إنها فضيلة يسمونها "طول الأناة". وهي من ثمار الروح (غل5: 22). وتُسَمَّى أيضًا طول الروح، وسعة الصدر. وهي من صفات الله تبارك اسمه (مز103: 8). وتقترن بالصبر أيضًا.
ويقول الرب "بصبركم تقتنون أنفسكم" (لو21: 19).
ويقول "مَن يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت10:22).
ونقول في أول مزمور من صلاة النوم "انتظرت نفسي الرب من محرس الصبح حتى الليل" (مز 130) أي من البداية حتى النهاية.
وينصحنا المرتل في المزمور قائلًا "انتظر الرب. تقوّ وليتشدد قلبك، وانتظر الرب" (مز27: 14) أي انتظر بقلب مطمئن خالٍ من الضجر ومن القلق، مملوء بالرجاء... لذل فالإنسان الطويل البال يعيش مستريحًا.
طول الأناة موجودة في حكمة الله من جهة تدبير الأوقات:
يقول الرب "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع1: 7). إنها أمور في حكمة الله الذي يعمل الشيء الحسن في الوقت الحسن أي في الوقت المناسب، الذي وُصف بأنه "ملء الزمان" (غل4: 4).
* لقد وعد الله أمنا حواء بالخلاص، وقال "إن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية" (تك3: 10). ومرت آلاف من السنوات، والحية رافعة رأسها لم تنسحق بعد، لأن ملء الزمان لم يكن قد أتى، الذي تتم فيه كل النبوءات وكل الرموز وكل الأشخاص، وكل الاستعدادات التي تتعلق بالميلاد المجيد وبالتجسد الإلهي...
علينا إذن أن ننتظر الرب بطول البال، في كل شيء. ولا نظن أنه تأخر علينا، إذا ما رأى أن الوقت المناسب لم يأتِ بعد...
* إبراهيم أبو الآباء، وعده الله أن يعطيه نسلًا...
ومرّ وقت طويل، ولم يُرزق إبراهيم بنسل، حتى لجأ إلى الطرق البشرية، وأخذ هاجر التي ولدت له إسماعيل. وربما ظن أن الله قد نسيه أو غيرّ وعده، فقال له "ليعش إسماعيل أمامك". فقال له الله "بل بسارة يكون لك نسل" (تك17: 18-19). لم ينسّ الله وعده، إنما في الوقت المناسب منحه إسحق، وهو شيخ.
![]() |
الله أيضًا طويل الأناة، حتى في معاملة الخطاة.
أطال أناته على فرعون مدة طويلة، حتى إلى عشر مرات. ولم تجدِ معه المعجزات والضربات. وكان فرعون يعد ولا يفي، والله يطيل أناته. وهو "يستهين بغنَى لُطف الله وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتاد إلى التوبة" (رو2: 4). وأخيرًا تعرض للغضب في يوم الغضب، حينما امتلأ كأسه.
إن الله يطيل أناته على الخاطئ، لكي يعطيه فرصة أخرى لعله يستغلها لمنفعته وخلاص نفسه. وقد قال الله في سفر الرؤيا عن إيزابل الخاطئة "أعطيتها زمانًا لكي تتوب، ولم تتب" (رؤ2: 21)... بعد ذلك بدأت العقوبة.
هناك أشخاص كانت حالتهم رديئة جدًا. ولكن الله أطال أناته عليهم، حتى حوّلهم أخيرًا إلى قديسين.
* مثال ذلك: أوغسطينوس الذي بكت عليه أمه القديسة مونيكا سنوات طويلة. ولكن طول أناة الله عليه، ليست فقط اقتادته إلى التوبة، إنما بالأكثر حولته إلى قديس عظيم انتفعت الأجيال بتأملاته وعظاته وكتاباته. وصار أسقفًا له رعيته.
* نذكر أيضًا شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة بإفراط شديد "ويجر رجالًا ونساءً إلى السجن" (أع 9: 2). ولعل مؤمنين كثيرين كانوا يصلون إلى الله أن يريحهم من شاول هذا. وكانوا يتعجبون كيف أن الله صابر عليه هكذا!!
وأخيرًا جاء الوقت الذي فيه أثمرت طول أناة الله، واجتذبت شاول، وحوّلته إلى بولس الرسول العظيم الذي تعب في الكرازة أكثر من جميع الرسل (1كو 15: 10). وصعد إلى السماء الثالثة (2 كو12: 2).
* نذكر كذلك يونان النبي، الذي خالف الرب، وهرب دون أن يطيع. كيف أطال الله أناته عليه، وجعله سببًا في خلاص أهل نينوى...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
* مثال آخر هو أريانوس والي أنصنا في أيام الدولة الرومانية. وكان من أشد الولاة قسوةً وفتكًا بالمسيحيين، وكان يفتنّ افتنانًا في تعذيبهم... كيف أطال الله أناته عليه، حتى آمن أريانوس أخيرًا. بل تألم لأجل المسيح وصار شهيدًا...!
* في طول بال الله، نذكر أيضًا البلاد الشيوعية -كروسيا مثلًا- التي كانت تنكر وجود الله، وتضطهد المؤمنين به، وتمنع تعليم الدين. واستمرت على ذلك عشرات السنوات، والله يطيل أناته، بل سمح أن تكون روسيا من الدول العظمى المتقدمة في العلم...
وأخيرًا بعد سبعين سنة، أعادهم الله، وطول أناته اقتادهم إلى التوبة. وأصبحت روسيا أكبر دولة أرثوذكسية في العدد، فيها أكثر من 120 مليونًا من المعمدين.
* وكما نذكر طول بال الله على روسيا، نذكر أيضًا طول باله على رومانيا أيام شاوشيسكو Nicolae Ceaușescu، الذي اضطهد المسيحية اضطهادًا شديدًا، هو وزوجته القاسية، وهدم الكنائس. ولكن بعد حين من طول أناة الله، خلّص رومانيا من شاوشيسكو ومن زوجته، ومن قسوتها وقسوته. وعادت رومانيا تتمتع بالحرية الدينية، وتُبنَى فيها الكنائس...
* نذكر أيضًا طول أناة الله على الأمم وعبدة الأصنام.
واستمر هذا الأمر على مدى آلاف السنين في العهد القديم، وهم يصنعون التماثيل ويسجدون لها. بل من اليهود أيضًا من صنعوا لهم أصنامًا وسجدوا لها. وقالوا "هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر" (خر32: 4).
وأطال الله أناته، حتى قضى على الوثنية وعبادة الأصنام في الأرض كلها. مبارك هو في طول باله وفي صبره.
إن الله في كل هذه الأمثلة، إنما يعلمنا طول البال.
* ومن أمثلته: طول البال في الصلاة:
المفروض في الإنسان أن يصلي ويطيل باله، حتى يمنحه الله طلبه، أو يمنحه أفضل مما يطلب. كل ذلك دون أن يقلق، ودون أن تتعب نفسه إن ظن أن الله قد تأخر عليه... وهكذا يقول الكتاب "انتظر الرب. تقوّ وليتشدد قلبك، وانتظر الرب" (مز27: 14).
* أبونا إبراهيم أبو الآباء، لما رأى أن الله قد تأخر عليه، لجأ إلى الطرق البشرية فأخذ هاجر... وحتى بعد أن منحه الله إسحق، عاد ولجأ إلى الطرق البشرية أيضًا فأخذ قطورة زوجة له (تك 25: 1). ومع أنها أنجبت كثيرًا، إلا أن نسلها لم يكن حسب مشيئة الله...
* رفقة: لما أدركها اليأس من حصول يعقوب على البركة حسب وعد الرب لها (تك25: 23). لجأت أيضًا إلى الطرق البشرية، بأن دفعت ابنها المحبوب يعقوب إلى أن يخدع أباه اسحق ويحصل منه على بركته (تك27). وقد دفع يعقوب ثمن هذا الخداع غاليًا. فخدعه أبناؤه، وخدعه قبل ذلك خاله لابان...
إن الله قد يطيل باله في حل المشكلة. ولكن يكون ذلك للخير ونضرب مثال لذلك بقصة يوسف الصديق:
لو كان الله قد حلّ ليوسف مشكلته بسرعة مع إخوته، لبقى يوسف طول عمره مجرد راعي غنم...!
ولو أنه حلّ له مشكلته بسرعة مع امرأة فوطيفار، واكتشف زوجها كذب ادعائها... لبقى يوسف مجرد عبد في بيت فوطيفار! ولكن الله أطال أناته في حل مشكلة يوسف، وسمح أن تُضاف إليها مشكلة أخرى وهي إلقاؤه في السجن. وحتى وهو في السجن، صبر الله عليه، سمح أن رئيس السقاة ينساه ولا يذكره أمام فرعون (تك40: 23).
وحينما جاء الوقت المناسب الذي يتفق مع طول أناة الله، شاء الله أن يُنقل يوسف من السجن لكي يتمجد، فصار "أبًا لفرعون وسيدًا لكل بيته، ومتسلطًا على كل أرض مصر" (تك45: 8).
إذن إن كنت في مشكلة، أطل أناتك حتى يحلها الله لك، في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، حسب عمق حكمته...
لا تقلق ولا تيأس. بل اصبر في إيمان، واعطِ الرب فرصة يدبر لك فيها حلًا، بطول بال.
وإياك وحُمَّى الإسراع!! وأن تقول لا بُد أن تحل المشكلة الآن! وتتعب إن تأخر الحلّ عن الموعد الذي تفرضه! فيتعب فكرك وتتعب نفسيتك وأعصابك، وتتعب روحياتك أيضًا!
مشكلتك ضعها في يد الله، وإنسها هناك. وثق أن الله سوف لا ينساها. أما أنت فلا تقلق من جهة الوقت.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
طول البال يلزم أيضًا في مجالات الخدمة والتربية.
لا تظنوا إنه بمجرد أن نلقي عظة، سوف يستجيب السامعون وينفذون كل ما قلناه!! الاقتناع شيء، والتنفيذ العملي شيء آخر. يحتاج إلى تغيير في الطباع والعادات، وإلى تَدَرَّب على الفضيلة، وجهاد مع النفس، ومقامة للمعطلات وحروب الشياطين... وكل ذلك قد يستغرق وقتًا، مع فرض أن النية موجودة...
قال القديس يوحنا ذهبي الفم: إن الجنين يحتاج إلى تسعة أشهر حتى يكمل نضوجه في بطن أمه ويخرج. فكم بالأولى النضوج الروحي عند الإنسان. ألا يستغرق وقتًا؟...
بعض الخدام قد ينزعجون إذا لم تأتِ الخدمة بثمر سريع!
وإما أن يقول الواحد منهم (أنا لا أصلح للخدمة)! وإنما أن يقول "لا فائدة في هؤلاء المخدومين. إنهم لا يستجيبون"... كلا، ليس العيب فيك ولا فيهم. إنما الثمر يحتاج إلى طول بال...
والرب قد أعطانا الطبيعة كمثال: فنحن نغرس الشجرة، ثم نصبر عليها أحيانًا ثلاث سنوات أو أكثر، حتى تنمو وتأتي بثمر. ولا نطلب منها ثمرًا قبل أوانه... كذلك فالدجاجة تحتضن البيض فترة معينة حتى يفقس وتخرج منه الفراخ الصغيرة (الكتاكيت). فإن كانت الدجاجة تحتضن البيض بطول بال ولا تقلق، أفلا نأخذ نحن منها درسًا، ونطيل بالنا في خدمتنا.
وهذا الأمر نقوله أيضًا للآباء والأمهات في تربية أطفالهم.
تحتاج التربية إلى طول بال، وعدم فرض نضوج سريع على الطفل. فلابد أن يجتاز خواص كل مرحلة حتى ينتقل إلى غيرها... ربما يختلف الأطفال في مقدار طول أو قصر المرحلة، ولكن لا بُد لهم أن يجتازوها. وقد قال القديس بولس الرسول "حينما كنت طفلًا، كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر. ولكن لما صرت رجلًا، أبطلت ما للطفل" (1كو13: 11).
ونفس الوضع نقوله بأسلوب آخر لآباء الاعتراف.
أطيلوا أناتكم على المعترف، سواء في التوبة، أو في النمو الروحي. ولا تيأسوا منهم إذا لم تكن استجابتهم للإرشاد سريعة وكاملة.
* من ذلك ضعف الأعصاب. فالإنسان الذي أعصابه مرهقة، أو نفسيته قلقة، يريد أن يتم كل شيء في التو واللحظة، وإلا فإنه يتعب.
* كذلك هناك أشخاص عندهم لون من الاندفاع والتسرع. لذلك لا يستطيع أن يطيل باله. فإن كنت تتكلم معه، ربما يقاطعك في الحديث، أو يحاول أن يرد عليك قبل أن تكمل كلامك.
ومثل هذا الشخص قد يخطئ في تسرعه، وربما يصدر أحكامًا قبل أن يتحقق من جلية الأمر، أو يصدر قرارات غير مدروسة، أو يأخذ مواقف ارتجالية عرضة للخطأ.
وأحيانًا الناس الذين ليس لهم طول بال، يدفعون قادتهم أيضًا إلى السرعة في اتخاذ القرار بدون طول بال.
ولا يعطونهم فرصة للتأني والروية والدراسة، ولا للتفكير الهادئ المتزن. ويبررون السرعة بأن الأمر واضح جدًا، ولا يحتاج مطلقًا إلى دراسة أو تفكير!! بينما أمور التدبير تحتاج إلى روية: لمعرفة ما هو الحل الأفضل؟ وما هي الوسيلة الأصلح للتنفيذ؟
وربما يكون السبب في الفرق بين السرعة وطول البال:
هو الفرق في السن، أو في الخبرة، أو في الطبع.
فتفكير الشاب غير تفكير الشيوخ، كما ظهر في استشارة رحبعام بن سليمان لكل منهما (1مل12: 6- 11).
لقد درب الرب تلاميذه على طول البال.
تلميذاه يوحنا ويعقوب اللذان كان لقبهما بوانرجس أي إبني الرعد: لما أغلقت إحدى مدن السامرة أبوابها في وجهه، قال له هذان التلميذان "أتشاء يا رب أن تنزل نار من السماء فتفنيهم..."فأجابهما لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص" (لو9: 54- 56). فيما بعد صار يوحنا هذا مثالًا للمحبة، وهو الذي قال "الله محبة. مَن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه" (1يو4: 16).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/dialogue-with-god/patience.html
تقصير الرابط:
tak.la/49xn7q8