لما كان بعض من المنادين بتأليه الإنسان (!!) لا يدركون تمامًا طبيعة الاتحاد بين اللاهوت والناسوت في تجسد السيد المسيح له المجد، لذلك رأيت أن أكتب هذا المقال لأوضح الحقيقة لهم، وأيضًا لكي لا يكونوا حكماء في أعين أنفسهم.
كلنا نؤمن باتحاد اللاهوت بالناسوت اتحادًا لم يفارقه لحظة واحدة ولا طرفة عين. ونؤمن أن هذا الاتحاد قد تم بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير. فما معنى عبارة (بلا تغيير)؟ معناها أن اللاهوت لم يتغير ليصير ناسوتًا، بل احتفظ بكل صفاته وخصائصه.
وهكذا الناسوت أيضًا لم يتغير ليصير لاهوتًا.
وسنضرب أمثلة عديدة لتوضيح هذه النقطة:
على الرغم من اتحاد اللاهوت بالناسوت في تجسد السيد المسيح، إلا أننا نلاحظ ما يأتي:
وهكذا قيل عن السيد المسيح في طفولته "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو 2: 52) وقيل عنه أيضًا "وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة (لو 2: 40).
هو بالناسوت كان ينمو، أما اللاهوت فمن المستحيل أن ينمو، لأنه في قمة الكمال على الدوام أو في الكمال المطلق.
اللاهوت متحد بالناسوت لا ينفصل عنه لحظة واحدة. ومع ذلك يقال عن الناسوت ينمو، واللاهوت لا ينمو. لأنه من خاصية اللاهوت عدم النمو. فلا يحسب أحد في جهلٍ أن اختلاف اللاهوت عن الناسوت في موضوع النمو هو انفصال بين اللاهوت والناسوت!!
وهو قال لتلاميذه "خرجت من عند الآب، وأتيت إلى العالم. وأيضًا أترك العالم واذهب إلى الآب (يو 16: 28).
طبعًا عبارة "أتيت إلى العالم" تنطبق على الناسوت فقط. أما من جهة اللاهوت، فقيل عنه "في العالم كان، والعالم به كون" (يو 1: 10) وبنفس الفهم اللاهوتي نتناول عبارة "أترك العالم" فالسيد المسيح قالها من جهة الجسد. أما من جهة اللاهوت، فقال "ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر (مت 28: 20) وقال أيضًا "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20).
فليس هناك تناقض بين عبارة "أترك العالم" وعبارة "أنا معكم"، "في وسطكم". وإنما إحداهما قيلت عن الناسوت، والأخرى عن اللاهوت، دون أي انفصال بين اللاهوت والناسوت...
لذلك حذارِ أيها الأبناء، فالسيد المسيح يقول "تضلون إذ لا تعرفون الكتب" (مت 22: 29)
وهكذا ورد عنه في القداس الغريغوري "وعند صعودك إلى السماء جسديًّا". وهكذا أيضًا قيل عنه في الأصحاح الأول من سفر الأعمال (أع 1: 9-11) إنه ارتفع وأخذته سحابه عن أعينهم، وأنه ارتفع عنهم إلى السماء، منطلقًا إلى السماء...
أما اللاهوت، فإنه لا يرتفع إلى السماء ولا يصعد.
إنه موجود في السماء، وفي الأرض، وما بينهما. ولا ينتقل من مكان إلى مكان، لأنه موجود في كل مكان، في نفس الوقت...
فإن قيل عن الناسوت إنه صعد جسديًا، وقيل عن اللاهوت إنه لا يصعد، فلا يعنى هذا إطلاقًا انفصال اللاهوت عن الناسوت! فلاشك أن السيد المسيح حينما صعد إلى السماء بالجسد، كان لاهوته متحدًا بناسوته بغير انفصال. ولكن نسب الصعود إلى الناسوت فقط، لأن الصعود ليس من خواص اللاهوت الموجود في كل مكان...
ومن له أذنان للسمع فليسمع...
حدث هذا عندما كان في السفينة وحدث اضطراب عظيم في البحر حتى غطت الأمواج السفينة "وكان هو نائمًا. فتقدم إليه تلاميذه وأيقظوه قائلين: يا سيد نجنا، فإننا نهلك" (مر 4: 37، 38).
ووردت قصة نومه في السفينة في إنجيل لوقا أيضًا (لو 8: 23، 24).
ولاشك أن هذا النوم قيل عن الناسوت فقط، لأن اللاهوت "لا ينعس ولا ينام" (مز 121: 4).
ومع أن النوم كان خاصًا بناسوته فقط وليس بلاهوته، إلا أن لاهوته كان متحدًا تمامًا بناسوته، بدليل أنه قام وانتهر الريح، وبسلطان قال للبحر اسكت إبكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم. وقال بعضهم لبعض: من هو هذا؟ فإن الريح أيضًا والبحر يطيعانه" (مر 4 39-41).
هنا اللاهوت متحد بالناسوت بلا انفصال. ولكن نسب النوم والاستيقاظ إلى الناسوت فقط، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأن النوم ليس من خاصية اللاهوت. ومن له أذنان للسمع فليسمع.
فقد قيل في صومه أربعين يومًا على جبل التجربة إنه "لم يأكل شيئًا في تلك الأيام. ولما تمت جاع أخيرًا (لو 4: 2) وورد ذلك أيضًا في إنجيل متى إنه "بعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة، جاع أخيرًا (مت 4: 2).
هو جاع بناسوته، وجرب بناسوته، مع أن لاهوته متحد به، بدليل أنه لما انتهر الشيطان وقال له اذهب يا شيطان، ذهب "وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت 4: 10، 11).
ومع ذلك فالجوع ينسب إلى الناسوت، لأن الجوع ليس من خواص اللاهوت. وكون اللاهوت لم يشترك في الجوع، إلا أن هذا لا يعني إطلاقًا انفصاله عن الناسوت...
ونفس الكلام يقال عن عطش السيد المسيح. فهو على الصليب قال "أنا عطشان" (يو 19: 28).
إن اللاهوت لا يجوع ولا يعطش. وبالتالي لا يأكل ولا يشرب. وهذا لا يمنع أبدًا إنه متحد بالناسوت لا ينفصل عنه لحظة واحدة ولا طرفة عين. ولكن له خواصه وصفاته التي لم يفقدها في اتحاده بالناسوت...
وفي قصة لقائه مع المرأة السامرية قيل عنه "وإذ كان يسوع قد تعب من السفر، جلس هكذا على البئر (يو 4: 6).
واللاهوت لا يتعب. ولاشك أن المسيح تعب بالجسد، مع اتحاده باللاهوت.
واللاهوت -في اتحاده بالناسوت- لم يمنع عنه خواص الجسد، ولا ضعفاته من حيث التعب والألم، والجوع والعطش، والحاجة إلى الراحة وإلى النوم. ولم يمنع عنه الحاجة إلى الأكل والشرب... ذلك لأنه شابه طبيعتنا في كل شيء ما عدا الخطية.
هو نفسه قال لتلاميذه قبل الصليب "إنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم، ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم (مت 16: 21) وبعد القيامة قال لتلاميذه: "هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" (لو 24: 46) وقيل عنه في الرسالة إلى العبرانيين إنه تألم خارج الباب (عب 13: 12) وأنه "فيما هو قد تألم مجربًا يقدر أن يعين المجربين" (عب 2: 18).
والآيات عن آلامه كثيرة جدًا، وتشمل اللطم والجلد والصليب والمسامير والشوك، وأمورًا أخرى كثيرة كما في (مزمور 22: 7 - 18).
ومع كل ذلك، فاللاهوت لا يتألم. ومن يقول بآلام للاهوت يقع في هرطقة. وفي كل آلام المسيح كان لاهوته متحدًا بناسوته لم ينفصل عنه لحظة واحدة ولا طرفة عين.
ومع كل ذلك ففى موته كان متحدًا باللاهوت لم ينفصل عنه.
ونحن نقول له في قطع الساعة التاسعة "يا من ذاق الموت بالجسد في وقت الساعة التاسعة".. ونقول في القسمة السريانية عن موت المسيح "انفصلت نفسه عن جسده. ولاهوته لم ينفصل قط عن نفسه ولا عن جسده"..
إن الموت من خواص الناسوت، وليس من خواص اللاهوت. وكونه ليس من خواص اللاهوت، فهذا لا يعنى إطلاقًا انفصاله عن الناسوت.
على الرغم من اتحاد اللاهوت بالناسوت، فإن اللاهوت احتفظ بخواصه في أنه لا يتعب، ولا يتألم، ولا يموت، ولا ينمو، ولا يصعد، ولا يعطش، ولا يجوع، ولا ينام... كما سبق وشرحنا.
وفي تقديم الرب هذا السر لتلاميذه، قال لهم: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. خذوا اشربوا، هذا هو دمى (مت 26: 26-28 مر 14: 22-24) ولم يذكر إطلاقًا عبارة "لاهوتي".
كذلك قال القديس بولس الرسول "كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح، والخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟" (1 كو 10: 15، 16) وهكذا عّلم عن شركة في الجسد والدم، وليس شركة في اللاهوت كما يقول المنادون بتأليه الإنسان!! حقًا إن لاهوت المسيح لم ينفصل عن ناسوته. ولكن أيضًا إن اللاهوت لا يؤكل . ولا يشرب، فهذه إحدى خواصه
* وقد كرر القديس بولس الرسول في (1كو 11) نفس كلمات الرب في تسليم هذا السر لتلاميذه. ثم قال "إذن أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه... لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونه لنفسه غير مميز جسد الرب (1 كو 11: 27-29) ولم يشر إطلاقًا إلى لاهوته وهو يتحدث عن خطورة التناول بدون استحقاق، بل قال "يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه".. واكتفى...
والسيد الرب يقول عن هذا السر في إنجيل يوحنا.
"جسدي مأكل حق. ودمى مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمى، يثبت في وأنا فيه (يو 6: 55، 56) ولم يقل من يأكل ويشرب لاهوتي.
ذلك لأن اللاهوت لا يؤكل ولا يشرب على الرغم من اتحاده بالناسوت. فلا تنادوا بتعاليم غريبة لم ترد في الكتاب المقدس ولا في أقوال الآباء!
كما أن الآباء أعطونا مثالا لاتحاد الناسوت واللاهوت، باتحاد الحديد المحمى بالنار، وباتحاد الروح والجسد... ومن له أذنان للسمع فليسمع...
أما قول الرب "يثبت في، وأنا فيه" فليس معناه الثبات في لاهوته! فالذين تناولوا لأول مرة في العشاء الرباني لم يثبتوا... فمنهم من خاف وهرب، ومنهم من أنكره ثلاث مرات. وكلهم اختفوا في العلية هربًا من اليهود...
عبارة "يثبت في وأنا فيه" فسرها الرب في إنجيل يوحنا أيضًا حينما قال لرسله "اثبتوا في محبتي" "إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي" (يو 15: 9، 10) ولم يتكلم عن الثبات في لاهوته...
نصيحتي لكم يا أبنائي: تواضعوا، ولا تتألهوا. ولا تظنوا في أنفسكم أنكم قد صرتم أوصياء على الأرثوذكسية أو أوصياء على أقوال الآباء!!.. وتذكروا باستمرار قول الكتاب: قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح (أم 16: 18).
لأنني ما زِلت حتى الآن متمسكًا بقول الدسقولية "أمح الذنب بالتعليم"، وما زِلت مُشفقًا عليكم... فليتكم أنتم تشفقون على أنفسكم مما أنتم فيه...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/new-heresies/divinity-humanity.html
تقصير الرابط:
tak.la/hzw6mtj