تأملات في قطع النوم
3
توبي يا نفسي... انهضي من رقاد الكسل
كل إنسان يقول لنفسه "توبي". فالتوبة للكل، وليست فقط للمبتدئين في حياة الروح.
ليس إنسان بلا خطية، ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض. إنما تختلف نسبة ونوعية الخطية.
يقول "توبي يا نفسي، لأن نفسه هي السبب في الخطية، مهما كانت الأسباب الخارجية. لأن هذه الأسباب إن لم تخضع لها النفس فلا تخطئ.
حسنا أن يدعو الإنسان نفسه على التوبة، قبل أن يدعوه الناس إلى ذلك.
لا شك أن الدافع الداخلي هي الأقوى والأفضل. لأن الذي ليس له هذا الدافع الداخلي، وربما يتعب معه المرشدون والآباء الروحيون. وعلى رأى المثل العامي (اللي ما يجيش من نفسه، سواقه تعبان).
هناك أسباب كثيرة تجعل الإنسان يقول لنفسه: توبي.
يوجد إنسان محبته لله عميقة جدًا. وقلبه يلتهب بالنار إذا أخطأ وضميره يبكته بشدة، فيقول لنفسه توبي.
وإنسان آخر حطمته الخطية، وتعب من نتائجها الرديئة ومن المصائب التي جرتها عليه، فيقول: توبي يا نفسي.
وإنسان آخر يتعبه مرض خطير أو تتعبه مشاكل معقدة، فيلجأ إلى الله ليصطلح معه ن ويقول لنفسه توبي، خوفًا من أن يكون الله قد تخلى عنه بسبب خطاياه، فأحاطت به الضيقات.
وإنسان أتته الفرصة أن يجلس إلى نفسه يحاسبها، فوجد أنه في الموازين إلى فوق، فيقول توبي يا نفسي...
يحتاج الإنسان أن يكره الخطية، لكي يتوب.
أما الإنسان الملتذ بالخطية، فليس في نيته أيقول "توبي يا نفسي"، لأنه لا يريد أن يتوب!! كذلك الإنسان الذي لم يقتنع بعد بأنه في وضع خاطئ. لذلك يحتاج أن يعدل موازينه وقيمه، بترك ما هو فيه. فيقول "توبي يا نفسي"..
توبي يا نفسي ما دمت في الأرض ساكنة.
لأن التراب في القبر لا يسبح. ليس في الموتى من يذكر، ولا في الجحيم من يشكر. فالإنسان بعدما يدخل جسده إلى القبر، ويتحول على تراب ن ليس من المعقول أن يسبح الله. وإن كانت نفسه الخاطئة قد ذهبت على الجحيم، فلن تشكر هناك، وليس أمامها مجال للتوبة بعد مفارقتها للجسد. لذلك يقول لها:
إنهضى من رقاد الكسل، وتضرعي للمخلص بالتوبة.
الشخص الروحي باستمرار حواسه مستيقظة، وأفكاره منتبهة لله. يرقب كل شيء بوضوح. واخد باله من نفسه. أما الخاطئ فهو متهاون من جهة خلاص نفسه، يحتاج أن ينهض من رقاد الكسل، من الغفلة التي هو فيها.
رقاد الكسل هذا يشمل الجسد والروح كليهما: الجسد كسلان لا يسهر في الصلاة. والروح أيضًا كسلانة ومتهاونة. لذلك يدعونا الرب إلى السهر ويقول: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة، وسرجكم موقدة." (لو 12: 35، 36). لذلك يقول بعدها "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين" (لو 12: 36). ويقول أيضًا:
"لئلا يأتي بغتة، فيجدهم نيامًا" (مر 13: 36).
من جهة الجسد، كان آباؤنا يسهرون الليل كله في الصلاة، كما كان يفعل القديس أرسانيوس... وكما يقال في أحد مزامير صلاة النوم "في الليالي ارفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب" (مز 133). ومن جهة الروح، يلزمنا السهر الروحي. فعلينا أن تكون أرواحنا متيقظة، لا تسمح لأي فكر خاطئ أن يدخل إليها...
ولا يستطيع إنسان أن يعتذر بعدم قدرته على السهر في الصلاة لأنه كثيرًا ما يسهر في أحاديث تستهويه، أو في برنامج تلفزيوني يجذبه. أو يسهر في الاستعداد لامتحان، أو في بحث مشكلة ما... إن السيد الرب قد وبخ تلاميذ قائلًا: أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟! (مت 26: 40). إنه تأنيب لنا جميعًا.
والسهر ليس معناه أن يستيقظ الإنسان، ولو في أحاديث باطلة، إنما المقصود أن يسهر في عمل روحي.
كما قال الرب لتلاميذ "أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي.."(1). يا ليتكم إذن تستطيعون أن تحفظوا مزامير وصلوات، تستطيعون أن تصلوا بها في الليل، ولو في الظلام، دون أن يلاحظكم أحد... إن كان أحد يتفادَى أن يراه أقرباؤه ممسكًا بأجبية يصلي.
إن تدريب "تمضية الليل كله في الصلاة"، هو تدريب خاص بالقديسين. وكان يمارسه الآباء الرهبان. أما بالنسبة إليك، فعلى الأقل تقضي في الصلاة ما تستطيعه من الليل. ولا تكن كأهل العالم الذين يقضون الليل في اللهو والعبث... وصدق أحد الآباء حينما قال عن العمل الروحي:
مَن يكسب صداقة الليل، يمكنه أن يقضي النهار حسنا مع الله.
أي أن ما يختزنه من تأملات وأفكار روحية في الليل، تصحبه كل هذه بالنهار، وتنقذه من حروب الخلطة مع الناس والانشغال في الماديات.
فكروا معي يا أخوتي: كيف نقضى ليالينا مع الله؟ وهل يوجد من هو ألذ من المسيح في لياليكم. وما الثمر الذي تجنونه من كل ليلة؟ وهل ليالينا للجسد أم للروح؟ ولا شك أنه حسب قضاء الليل تكون أحلام الليل أيضًا... أمران أمامنا يجب أن نتفادى كل منهما: رقاد الكسل، والسهر الخاطئ. وفي السهر الخاطئ، ورقاد للروح. فانهضي يا نفسي من رقاد الكسل، وتضرعي للمخلص بالتوبة ما أجمل أن نتذكر قول داود النبي، رجل الصلاة:
"إني لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطى لعيني نومًا... على أن أجد موضعا للرب ومسكنا لإله يعقوب" (مز 131).
فهل أنت هكذا لا تعطي لعينيك نومًا، إلا أن أوجدت للرب موضعًا في قلبك، وفي قلوب الناس أيضًا؟ حاول أن تفعل هكذا. سواء السهر في الصلاة، أو السهر في الخدمة، أو في كليهما. ولا تترك نفسك لعبث الليل وملاهيه.
إنني حزين على الليل الذي ضاعت سمعته، وأصبح مجالًا للمغنين والمغنيات، وللراقصين والراقصات حتى أن عبارة (النوادي الليلية) Night Clubs أصبحت اسمًا سيئا يسيطر عليه الشيطان. ومن يتردد على هذه النوادي، تسوء سمعته...
لذلك فالقديسون الذين يعيدون لليل كرامته، ويضمونه إلى ملكوت الله، لا ينسى لهم الرب تعبهم وسهرهم وصلواتهم... هؤلاء الذين يرون الناس نائمين: "في الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك"، "سبقت عيناي وقت السحر، لأتلو في جميع أقوالك"، "كنت أذكرك على فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك" (مز 119).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
نعم يا أخي، إن كان العالم قد اشترى منك النهار، وأعطاك ثمنه وظيفة ومرتبًا، فإنه يبقى لك الليل تقضيه مع الله. لا تمنعك عنه المشاغل التي أخذت منك وقتك بالنهار... هذا الليل في هدوئه وفي صفاته، وفي بعده عن الخلطة وعن المعطلات، هو مجال طيب لعلاقة مع الله، تبثه أشواقك، وتعتذر فيه عما شغلك عنه بالنهار... ولا عذر لك بالليل، إن تكاسلت عن الوجود في حضرة الله وإن تكاسلت نفسك، واعتذرت بالتعب أو الرغبة في النوم، وبخها قائلًا لها "انهضي من رقاد الكسل، وتضرعي للمخلص بالتوبة..".
صادِق الليل، الذي يشتهي صداقتك مقدمًا لك هدوءه.
ومُقدمًا لك بُعده عن ضوضاء العالم وضجيجه، وبعده عن الذين يعكرون صفو هدوئك باللقاءات والأحاديث... لا تضيع ثلث حياتك نومًا. إنما قطع الليل بالصلاة. وحتى إن صعدت إلى فراشك، قدسه بالمزامير وبالصلوات بالأفكار الروحية، حتى يكون نومك طاهرًا، والمضجع مقدسًا. وصلواتك في الليل تغرس في عقلك الباطن أفكارًا مقدسه، تغذى روحك وتعينك في محارباتك...
وكما يكون الله آخر من تتحدث إليه قبل نومك في الليل، يكون الله أيضًا أول من تتحدث إليه حينما تستيقظ في النهار. فيكون هو البداية والنهاية في كل يوم من أيامك.
ما أكثر ما نعاتب الله كأنه لم يعطنا. وما أقل أن نعاتب أنفسنا، لأننا لم نعط الله ما يجب من وقتنا...
لا تتم أكثر مما يحتاج جسدك. فالنوم الكثير يتعب جسدك بالخمول، ويتعب روحك أيضًا في حرمانها من وقت يمكن أن يكون مع الله، لفائدتك... أما اليقظة فتعطيك نشاطًا وحركة... ليتكلم حينما ترجعون الليلة إلى بيوتكم، تضعون أمامكم قول الرب "أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة" (مت 26: 40).
وكلما تكسل نفسك في عملها الروحي، وبخها قائلًا "انهضي من رقاد الكسل، وتضرعي.."
لا تترك نفسك في دوامة: ليل يسلمها إلى نهار، ونهار يسلمها إلى ليل، وكأنها في غيبوبة أو في غفلة، لا تدري ما هي فيه. كمن هو في دوامة، تلفه الأمواج وتسحبه معها إلى أسفل... وإن حدث وأخذك النوم، قُلْ لنفسك "أنا أضجعت ونمت، ثم استيقظت لأن الرب معي" (مز 3). وقل "أنا استيقظت مبكرًا"..
قُمْ من نومك، كما قامت العذارى الحكيمات.
مصباحك في يدك، وهو مملوء زيتًا. والزيت يرمز إلى الروح القدس. واسهر منتظرًا العريس السمائي. لأنك لا تعرف متى يأتي: أمساء، أم نصف الليل، أم صياح الديك، أم صباحًا" (مر 13: 35). فكن مستيقظا باستمرار للقاء الرب.
فحينما تطلب من نفسك أن تنهض من رقاد الكسل،
لتكن هذه دعوة دائمة تستمر مدى الحياة.
في الواقع عن الكسل في الحياة الروحية، إنما يضيع حياة الإنسان. مثلما وبخ الرب الذي دفن وزنته في التراب، ولم يتاجر بها ويربح. فقال له الرب "أيها العبد الشرير والكسلان.." (مت 25: 26). فهذا الذي لم يربح بوزنته، اعتبر شريرًا وكسلانًا...
عليك إذن أن تربح روحيات لنفسك، وتربح نفوسًا للمسيح.
وتربح نموًا لك وللكنيسة... وتوبخ نفسك كلما تكسل، ولا تقبل منها أعذرًا في ذلك مثلما قال الكسلان "الأسد في الطريق، الشبل في الشوارع" (أم 26: 13).. كل الأعذار يمكنك أن تنتصر عليها، إن كانت رغبة صادقة في الحياة مع الله...
إن الشيطان يمكن أن يحاربك بمخاوف كثيرة، ويقدم لك تبريرات للكسل. فلا تسمع له... واعرف أن أولاد الله ينبغي ان يكونوا شجعانًا، مثلما قيل عن حراس عرش سليمان إنهم جبابرة "كلهم قابضون على سيوفهم. ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل" (نش 3: 7، 8).
"أولاد الله يكونون دائمًا "حارين في الروح" (رو 12: 11).
وأنهم "غير متكاسلين في الاجتهاد". وكما قال لهم الرسول "كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين. عالمين أن تعبكم ليس باطلا في الرب" (1كو 15: 58).
_____
(1) إضافة من الموقع: (مت 26: 40).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tpt37xz