم لم يكونوا مستحقين... ولأنه حتى لو ظهر لهم ما كانوا سيؤمنون... تذكرنا هذه النقطة بقول إبراهيم أبي الآباء للغني الذي عاصر لعازر المسكين "ولا لو قام واحد من الموتى يصدقون"، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى... ثم أن السيد المسيح قد فعل بينهم معجزات أخرى كثيرة، ولم يؤمنوا... وعندما شفي المولود أعمي، قالوا للمولود أعمي، قالوا للمولود أعمي: ألا تعلم أن الذي شفاك رجل خاطئ؟!!! وأثناء الصلب أظلمت الشمس، وتشققت الصخور، وحجاب الهيكل انشق، وقام بعض الموتى... ومع ذلك لم يؤمنوا..!!
لم يظهر لهم لأنهم غير مستحقين، ولأنهم لن يؤمنوا، فلماذا إذن لم يظهر لباقي الناس...
إن السيد المسيح ترك بذلك مجالًا للإيمان، والإيمان كما قال بولس الرسول "هو الثقة بما يرجَى، والإيقان بأمور لا تُرَى".. لو كانت القيامة مرئية، لانضمَّت إلى دائرة العيان وليس الإيمان هو "الإيقان بأمور لا تري". يكفي أنه ظهر للقادة، فآمن الكل بواسطتهم...
وبالإضافة إلى عنصر الإيمان، ليس الجميع يحتملون هذا الأمر، لذلك عندما ظهر المسيح في قيامته، حتى لخاصته، لم يظهر في مجده، لأنهم لا يحتملون...
مع تلميذيّ عمواس تَدَرَّج، فلم يعرفاه أولًا...
ومع مريم المجدلية، أخفي ذاته حتى ظنته البستاني، ثم أعلن نفسه لها بعد أن تدرج معها قليلًا. وشاول الطرسوسي عندما ظهر له في شيء بسيط من مجده، عميت عيناه من النور، ثم شفاه بعد ذلك. ويوحنا الحبيب لما ظهر له في شيء من المجد، وقع عند قدميه كميت، فأقامه وقال له لا تخف...
حقًا من يحتمل رؤية المسيح في مجده؟! أما في تواضعه، فكفي ما أظهره من إخلاء ذاته... سيظهر لهم فيما بعد في مجده، في المجيء الثاني فيقولون للجبال غطينا، وللتلال أسقطي علينا... وتنوح عليه جميع قبائل الأرض.
بروح القيامة وقوتها، بدأت المسيحية تاريخها المجيد...
إن عصر جديد من القوة، سار فيه التلاميذ... "وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم" (أع 4: 33).
كل ما فعلوه لمحاولة تحطيم المسيح، حطمه هو بقيامته...
بل الشيطان نفسه حطمته هذه القيامة...
المسيح الذي غلب الموت، والذي قال "ثقوا أنا قد غلبت العالم "هو أيضًا يقدر على كل شيء، ويستطيع باستمرار أن يقودنا في موكب نصرته. وهذا الغالب القائم من بين الأموات يمكن أن يقود مجموعة من الغالبين، يعطيهم من نعمته ومن قوته.
وهكذا استطاعت المسيحية العزلاء، أن تقف أمام اليهودية وأمام الديانات القديمة الأخرى، وأمام الفلسفات الوثنية، وأمام سطوة الرومان، وأمام المؤامرات والمحاكمات والاضطهادات، وظلت صامدة، تتقدم في قوة المسيح القائم من الأموات، حتى صارت الدولة الرومانية كلها دولة مسيحية، واختفت الوثنية من العالم، وصارت الأرض كلها للرب ولمسيحه.
كذلك كانت قيامة الجسد رمزًا للقيامة من الخطية.
وفي هذا قال الرسول "وإذ كنتم أمواتًا بالذنوب والخطايا... أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 1، 6).
ليتنا نعيش جميعًا في قوة القيامة، القيامة التي غيرت التلاميذ، والتي جعلت القبر الفارغ رمزًا للانتصار الدائم... القيامة التي كانت بدء القوة في حياة الكنيسة الأولى.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/resurrection/contemplation.html
تقصير الرابط:
tak.la/6fmscy6