لعل البعض يتساءل: لماذا نتكلم عن مخافة الله؟! بينما قد بشرتنا الأناجيل بأن الله أب لنا بكل ما تحمل كلمه أب من معاني الحنو؟.. وقد تعود الناس منا أننا كنا نكلمهم باستمرار عن إلهنا الطيب الحنون، الذي يعاملنا بكل شفقة ورأفة. ويقابل خطايانا -إذا تُبنا- بالمغفرة والتسامح فلماذا نتكلم عن المخافة إذن؟
أقول: إن الناس على نوعين: نوع يذيبه الحب... نوع آخر يستغل المحبة مجالًا للاستهانة والاستهتار.
وحتى الذي تذيب المحبة قلبه على نوعين:
فهناك من يحبون الله، ويعملون كما يليق بالمحبة، بكل قوة وتظهر محبة الله في حياتهم، وفي سلوكهم، وفي طاعتهم لله واتفاق مشيئتهم ورغبة قلوبهم مع مشيئة الله... وهذا هو النوع المثالي، ولكن ليس جميع الناس مثاليين...
وهناك من يحبون الله، وتنقصهم الإرادة والتنفيذ.
المحبة خاتم على قلوبهم، ولكنها ليست خاتمًا على سواعدهم (نش 8: 6). مثال ذلك القديس بطرس الرسول ساعة الإنكار. لقد أنكر السيد المسيح، ومع ذلك كان يحبه... وقد قال له بعد القيامة "أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ" (يو 21: 17).
في ساعة إنكاره: أكانت له المحبة، ولم تكن له المخافة؟
أقصد مخافة الله... لأن بطرس كان وقتذاك خائفًا من الناس أن يضروه بسبب صلته بالمسيح. وكان خوفه من الله في ذلك الوقت أقل من خوفه من الناس... وحتى محبته لله أثناء تلك التجربة، لم تكن محبة كاملة. لأنها لو كانت محبة كاملة، لانتصرت على الخوف من الناس، وما كان قد أنكر الرب...
يا ليت بطرس في ذلك الوقت، كانت في قلبه مخافة الله...
أما النوع الثاني من الناس، فإنه يخطئ فهم المحبة!
فإذ يعرف أن الله يغلبه حنانه، فيغفر ولا يعاقب، لذلك فهذا النوع لا يخاف، ويخطئ..!
إنه يتدلل على الله تدللًا خاطئًا غير مقبول.
ويقول في نفسه، وربما أمام الناس: ما دُمنا نتعامل مع إله رحوم، إله حنون شفوق طيب، فلا نخاف إذن مهما أخطأنا. لا بُد أن الله سيغفر - إنه غفر للمرأة الزانية، وغفر لمريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين (مر 16: 9). إلهنا الطيب قَبِل إليه زكا العشار، واختار أيضًا متى العشار رسولًا، وأشفق على الخاطئين...
وهكذا يستهين بمحبة الله، أقصد محبة الله له. أما هو فلا يكون محبًا لله وهو يعصَى وصاياه!
لذلك فالحديث عن مخافة الله لازم جدًا، بالنسبة إلى هذا الجيل الذي نعيش فيه...
ذلك لأننا نعيش في جيل، فقد فيه الناس خوف الله: فمنهم من ينكر وجوده، ومنهم من يهاجمه فينتقد الله ويتهمه. وفي هذا الجيل أيضًا من يتذمر على الله، ومن يكسر وصاياه بكل جرأة وبلا خوف..!
هذا الجيل الذي تفشت فيه الاستباحة وألوان من الاستهتار. وأصبح كثيرون يثورون على القيم والمبادئ، ويسيرون بأسلوب قاضي الظلم الذي قيل عنه إنه كان "لا يخاف الله، ولا يهاب إنسانًا" (لو 18: 2).
نعم، ينبغي أن نتحدث عن مخافة الله في هذا الجيل، الذي نُزِع فيه الخوف من قلوب الكثيرين، حتى من الصغار.
وأصبح لا خوف من أب ولا من أم، ولا من معلم ولا شيخ، ولا من رئيس... بل هي ثورة حتى على الأنظمة والقوانين، وعلى كل سلطة في البيت أو في المدرسة أو في الشارع، أو في العمل... هذا الوقت يلزمه الحديث عن المخافة، أكثر من أي وقت آخر...
وقد يحتج البعض بأن المخافة هي من سمات العهد القديم. أما العهد الجديد فهو عهد النعمة والمحبة.
وهذا تعلم خاطئ لأن الله "هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عب 13: 8). "ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع 1: 17). إن كانت هناك مخافة في العهد القديم، فقد كانت فيه وصية المحبة أيضًا "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث 6: 5). وقال السيد المسيح إنه بهذه المحبة "يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت 22: 4).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وإذ ثبت العهد الجديد هذه المحبة، فإنه تحدث عن المخافة أيضًا، في أقوال السيد المسيح ورسله القديسين. يكفي أن أسجل قول السيد الرب:
"أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعد ما يقتل، له سلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا" (لم 12: 4، 5) (مت 10: 28).
وهكذا عبارة الخوف ثلاث مرات في وصية واحدة، بدأها بعبارة "أقول لكم يا أحبائي.." (لو 12: 4). إذن المحبة لا تتعارض مطلقًا مع الخوف.
والقديس بطرس يقول للكل "سيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17). ويقول للنساء "ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف" (1 بط 3: 2).
صدقني يا أبي ومعلمي القديس بطرس، لقد تحدثت عن الخوف في رقة، فهوذا القديس بولس يقول:
"تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (في 2: 12).
فأضاف إلى الخوف كلمة الرعدة، وهي أشد...
ولعل من أوضح الآيات الكتابية عن المخافة في العهد الجديد هي قول القديس بولس الرسول أيضًا "مكلمين القداسة في خوف الله" (2 كو 7: 1)
ويقول القديس يهوذا الرسول "ارحموا البعض مميزين وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار، مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد" (يه 22، 23).
وبهذا نرى أن الخوف يصلح أن يكون أسلوبًا من أساليب الرعاية وإنقاذ النفوس.
البعض نرحمه مميزين. والبعض نخلصه بالخوف، نخطفه من النار حتى لا يحترق. فالنفوس ليست كلها واحدة. منها بلا شك من ينفعه الخوف.
وفي هذا المعنى نفسه يقول القديس بولس لتلميذه تيموثاوس الأسقف "الذين يخطئون، وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف" (1 تي 5: 20). هذا الخوف نافع، حتى لا يستهتر الباقون...
وكانت سياسة الخوف نافعة في معاقبة حنانيا وسفيرا.
لأنه كان من الممكن أن يتكرر الخطأ الذي صدر من حنانيا وسفيرا، ويسلك بنفس سلوكهما آخرون. ولكن لما أوقع القديس بطرس عليهما العقوبة، على الرغم من شدتها، يقول سفر أعمال الرسل "فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة، وعلى جميع الذين سمعوا بذلك" (أع 5: 11). وكان هذا الخوف لصالح الكنيسة واستقرارها منذ تأسيسها.
هكذا عاشت الكنيسة في تعليمها منذ أيامها الأولى. لماذا يحاول البعض إذن -في هذه الأمور الروحية- أن يفرّق بين تعليم العهد القديم وتعليم العهد الجديد؟! أليس الكتاب وحدة واحدة متجانسة، يقول عنها الرسول:
"كل الكتاب هو موحَى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر" (2تي 3: 16).
إن إله العهد القديم، هو نفسه إله العهد الجديد لم يتغير. فلا تظنوا أن الله كان مشددًا من جهة الخطية في العهد القديم، ومتساهلًا من جهتها في العهد الجديد..!! حاشا. فالخطية هي هي في كل بشاعتها. والله هو هو، الكلي الصلاح، والكلي القداسة، والكلي العدل، في العهدين كليهما...
ليس العهد القديم إذن هو عهد الخوف والعقوبة، وليس العهد الجديد هو وحده عهد النعمة والمحبة.
فالخوف والفرح فيهما كليهما. الفرح للذين يؤمنون ويثبتون في الإيمان. والخوف لغير المؤمنين، وللذين يسقطون أو ينحرفون.
وليس العهد القديم هو عهد التهديد والوعيد، بينما العهد الجديد هو عهد الوعود..!!
فالوعيد والوعد فيهما معًا. ولا ننسى أنه في العهد الجديد يقول الإنجيل:
"كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقْطَع وتُلقى في النار" (مت 3: 10).
ويقول السيد المسيح في كل محبته "إن كان أحد لا يثبت فيَّ، يُطرح خارجًا كالغصن، فيجف، ويطرحونه في النار فيحترق" (يو 15: 6).
إن الله يعرف طبيعة الإنسان، ويعرف أن المخافة نافعة ولازمة لهذه الطبيعة. ولذلك تحدث عن المخافة في كلا العهدين القديم والجديد.
وفي العهد القديم، لم يتحدث عن المخافة فقط في مجال التهديد، بل في مجال الحب والنعمة أيضًا.
فقيل في سفر المزامير:
"سر الرب لخائفيه" (مز 25: 14).
"عين الرب على خائفيه" (مز 33: 18)
"ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز 34: 7)
"خلاصه قريب من خائفيه" (مز 85: 9).
"قويت رحمته على خائفيه" (مز 103: 11)
"يتراءف الرب على خائفيه" (مز 103: 13).
"مَنْ هو الإنسان الخائف الرب. يعلمه طريقًا يختاره. نفسه في الخير تبيت. ونسله يرث الأرض" (مز 25: 12).
ويقول الرب في سفر إرمياء النبي "وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا، ليخافوني كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم"، "وأقطع لهم عهدًا أبديًا أني لا أرجع عنهم، لأحسن إليهم، وأجعل مخافتي في قلوبهم، فلا يحيدون عني" (أر 32: 38-40).
وفي العهد الجديد، وردت مخافة الله مرتبطة بفضائل، وعدم المخافة مرتبطًا بالخطية.
فقد قيل عن كرنيليوس البار إنه "تقي وخائف الله مع جميع بيته يصنع حسنات كثيرة للشعب، ويصلي كل حين" (أع 10: 2).
وامتزج الخوف مع تمجيد بالنسبة للذين رأوا شفاء المفلوج "فأخذت الجميع حيرة، ومجدوا الله وامتلأوا خوفًا، قائلين إننا قد رأينا اليوم عجائب" (لو 5: 26).
وعند إقامة ابنة أرملة نايين "أخذ الجميع خوف، ومجَّدوا الله" (لو 7: 16).
وفي سفر الرؤيا، رأَى القديس "ملاكًا طائرًا في وسط السماء معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض، وكل أمه وقبيلة ولسان وشعب، قائلًا بصوت عظيم "خافوا الله وأعطوه مجدًا" (رؤ 14: 6، 7).
ورأى القديس يوحنا ملائكة يسبحون الله قائلين "من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس" (رؤ 15: 4).
ويشبه هذا قول القديس بطرس الرسول "أحبوا الأخوة. خافوا الله" (1 بط 2: 17).
وكما تمتزج المخافة بالفضيلة، يمتزج عدم المخافة بالخطية. وهكذا نجد على الصليب، أن اللص التائب ينتهر اللص الآخر الذي كان يجدف، ويقول له "أو ما تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟! أما نحن فبعدل ننال استحقاق ما فعلنا" (لو 23: 40، 41).
وقيل عن قاضي الظلم إنه "لا يخاف الله" (لو 18: 1).
وأبونا إبراهيم أبو الآباء، لما تغرَّب في أرض جرار، وصف شرها بقوله "إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة. فيقتلونني لأجل امرأتي" (تك 20: 11)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/fear-of-god/why.html
تقصير الرابط:
tak.la/bajfm67