يا رب نج نفسي. من الممكن أن أحتمل المتاعب والضيقات التي تصيب جسدي. أما الآن فإن نفسي في خطر، وأريدك أن تنقذها. من أجل أبديتى أصرخ إليك:
(نج نفسي من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش)
فما هو الفرق بين الشفاة الظالمة واللسان الغاش؟
الشفاة الظالمة هي التي تظلمك، تتهمك إتهامات زور، تلفق حولك إدعاءات باطلة، تقسو عليك، تنسب إليك ما ليس فيك من العيوب. أما اللسان الغاش، فهو اللسان الذي يمدحك ويتملقك عن غير حق. وهكذا يمكن بضربات يمين وضربات شمال يسقطك الشيطان.
لذلك فأنت تصرخ طالبًا أن ينقذك الله من الشفاة الظالمة.
تقول له: نج نفسي منها. لأنه من الجائز أن يضغط الظلم على نفسي، فأتعب، وربما أغضب، وربما أفقد محبتي للناس، وربما أدين غيرى، وربما ادافع عن نفسي بغباوة... لذلك نج نفسي من الشفاة الظالمة.
ونجنى أيضًا من اللسان الغاش، لأنه ليس أقل خطرًا منها.
فاللسان المادح أو المتملق أو المرائى، أو المتظاهر بالمحبة، ربما يتلفني هو أيضًا من الداخل يفقدني تواضعي، أو يدخل إلى عقلى أفكارا ومشاعر وإيحاءات لا تليق بقلب نقى...
لذلك إنقذنى من كليهما، من ضربات اليمين وضربات اليسار. وانشد يا رب في أذنى أغنيك الجميلة التي تقول لي فيها:
(يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وإليك لا يقتربون) (مز 91: 7).
داود النبي تعرض للشفاة الظالمة.
ومن أمثلتها شمعى بن جيرا الذي كان يرشقه بالحجارة وهو يقول: (أخرج أخرج، يا رجل الدماء، ورجل بليعال. فقد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه... وها أنت واقع بشرك، لأنك رجل دماء) (2صم 16: 7، 8) وقبل شمعى كثيرًا ما تكلم شاول الملك على داود بشفاة ظالمة قائلًا (ابن الموت هو) (1صم 20: 31) وكان يحاول أن يهيج يوناثان عليه قائلًا:
(ما دام ابن يسى حيا، لا تثبت أنت ولا مملكتك)
وهذه الشفاة الظالمة تعرض لها يسوع المسيح نفسه:
قالوا إنه سامرى وبه شيطان، وقالوا إنه ببعلزبول يخرج الشياطين. وقالوا إنه أكول وشريب خمر وقالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت. وقالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت...
وقالوا إنه لا يريد أن يدفع جزية لقيصر... شفاة ظالمة، لا حد لإتهاماتها الباطلة...
قل له: نجنى يا رب من الشفاة الظالمة، لأنك أنت نفسك قد إختبرت ظلم الأشرار، والحكم الذي صدر عليك كان حكما ظالما. كم كان قيافا ظالما حينما مزق ثيابه قائلًا عنك:
(قد جدف. ما حاجتنا بعد إلى شهود!!) (مت 26: 65)
وتعرض للشفاة الظالمة أيضًا، الأنبياء والرسل والآباء القديسون:
إرميا النبي اتهم بأنه يضعف معنويات الشعب وشتموه، وإتهموه بالكذب، وضربوه، وقالوا:
(حق الموت على هذا الرجل لأنه قد تنبأ على هذه المدينة كما سمعتم) (إر 26: 11).
وقالوا عنه أيضًا: (هذا الرجل لا يطلب السلام لهذا الشعب بل الشر) (إر 38: 4) وأخذوه وألقوه في جب فغاص في الوحل.
وما أكثر الشفاة الظالمة والإتهامات الباطلة التي تعرض لها رسول عظيم كبولس الرسول. بل إن قديسا عظيما جدًا مثل البابا أثناثيوس الرسولى، إتهموه بالزنا، وبالقتل، وبالهرطقة، وباتهامات سياسية أيضًا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ما أبشع الشفاة الظالمة التي تلقى أفظع الإتهامات، بمنتهى السهولة، وبمنتهى البساطة وما أبشع الشفاة الظالمة التي تجرح شعور الآخرين، أو تعاملهم كما لو كانوا بغير إحساس على الإطلاق
لذلك صرخ المرتل إلى الرب قائلًا: (نج نفسي من الشفاة الظالمة، ومن اللسان الغاش) ذلك اللسان الغاش الذي يتملق ويرائى، ويتظاهر بالصداقة وهو عدو. ويقدم النصيحة كإنسان مخلص، وكلها سم مميت. ويتكلم بالمديح، وهو يدبر المؤامرات لا تشعر مطلقا بخوف منه، ولا تأخذ حذرك من جهته، بل قد تطمئن إليه جدًا، وهو يحفر لك حفرا في الخفاء
تعرض السيد المسيح للسان الغاش، من الشيطان ومن الناس.
أتاه المجرب بلسان غاش وقال له: (إن كنت ابن الله، فاطرح نفسك إلى أسفل. لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك. فعلى أيديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك) (مت 4: 6) ومنظر جميل رائع، أن كل الناس في الهيكل يشاهدون شخصا محمولا على أيدى الملائكة، فيؤمنون!! إنه لسان غاش لم يقبله الرب.
وأتاه أيضًا الفريسيون بلسان غاش، كله مديح وملق ورياء، لكي يصطادوه بكلمة. فقالوا له:
(يا معلم، نعلم أنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق، ولا تبالى بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن: أيجوز أن نعطى جزية لقيصر أم لا؟) (مت 22: 15-18) إنه لسان غاش، يمدح -ليس إيمانًا بما يقول- وإنما ليصطاد غيره بكلمة. لذلك أجابهم الرب على هذا المديح بقوله: (يا مراؤون، لماذا تجربوننى؟..)
من الجائز جدًا أن يكون المتكلم بلسان غاش هو الشيطان نفسه، حتى إن نطق على فم أحد من الناس!..
مثال ذلك بطرس الرسول، الذي لما سمع قول الرب عن آلامه وموته، أخذه إليه، وإبتدأ ينتهره قائلًا: (حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا) (مت 16: 22) والتفت الرب وقال لبطرس
(إذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي. لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس)
لذلك عندما تذكرون الشفاة الظالمة واللسان الغاش في صلواتكم، إنسبوها إلى الشيطان وليس إلى الناس...
ولكن لعل أحد يسأل: لماذا نطلب من الله أن ينجينا من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش؟ لماذا لا نحتمل؟!..
إن ربنا يسوع المسيح (ظلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه) (إش 53: 7) فلماذا لا نسلك مثله؟!
طبعا المفروض أن الإنسان لما يصل إلى الكمال. يصل إلى الدرجة التي تموت فيها نفسه عن الكرامة وعن الهوان. مثل النصيحة التي وجهها القديس مقاريوس الكبير إلى أحد الرهبان إذ طلب إليه أن يذهب ويمدح الموتى، وأن يذهب مرة أخرى ويذمهم. ولما لم يجيبوا عليه في كلا الحالين، قال له القديس: [إن أردت أن تعيش مع الله، كن مثل هؤلاء الموتى. لأن الميت لا يبالى بكرامة ولا بهوان]
ولكن كما قلت لكم: نحن نتكلم عن الدرجة الأولى من سلم المصاعد التي تصعد إلى الهيكل والمرتل هنا إنسان مبتدئ، في أول طريقه إلى الله. وهو أيضًا صريح مع الله، يشرح حاله كما هو
وكأنه يقول: أريد يا رب أن أكون صريحا معك. لا أستطيع أن أكذب عليك وأقول إننى لا أتأثر من الشفاة الظالمة ولا من اللسان الغاش. أنا إنسان ضعيف لم أصل بعد إلى درجة عدم التأثر هذه أنا يا رب ضعيف، أصلى إليك وأقول: (لا تدخلنا في تجربة).. أما الأقوياء فإنهم يحسبونه كل فرح حينما يقعون في تجارب متنوعة (يع 1: 2) ولكنني أنا صغير وضعيف، ولم أصل بعد إلى المستوى. لسة بدرى على!!
نقطة أخرى: عندما أقول (نج نفسي من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش) قد أقصد: قد يكون لسانى أنا هو اللسان الغاش، وشفتاى هما الشفاة الظالمة.
عندما نذكر هذه الطلبة في صلواتنا، ليت كل واحد فينا يسأل نفسه: من من الناس قد ظلمته؟ ما هي ألفاظ الظلم التي خرجت من فمي؟ وما هي الإتهامات الباطلة التي إتهمت بها بعض الناس؟ متى أدنت أحد إدانة ظالمة؟ متى حكمت على غيرى حكما باطلًا بدون فحص ولا تحقيق؟ متى جرحت شعور الناس بكلام قاس شديد؟ متى أوصلت كلاما رديئا يسئ إلى إنسان...
على أن هذه الشفاة الظالمة التي نظلم بها الناس، قد نظلم به الله نفسه أيضًا!! وما أكثر الأمثلة:
إنسان يمرض مثلا، فيصرخ إلى الله متذمرا: [إنت مش سايبنى ولا دقيقة أستريح]! وجايز أن المرض لا يكون من عند الله، بل قد يرجع إلى إهمال هذا الشخص في صحته...
أو تلميذ مثلا في إمتحان، فيصبح نحو الله بشفاة ظالمة ويقول: [ليه بس يا رب كل ستة تسقطنى وفيه تلاميذ وحشين ما بيروحوش الكنيسة ونجحوا. اشمعنى أنا؟!] ويبدأ في أن يجدف على الله وقد يكون رسوبه راجعا إليه هو.
إنها شفاة ظالمة. لا تظلم مجرد إنسان، وإنما الله نفسه كل سر يحيق بالإنسان، ينسبه إلى الله، ويقول إن الله هو السبب!!
ويبدأ في شجار مع الله أو سوء تفاهم، أو في سلسلة من التهديدات: بعدم الذهاب إلى الكنيسة أو عدم السلوك حسنا، أو السير في الطريق البطال الذي سلك فيه الذين نجحوا من الأشرار!!
وأنا عندما أقول: (نج نفسي من الشفاة الظالمة) إنما أقصد أن تنجينى من هذا الخطأ أيضًا: فلا أظلمك، ولا أجدف على اسمك، ولا أتهمك إتهاما باطلًا، ولا أشك في محبتك، ولا أشك في حنانك ولا أفترى على عدلك ولا على قدرتك، ولا أتكلم عليك أية كلمة بطالة. وباختصار، نج نفسي من الشفاة الظالمة.
وأيضًا بالنسبة إليك يا رب، نج نفسي من اللسان الغاش...
أقول لك: (محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتى) (مز 119: 97) وأنا لا أتلو اسمك دقيقتين أو ثلاثة! وأقول: (بللت فراشى بدموعي) (مز 6:6) وأنا لم يحدث لي شيء من هذا! وأقول: (يا الله أنت إلهى إليك أبكر، عطشت نفسي إليك) (مز 63: 1) وأنا لا أبكر للصلاة، وإن قمت مبكرا أنشغل بأشياء أخرى!
ولكن على الرغم من كل هذا، لا أريد أيها الإخوة أن أعتبر هذا لسانا غاشا. فالمزامير فيها نواحي تعليميه. وليكن أمثال هذا الكلام نوعا من الوعظ، أو نوعا من الإيحاء.
بحيث عندما نقول هذه العبارات في حضرة الله، نتذكر ما ينبغي أن نعمله، ونجد في أعماقنا دافعا داخليا يدفعنا إلى تنفيذ ما نقول. تمامًا كما نقول في الصلاة الربانية:
(إغفر لنا... كما نغفر نحن أيضًا) وربما نكون في الواقع لا نغفر. ولكنها ناحية تعليمية فعندما نقول هذا تبكتنا ضمائرنا، لكي نفعل حسبما نصلى قائلين: يا رب نج نفسي من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش)
لاحظوا أن اللسان الغاش أخطر من الشفاة الظالمة.
لأن الشفاة الظالمة مكشوفة وظاهرة معروف أن فلان قال كلمة شتيمة أو تهمة ظالمة أما اللسان الغاش، فإنه يتوارى وراء المحبة والإخلاص، ويلبس ثياب الحملان. ولذلك فهو أكثر خطرا. ومن أجل هذا بعد أن قال المرتل: (نج نفسي من الشفاة الظالمة واللسان الغاش) رجع إليه مرة أخرى وقال: (ماذا تعطى وماذا تزيد بإزاء اللسان الغاش؟!)
لاحظوا أيضًا أن هذا المرتل، كلما يصعد، وكلما يقترب من ديار أورشليم ومن هيكل الرب، حينئذ تقوى روحه وترتفع معنوياته...
في أول درجة كان يقول: (يا رب نج نفسي من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش) ولما طلع إلى فوق، ورتل مزامير أخرى، إستطاع أن يقول: (على ظهرى جلدنى الخطاة وأطالوا إثمهم الرب صديق هو يقطع أعناق الخطاة) (مز 129: 3) متأكدا أن أعداءه سيبيدون بمعونة الله لقد جرب معونة الله ولمسها في طول الطريق الروحي.
إنه حاليًا يقول في المزمور: (يا رب نج نفسي) أنا خائف ومرتعد.
(سهام الأقوياء مرهفة مع جمر البرية) ولكنه ما أن يرتفع في المصاعد إلى أورشليم، حتى يقول:
(المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون، ولا يزول إلى الأبد) (مز 125: 1).
أبتدأ يشم نفسه، ويشعر أن ربنا بيشتغل معاه...
لكن إحنا دلوقتى لسه في أول درجة. والمرتل شاعر بضعفه. بيقول ربنا: يا رب خلى بالك مني دا أنا لسه صغير، ولسه ضعيف. ومش قد الناس دول: (يا رب نج نفسي من الشفاة الظالمة ومن اللسان الغاش) ثم يقول وكأنه يخاطب نفسه:
ماذا تُعْطَى وماذا تزاد بإزاء اللسان الغاش؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/contemplations-vespers/deliver-my-soul.html
تقصير الرابط:
tak.la/pncx99x