الفصل السابع: المحبة تحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء (1 كو 13: 7)
المحبة تحتمل وتصبر
لست أريد في هذا المقال أن أحدثكم عن الاحتمال بصفة عامة. فالاحتمال موضوع طويل، وله أسباب عديدة. فهناك من يحتمل بسبب الوداعة والهدوء. وهناك من يحتمل بسبب أتضاع قلبه، أو بسبب الحكمة ويتجنب عواقب الأمور. أو لأسباب أخرى ولكن موضوعنا الآن هو الاحتمال بسبب المحبة... المحبة التي تحتمل كل شيء...
الذي يحب شخصًا، يكون مستعدًا أن يحتمل منه، وأن يحتمل من أجله.
أبونا يعقوب أبو الآباء أحتمل الكثير من أجل محبته لراحيل. أحتمل أباها، الذي غير أجرته عشر مرات، وأحتمل سنوات طويلة يخدمه فيها، قال عنه (كنت في النهار يأكلني الحر، وفي الليل الجليد، وطار النوم من عيني) (تك31: 40). ويقول الكتاب (فخدم يعقوب براحيل سبع سنين. وكانت في عينه أيام قليلة، بسبب محبته لها) (تك29: 20).
أيضًا يوناثان احتمل كثيرًا من أجل محبته لداود.
احتمل غضب أبيه الملك شاول، وتوبيخه له بكلام قاسي بسبب دفاعه عن داود، حتى أن شاول القي رمحه نحو يوناثان ليقتله (1صم20: 30، 33).
ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، احتمال الشهداء والنساك من أجل محبتهم لله. وكذلك أيضًا الأنبياء والرسل.
الشهداء احتملوا السجن والعذابات التي لا تطاق، ثابتين في محبة الله، رافضين أن ينكروه إلى أن قطعت رقابهم. ومن أجل محبة الله، احتمل الثلاثة فتية إلقاءهم في أتون النار، واحتمل دانيال أن يُلْقَى في جب الأسود (دا 3، 6).
ومن أجل محبة الله احتمل الرهبان والسواح والنساك أن يعيشوا في البراري والقفار وشقوق الأرض، بعيدًا عن كل عزاء بشري، في شظف الحياة زاهدين في كل شيء.
ومن أجل محبة الله ونشر ملكوته، احتمل الرسل ألوانًا من الأتعاب في كرازتهم (في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات، في ضربات في سجون، في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام...) (2كو6: 4، 5).
ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، محبة الأمومة والأبوة.
محبة الأم التي تحتمل متاعب الحمل والولادة والرضاعة، ومتاعب الصبر في تربية الطفل والعناية به، في غذائه وفي نظافته، وفي الاهتمام بصحته، وفي تعليمه النطق والكلام، وفي الصبر على صراخه وصياحه وعناده... إلى أن يكبر.
وكذلك تعب الأب في تربية أبنائه، واحتمال مشقة العمل بكافة الطرق للإنفاق عليهم وتوفير كافة احتياجاتهم.
ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، محبة الجنود لوطنهم.
فمن أجل وطنهم الذي يحبونه، يحتملون ماش التدريب والحرب، والتعرض للموت أو للإصابة، وربما يحتملون فقد بعض أعضائهم، ومع جروح أو تشوهات.
ونفس الوضع نقول على ما يتحمله الشرطة لحفظ الأمن.
كل هذا عن المحبة من أجل الغير، المحبة التي لا تطلب ما لنفسها وإنما ما للغير... أيضًا كمثال رجال المطافئ، وفرق الإنقاذ على تنوع تخصصاتها...
ننتقل إلى الحديث عن محبة الغير واحتمال تصرفاتهم.
المحبة التي تحتمل الغير وتغفر له، والتي تحول الخد الآخر لمن يضرب اللَّطمة الأولى. المحبة التي تحتمل الإساءة، ولا ترد بالمثل... والمحبة لا تشكو من السيئ ولا تشهر به... وننسى الإساءة، ولا تخزنها في ذاكرتها -كما يفعل البعض- لشهور وسنوات... المحبة التي لا تقول: هذه حقوقي وهذه كرامتي.
المحبة التي تحتمل، هي محبة صاحب القلب الكبير الواسع.
القلب الذي يحتمل العتاب ولا يتضايق. وكما قال أليفاز التيماني: (إن لأمتحن أحد كلمة معك) (أي4: 2)، تحتمل العتاب، حتى لو كان بكلمة صعبة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. . وتحتمل حتى الفكاهة ولو كانت بأسلوب يبدو فيه التهكم...
على أن يكون الاحتمال في غير ضجر ولا تزمر ولا ضيق.
بل بصدر رحب، وروح طيبة، غير متمركز حول ذاته وحول كرامته. أن صفات المحبة التي ذكرها القديس بولس الرسول تترابط معًا. فطبيعي أن المحبة التي لا تطلب ما لنفسها، سوف لا تطلب كرامة لذاتها، وبالتالي ستحتمل كل شيء. كذلك فإن المحبة التي لا تحتد، سوف تحتمل. وأيضًا التي لا تتفاخر سوف تحتمل...
بعض الناس لا يحتملون الذين لا يفهمونهم.
ومن هنا كانت مشكلة الأذكياء مع الجهلاء أو الأقل فهمًا، أو مع الطباق الجاهلة. لذلك يبعد مثل هؤلاء عن كثير من الناس. وقد لا يحتمل الواحد منهم طول الوقت في إقناع غيره، فيبعد عنه. ولو كان في قلبه حب نحوه لأطال أناته عليه، لأنه (المحبة تتأنى). وأيضًا كان يصبر لأن المحبة تصبر. وهكذا يضم أليه هذا الجاهل ويحتمله، ويرجو منه خيرًا. وهكذا مع الأطفال...
القلب الضيق الخالي من الحب، هو الذي لا يحتمل الآخرين:
وهكذا قال بولس الرسول لأهل كورنثوس (فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون. قلبنا متسع. لست متضايقين فينا، بل متضيقين في أحشائكم... لذلك أقول كما لأولادي: كونوا أنتم أيضًا متسعين) (2كو6: 12، 13).
القلب المتسِع يستطيع أن يحتمل الناس.
كن أذن متسع في قلبك وفي صدرك وفي فهمك. ولا تتضايق بسرعة. وأعرف أن المجتمع فيه أنواع متعددة من الناس. وليسوا جميعًا من النوع الذي تريده. يوجد فيهم كثيرون لم يصلوا بعد إلى المستوى المثالي، ولا إلى المستوى المتوسط. وعلينا أن نحبهم جميعًا. وبالمحبة ننزل إلى مستواهم لنرفعهم إلى مستوى أعلى. نتأنى ونترفق عليهم، ونحتمل كل ما يصدر من جهالتهم، ونصبر عليهم حتى يصلوا...
لا تقُل [الناس متعبون] بل بمحبتك تعامل معهم، وحاول أن تصلح من طباعهم.
ولو كنت لا تتعامل مع المثاليين، فعليك أن تبحث عن عالم أخر تعيش فيه.
في إحدى المرات قال لي شخص "أنا لم اعد أحتمل فلان) إطلاقًا... إنه شخص لا يُطَاق، لا يمكن احتماله"!! فقلت له (وكيف إذن احتمله الله منذ ولادته حتى الآن؟! وكيف احتمل غيرة وأمثاله منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا؟! حقًا إن هذا لعجبًا)!
وقال لي آخر: "فلان" يقول الكلمة ويرجع عنها. فكيف يمكن أن أعاشره. أن عشرته لا تُحْتَمَل.
فقلت له. وكم مرة تعهدنا الله بشيء، ورجعنا في كل تعهداتنا؟! وكم مرة وعدنا ولم نف بوعودنا، واحتمالنا!!
كم مرة وعد فرعون أن يطلق الشعب إن رُفِعَت عنه الضربة. ويرفع الله الضربة، ولا يفي فرعون بوعده. ثم يعود الله فيحتمله في وعد أخر!! (خر 8-10). بينما الله كان يعرف مسبقًا أن فرعون سوف لا يفي بوعده.
وما لنا فرعون. كم مرة نذرنا لله ولم نف. وكان الله يعرف ذلك. ومع ذلك حقق لنا ما نطلبه في نذرنا!!
فإن كان الله يحتملنا في كل هذا، فلماذا لا نحتمل غيرنا؟!
وكم مرة قدمنا لله توبة كاذبة. وكان الله يقبل اعترفنا وتوبتنا، ويسمح لنا بالتناول من الأسرار المقدسة. ثم نعود إلى خطايانا السابقة!! ويحتملنا الله ويطيل أناته علينا، حتى نتوب مرة أخرى...
كم مرة يأتي موعد الصلاة، فتقول ليس لدينا وقت نصلي فيه. يقول التراب والرماد للخالق العظيم: ليس لدي وقت أكلمك!! ويحتمل الله عبده... وكأنه يقول له: إن وجدت وقتًا افتكرني!
حقًا ليتنا نتعلم دروسًا من معاملة الله ونحتمل الناس.
نحتملهم كما يحتملنا الله. ونحتملهم لكي يحتملنا الله. لأنه يقول (بالكيل الذي تكيلون، يكال لكم ويزاد) (مت7: 2؛ مر4: 24).
بل تذكر كيف أحتمل الرب عذابات الصليب والإهانات السابقة للصليب، والتحديات المصاحبة للصليب التي تقول (لو كنت أبن الله أنزل عن الصليب وخلص، نفسك) (مت26: مر15). ولكنه أحتمل الاستهزاء ولم ينزل، بسبب محبته لنا، لكي يخلصنا. ونحن نقول له في القداس الإلهي:
"احتملت ظلم الأشرار" وأحب أن أضيف إليها: واحتملت ضعف الأبرار.
احتمل ظلم الأشرار الذين صلبوه، واحتمل ضعف الأبرار الذين هربوا وتركوه. احتمل من أنكره، ومن شك فيه. ومن قال لا أؤمن إن لم أضع إصبعي موضع المسامير... حقًا أن المحبة تحتمل كل شيء.
إن المسيح على الصليب احتمل وحمل. احتمل كل التعييرات والعذابات، وحمل جميع خطايا الناس منذ بدء الخليقة إلى أخر الدهور. فليتنا نحتمل نحن أيضًا أخطاء المسيئين إلينا، ونحتملها في حب.
هذا كله من جهة الناس. فماذا عن العلاقة بالله؟
الذي يحب الله، لا يتضايق من انتظار الرب، بل يحتمل.
قد يصلي، ولا يجد أن الصلاة قد اسْتُجِيبَت، فلا يشك في محبة الله. ولا يظن أن الله قد نسيه، بل يحتمل هذا (التأخر) في الاستجابة، أو ما يظنه تأخرًا! لأن الله يعمل دائمًا في الوقت المناسب، حسب حكمته...
لذلك ما أعجب أبانا إبراهيم، الذي ينطبق عليه قول الرسول (المحبة تصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء). لقد وعده الله بنسل، ومرَّ على ذلك أكثر من عشرون عامًا، دون أن تلد سارة. ولكن إبراهيم كان لا يزال يرجو ما وعده به الرب وصدقه وما زال يرجو. وولد له الابن بعد خمسه وعشرون عامًا من وعد الله. جميل قول المزمور:
(انتظر الرب. تقو وليتشدد قلبك، وانتظر الرب) (مز27: 14).
حقًا إن المحبة التي تصدق وعود الله، تستطيع أن تصبر على كل شيء، وترجو كل شيء، وتنتظر الرب. وأيضًا تحتمل، مهما طال الوقت. كما قال المرتل (انتظرت نفسي الرب، محرس الصبح حتى الليل) (مز130).
القلب الواسع المحب، يستطيع أن يصبر وينتظر. أما القلب الضيق أو الذي محبته قليلة، فهذا يتضجر. يريد أن يطلب الطلب، ويناله في التو واللحظة...
كذلك الإنسان المحب لله يحتمل التجارب والمشاكل.
ولا تتزعزع محبته لله مهما طال وقت التجربة، أو ازدادت حدتها. بل يقول في ثقة (كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله) (رو8: 28). وكما قال القديس يعقوب الرسول (احسبوا كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة) (يع1: 2). أن المحبة تحتمل كل شيء، في ثقة وفي غير تذمر. ولا تتعجل حل المشكلات، بل تنتظر الرب وتصبر. وتعطي المشكلة مدى زمنيًا يحلها الله فيها، في الوقت الذي يراه مناسبًا، وبالطريقة التي يراها مناسبة.
والإنسان المُحِب لله، يحتمل الضيقات المادية.
ويقول مع القديس بولس الرسول (قد تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه... تدربت أن أشبع وأن أجوع. أن أستفضل وأن أنقص...) (في 4: 11، 12).
(المحبة تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء) (1كو13: 7). وقد أسهبنا في عبارة (تحتمل...).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/love/endure.html
تقصير الرابط:
tak.la/ab8tsp2