وكأنَّى بالبعض يسمع داود فيتعجب... ماذا تقول أيها المسكين؟ "ناصري؟! ومجدي؟! ورافع رأسي؟!" كيف هذا؟ وأنت قد خرجت باكيًا وحافيًا، وكل الذين وراءك يبكون معك!! وصديقك حوشاي الأركي لما أتى للقائك، جاءك ممزق الثوب والتراب على رأسه (2صم 15: 32)! هل في هذا مجد ونصرة؟! وهوذا شمعي بن جيرا يشتمك ويقول: "اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال" وأنت تقول لاصحابك في مذلة: "دعوه يسب، لأن الرب قال له سب داود... لعل الرب ينظر إلى مذلتي.." (2صم 16: 5-12). هل تقول بعد كل هذا "مجدي ورافع رأسي"؟!
ولكن داود قال عبارته هذه بروح الإيمان، غير ناظر إلى ما هو فيه، وإنما إلى معونة الرب الآتية. لم يكن يحيا في الضيق الحاضر، وإنما في الفرح المقبل، وفي قلبه" الإيقان بأمور لا ترى" (عب 11: 1)
كان وهو في مرارة ضيقته، يرى خلاص الرب ماثلًا أمامه، حتى قبل أن يأتي. أنها فضيلة الرجاء، التي لا تعرف ضيقًا ولا يأسًا. وليس الرجاء فقط، وإنما أيضًا "الثقة بما يرجى" (عب 11: 1). يتدرج منها الإنسان المؤمن إلى قول الرسول: "فرحين في الرجاء" (رو 12: 12).
المتاعب موجودة والله أيضًا موجود. الإيمان به وبعمله، يغطى على كل المتاعب، فلا نراها، إنما نرى عمل الله ونفرح به ونَتَغَنَّى به في مزاميرنا.
ونقول في عمق المتاعب: "أنت يا رب ناصري. مجدي ورافع رأسي". أنت يا رب ضابط الكل. أنت لم تخلق الكون وتتركه. إنما أنت ترعاه. أنت تنظر إلى كل ما يحدث على الأرض، وتقيم العدل بين الناس. وكما قال نبيك ملاخي: "والرب أصغى وسمع، وكتب أمامه سفر تذكرة" (ملا 3: 16).
أتراك لم تنظر أبشالوم وشِمعي وأخيتوفل؟ كلا بل رأيتهم في غرورهم وثورتهم وخيانته، ورأيتني فيما أنا فيه من ظلم ومذلة. هذا أنا اسمع صوتك:
"من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم -يقول الرب- أصنع الخلاص علانية" (مز 11).
وداود يحس بهذا تمامًا، فيقول في كثير من المناسبات آن الله ترس لي (مز3:3)(1)، درع واقٍ من كل ضربات الأعداء. ترس أو ودرع من كل سهام شاول الملك (2صم10) بل من "كل سهام الشرير الملتهبة" (أف 6:16). نعم انه الله الذي: "لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين..." (مز 125: 3).
إنه إله المساكين والضعفاء والعاجزين أمام من هو أقوى منهم...
نقول له في صلواتنا الطقسية: "يا معين من ليس له معين، ورجاء من ليس له رجاء، وعزاء صغيري النفوس، ميناء الذين في العاصف". ويقول داود النبي: "جميع عظامي تقول يا رب من مثلك: المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه، والفقير والبائس من سالبه" (مز 35: 10).
لذلك بينما يعتمد الأقوياء على أنفسهم، نجد الضعفاء يصرخون إلى الله...
إن داود لم يصرخ إلى الله، حينما كان شاعرًا بقوته وبقدرته على ضرب نابال الكرملي (1صم 25: 13، 22). ولكنه صرخ إلى الله وهو شاعر بعجزه أمام شاول، وبعجزه أمام أبشالوم، بسبب قوتهما من جهة. ومن جهة أخرى لأن شاول هو مسيح الرب وأبشالوم هو ابن داود. لذلك فهو عاجزًا عن ضربهما لأسباب نفسية في داخله، وأيضًا لأنهما لا يباليان بأي تصرف بسبب انحدار مستواهما الروحي... ولهذا فإنه يصرخ إلى الله: يا رب كيف يحدث هذا؟ كيف كثر الذين يحزنونني؟
حقًا، كلما وقف الإنسان ضعيفًا أمام الله، كلما كان مستحقًا لمعونته الإلهية
لأنه من عمل الرب أن يبشر المساكين، ويعصب منكسري القلوب (أش 61: 1). وكما قال الرب في رعايته لغنمه: "أنا أرعَى غنمي وأربطها... وأجبر الكسير، وأعصب الجريح.." (خر 34: 15، 16). وهنا كان داود في موقف الكسير الجريح. لم يكن الملك العظيم الجالس على عرشه، وإنما كان الملك الطريد الهارب من وجه أعدائه...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
إن القوي عُرْضَة للسقوط أكثر من غيره، غالبًا بسبب كبريائه واعتزازه وبقوته!
لأنه "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18). فالأقوياء من فرط غرورهم بقوتهم لا يحترسون، فيسقطون لقلة الحرص. ومن ثقتهم بأنفسهم لا يشعرون بحاجتهم إلى قوة خارجية، فلا يصلون طالبين معونة. وإذ يبعدون أنفسهم عن عمل النعمة يسقطون. ولذلك قيل عن الخطية أنها: "طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء" (أم 7: 26).
وكان داود يصلي لينقذه الرب من الأقوياء.
كان يقول: "اللهم باسمك خلصني... فإن الغرباء قد قاموا عليَّ، والأقوياء(2) طلبوا نفسي. لم يجعلوا الله أمامهم" (مز54: 1، 3). وهكذا كان كل الأقوياء الذين قاموا ضد داود: الأسد والدب، وجليات، وشاول، وأبشالوم. وكلهم "لم يجعلوا الله أمامهم" واختبر داود كيف أن الله نصره ضد كل هؤلاء. فقال له هنا: "أنت ناصري رافع رأسي" أنت كنت درعًا وترسًا لي، اصد به كل سهام أعدائي... وهكذا لم يمت شاول بيد داود، ولا مات أبشالوم بيد داود، لأن الحرب للرب الرب هو الذي خلصه منها...
حقًا، كما قال موسى النبي: "لا تخافوا قفوا وانظروا لاص الرب... الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14). وبالنسبة إلى داود، لم يكن الرب فقط ترسًا له، درعاَ يصد الهجمات، إنما يقول عنه بالأكثر: "مجدي ورافع رأسي"..
_____
(1) انظر أيضًا (مزمور 18: 30؛ 7: 10؛ 28: 17؛ 59: 11).
(2) في ترجمة أخرى "العُتَاة". وفي ترجمة أخرى Ruthless أي عديمو الشفقة الذين لا يرحمون ولا يشفقون.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/lord-how/you-are-a-shield.html
تقصير الرابط:
tak.la/vfg44d8