محتويات |
نعم، أختاره الله قبل أن يولد. بل منحة أيضًا البركة والسيادة وهو بعد في بطن أمه.
وقال لأمه وهي حبلي "في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوي علي شعب، وكبير يستعبد لصغير" (تك 25: 23). والكبير هو عيسو والصغير هو يعقوب. ويكلمنا القديس بولس الرسول في رسالته إلي أهل رومية عن هذا الموضوع فيقول: "لأنه وهما لم يلدا بعد، ولا فعلًا خيرًا ولا شرًا، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار، ليس من الأعمال بل من الذي يدعو، قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير. كما هو مكتوب: أحببت يعقوب، وأبغضت عيسو" (رو: 11- 13)
إن قصة يعقوب ترينا كيف أن الله أختار ضعفاء العالم، ليخزي بهم الأقوياء (1كو 1: 27).
نعم، كان يعقوب ضعيفًا ومسكينًا. وكان من أخيه عيسو القوي الجبار، ورجل الصيد والسهام والنبال... ذلك الذي في لقائه فيما بعد "خاف يعقوب جدًا، وضاق به الأمر" (تك 32: 7). وصلي إلي الله قائلًا "نجني من يد أخي، من يد عيسو، لأني خائف منه أن يضربني الأم مع البنين" (تك 32: 11). يعقوب كان ضعيفًا باستمرار أما عيسو. ولم يقو عليه، إلا عندما كان عيسو متعبًا معيي، وقد قال "ها أنا ماض إلي الموت، فلماذا لي بكورية" (تك 25: 32). إن الله يقف باستمرار أمام الضعفاء المساكين. أما جبابرة البأس المعتزون بقوتهم، فيتركهم إلي قوتهم ولو إلي حين. حتى يدركوا أن قوتهم لا تنفعهم بشيء، فيصرخون في ضعف وفي التجاء إلي قوة الله...
لقد اختار الله يعقوب الضعيف. وكثيرًا ما نري أنه قد أختار ضعفاء آخرين.
فعندما جاء صموئيل النبي ليختار واحدًا من أولاد يسى ليمسحه بالدهن المقدس، وعبر أمامه كل أولاد يسى الكبار وأصحاب الوسامة، لم يخترهم الله. بل اختار الصغير الذي كان مع الغنم... اختار داود الذي ظل يتغني بهذا الأمر قائلًا: صغيرًا كنت في بيت أبي، وحدثًا كنت بين بني أمي".. "أخوتي كبار وحسان وهم أعظم مني. ولكن الله لم يسر بهم".. كان الناس يختارون دائمًا الأقوياء. وعندما أرادوا اختيار ملك، فرحوا بشاول أطول إنسانًا في الشعب (1صم 10: 23). ولكن الله ليس كذلك... لقد اختار يعقوب وأحبه. وأحب فيه ضعفه ومسكنته.
العجيب أن يعقوب كانت له أيضًا ضعفاته السلوكية وأخطاؤه. ولكن عمل روح الله حتى حوله إلي ذلك القديس الذي نتشفع به في صلواتنا.
كان من أخطائه الاعتماد علي الذراع البشري، وعلي الحيل العالمية في حل مشاكله... إنه مثلًا يريد أن يأخذ البكورية من أخيه. فينتهز فرصة كان أخوه جائعًا وفي غاية التعب، يطلب منه طعامًا ليأكل، فيقول له يعقوب "بعني بكوريتك" و"احلف لي اليوم" (تك 25: 31، 33). وهكذا اشتري منه البكورية بما أعطاه من طعام. وهذا لا يدل طبعًا علي محبة خالصة، كما أن البكورية ليست متاعًا يباع ويشتري ! ولكنها طريقة بشرية وانتهاز للفرص.
هناك طرق وحيل بشرية أخري لجأ إليها يعقوب:
* منها أنه خدع أباه اسحق، لكي يباركه. وألهمته ذلك الخداع أمه رفقه. نعم إنها قديسة، ولكنها في ذلك الموقف بالذات علمته الكذب والتحايل واستخدام الذكاء البشري بطريقة خاطئة. ولما خاف يعقوب من خطية الخداع هذه، لئلا تجلب له لعنة، قالت له "لعنتك علي يا ابني، اسمع لقولي.." (تك 27: 13). فسمع لها...
* وأيضًا عندما أراد يعقوب أن يعوض خسائر في الأجرة من خاله لابان، لجأ أيضًا إلي طرق وحيل بشرية (تك 30: 37-43).. حتى أن خاله سار وراءه وقال له "خدعتني". وكاد يصنع به شرًا، لولا تدخل الله لحمايته (تك 31: 27). وأمور أخري صنعها يعقوب. ولكن علي الرغم من كل ذلك، أراني أوقف متعجبًا أمام آية ذكرها الوحي إلهي وهي:
"وكان يعقوب إنسانًا كاملًا يسكن الخيام" (تك 25: 27).
أي كمال هذا تقصده يا رب؟ وما مقياسه؟ لعله بلا شك، الكمال النسبي، نسبة إلي ذلك العصر الذي عاش فيه يعقوب. علي الأقل من جهة الإيمان (عب 11: 21)، وإكرامه لوالديه علي قدر استطاعته، وعدم زواجه من بنات كنعان حسب وصية أبيه له (تك 28: 1). ولم يفعل مثل أخيه عيسو الذي اتخذ له زوجتين من بنات الحيثيين "فكانتا مرارة نفس لإسحاق ورفقة" (تك 26: 35). كذلك كان عفيفًا، ولم يكن مثل أخيه عيسو الذي قيل عنه انه كان مستبيحًا (عب 12: 16). ولم يكن قاسيًا مثله... علي أيَّة الحالات، ظل الله يطهره من أخطائه التي عن ضعف، وليست عن فساد في الطبيعة، حتى صار أخيرًا أبيض كالثلج، وعمل فيه روح الله للنبوءة كما بارك افرام ومنسي (تك 48: 14- 19) وكذلك باقي أولاده (تك 49). فكما قال هكذا حدث لهم...
حسب سبق علم الله، أختار يعقوب دون عيسو...
كما قال الكتاب "الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم... وهؤلاء دعاهم أيضًا... وبررهم... ومجدهم" (رو 8: 29، 30). قبل أن يولد يعقوب وعيسو، وقبل أن يفعلا خيرًا أو شرًا... كانت حياتهم المستقبلة واضحة تمامًا أمام الله الذي يعرف كل شيء قبل أن يكون. كان هو وأخوه توأمين. وعجيب أنه قيل عنهما:
"حبلت رفقة... وتزاحم الولدان في بطنها" (تك 25: 22).
إن الناس يتزاحمون في موكب الحياة. وكل منهم يريد أن يكون السابق، وأن يكون الأول. وليس هذا بعجيب. ولكن العجيب أن يتزاحم جنينان توأمان!! ولقد كسب عيسو الجولة الأولي، وكان هو السابق، وخرج أولًا "خرج أحمر كفروة شعر، فدعوا أسمه عيسو" (تك 25: 285). وصار هو -حسب الميلاد- البكر والكبير.
ولكن إرادة الله في البركة كانت غير ذلك...
عيسو كان الكبير. وكانت إرادة الله هي "كبير يستعبد لصغير" (تك 25: 23)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كان عيسو الأول في ولادته. ولكن يحدث أحيانًا في مشيئة الله: "كثيرون أولون يكونون آخرين. والآخرون يكونون أولين" (مر 10: 31). وهذا ما حدث مع عيسو ويعقوب.
إن وضعك الله أخيرًا، فلا تحزن ولا تبتأس.
لعله من حكمة الله أن تكون كذلك. بل يقول الرب "أن أراد أحد أن يكون أولًا، فليكن آخر الكل، وخادمًا للكل" (مر 9: 35) (مر 10: 44) (مت 20: 27). كان الله يستطيع أن يجعل يعقوب يخرج من بطن أمة أولًا. لكنه أراد أن يبقيه صغيرًا، لكي ينسحق قلبه ويطلب المعونة من الله. وبنفس المنطق شاء الله أن يكون يعقوب أضعف من عيسو من جهة قوة الجسد. ولم ينتفع عيسو بقوة جسده، وإن أخافت يعقوب!
كان عيسو رجل صيد، يستطيع أن يخضع حتى الوحوش.
"إنسان برية" (تك 25: 27). كان يعرف كيف يضرب بالسهام والنبال. كان شديدًا. وربما الصيد أدخل في طبعه شيئًا من القسوة، أو كثيرًا من القسوة. مما جعله يقول فيما بعد ".. أقتل يعقوب أخي" (تك 27: 41). والله لا يحب القسوة ولا العنف. وكل الذين يستخدمون القسوة والعنف، يخرجون أنفسهم من دائرة الله. وكثير من الذين حاربهم الله محاربة شديدة، كانوا أشداء. والكتاب يقول "أن الله يقاوم المستكبرين، أما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يع 4: 6).
لقد تزاحم يعقوب في بطن أمه، ولكنه لم يستطع...
كان عيسو أقوي منه وهو جنين، فخرج أولًا... والتزاحم لم يفد عيسو ولا يعقوب، لأن الله كان له ترتيب خاص قد أعلنه، ولا يبني علي التزاحم، إنما علي التدبير الإلهي والحكمة الإلهية التي لا بُد أن تنفذ أخيرًا.
والعجيب أن التزاحم استمر بين هذين الأخوين..!
ليس فقط في من يخرج أولًا من بطن أمه... إنما أيضًا كان لهما تزاحم حول البكورية لمن تكون؟ وتزاحم آخر حول البركة. من الذي يسبق فيأخذها من أبيهما الشيخ اسحق؟.. بل صار فيما بعد تزاحم بين نسلهما. ولعل هذا ما قصده الرب لرفقة "في بطنك أمتان. ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوي علي شعب" (تك 25: 23). فأولاد يعقوب هم شعب إسرائيل. وأولاد عيسو أدوم، لأن عيسو "دعي أسمه أدوم" (تك 25: 30).. يمكن لمن يبحث التاريخ أن يتتبع الحروب بين بني إسرائيل وبني أدوم. ولعلنا هنا نشير فقط إلي قول المزمور "أذكر يا رب بني أدوم في يوم أورشليم، القائلين انقضوا انقضوا حتى الأساس منها" (مز 137: 7).
واستمر التزاحم أيضًا بين الأختين زوجتي يعقوب:
تزاحم في إنجاب البنين: من منهما تنجب أكثر. حتى أنهما رادتا أن تحصلا علي بنين ينسب إليهما من كل من جاريتيهما. ووصل هذا التزاحم إلي لون من الصراع حتى قالت راحيل في ذلك مصارعات الله قد صارعت مع أختي" (تك 30: 8).. بل كان بينهما صراع آخر حول محبة يعقوب لأي منهما. حتى قالت ليئة عندما ولدت روأبين "أنه الآن يحبني رجلي" (تك 29: 32). وقالت أيضًا عندما حبلت بابنها لاوي "هذه المرة يقترن بي رجلي، لأني ولدت له ثلاثة بنين" (تك 29: 34)..
يعقوب صار نسله شعبًا، وكذلك عيسو...
وهنا نتذكر مرة أخري قول الرب لرفقة "في بطنك أمتان، ومنك يفترق شعبان". حقًا، يمكن أن يصير الابن شعبًا كما صار أخوه. بل قد يصير الفرد الواحد شعوبًا كثيرة، وأبونا إبراهيم أبو الآباء هو مثال واضح لذلك. وبنفس الوضع نوح أبو البشرية كلها بعد الطوفان... ويوضح لنا هذا الأمر واجب الأبوين في تربية أبنائهما. فكل ابن سيصير أسرة تتفرغ إلي أسرات... وكذلك كل ابنه. كما قيل لرفقة أم يعقوب وهي ذاهبة لتتزوج أبينا اسحق: "صيري ألوف وربوات" (تك 24: 60).
غير أنه من جهة يعقوب وعيسو، اختلف الأب والأم من جهتهما.
أحب اسحق عيسو... وأما رفقة فكانت تحب يعقوب (تك 25: 28). ماذا كان أثر ذلك في حياة كل منهما؟
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/jacob-joseph/jacob.html
تقصير الرابط:
tak.la/gbvb8j7