ثالثًا: الصليب في العبادة الطقسية الكنسية:(13)
لقد ذكر العلامة القبطي بطرس السدمنتي (القرن 13)، في كتابه "القول الصحيح في آلام المسيح"، فقال: < سمى الصليب سلطانًا، بحسب نبوة دانيال النبي "أن له سلطانًا ومجدًا وملكوتًا. لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول. وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 14). لأن به ظهرت قدرة المسيح، بما ظهر منه من معجزات مثل إخراج الشياطين بفاعلية الصليب، وخوفها عند رسمه. بالصليب بطل سلطان الشيطان، وقل الضلال، وعاد أكثر الخلق إلى الأعمال الصالحة والأيمان السليم، وتعبدوا طوعًا باسم المسيح المصلوب، لنيل الغفران والحياة الأبدية، واجتهدوا في عمل الخير، والإحسان للغيردون طمع في ثواب ولا خوف من عقاب. وقد صار الصليب إشارة لنيل العطايا، ولارتفاع البلايا، وراحة لكل تعبان، كشهادة لعظمة المصلوب عليه. والصليب لا يعمل المعجزات كخشبة، بل لكون المصلوب عليه إلهًا متأنسًا. كما جرى في الحية النحاسية التي نصبها موسى (عد 21: 9، 10)، (يو 3: 14) وكانت تشفى الناظر إليها، لاقتران أمر الله بها، لا من جهة شكلها. ولو لم يكن المصلوب "إلهًا متأنسآ" لما صارت تجرى باسمه أية معجزة أصلًا. ولو لم يصلب المسيح فعلًا، لما حدث بعلامة الصليب نفع (معجزات). لذا قال الرسول بولس "إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة. وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله" (1كو 1: 18). والفخر الذي له بالصليب (غل 6: 14) بسبب أنه استطاع استرجاع كثيرين للأيمان بالمسيح المصلوب، عن طريق معجزات الصليب، ولهذا جاز للرسول أن يدعوه قوة الله. ولما تأكد المؤمنين من العجائب التي تصدر بعلامة الصليب لذلك أكرموه وجعلوا له أعيادًا سنوية وشهرية، ورسموه في منازلهم وعلى ملابسهم وأيديهم، ورسمه الملوك على آلات حروبهم، كما يرسمونه على طعامهم وشرابهم وأماكن نومهم، وعند خروجهم ودخولهم، كدليل على فاعليته، كعلامة لرب المجد >.
ولذلك تجد المؤمنون يكرمون الصليب لأنه هو: رمز الخلاص، وعن طريقه أظهر لنا الله ذاته في صورة ابنه المصلوب، وشهد بمحبة الله الكاملة لنا حتى إلى الموت، وأظهر لنا بره وقداسته ورحمته غير المحدودة، وعدله الفائق، وحكمته السامية، وسلطانه على كل الخليقة. فهو رمز الوحدة والسلام، إذ كسر العداوة وألف بين الله والناس، وبين الناس وبعضهم البعض، كما قال الكتاب "لأنه هو (المسيح) سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة. مبطلًا بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا صانعًا سلامًا. ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلًا العداوة به" (أفس 2: 14-16). ولذلك كله يستخدمه المسيحيون كعلامة مميزة لهم، تجلب لهم الشجاعة والجرأة والبسالة، وتمنحهم الاحتمال والثبات. لذلك يرسمونها على أنفسهم وعلى الأكل ويزينون به صدورهم، ويحفرونها على أيديهم، ويزينون بها مقابر موتاهم.
وأيضًا تعيد الكنيسة القبطية للصليب المقدس مرتين في السنة، (17 توت) تذكار اكتشاف الملكة هيلانة للصليب المقدس، (10 برمهات) تذكار رجوع الصليب المقدس مرة أخرى إلى أورشليم بيد الإمبراطور هرقل، بعد أن أخذه الفرس بعيدًا عن أورشليم. وتفرد الكنيسة لحنًا خاصًا لهذين العيدين، هو لحن أحد الشعانين، حيث دخل المسيح ظافرًا إلى أورشليم. (صورة 2، 3).
وأكثر من ذلك، فقد جعلت الكنيسة من الصليب علامة على الكثير من الأدوات التي تستخدمها في العبادة الطقسية، مثل:
1- عصا الرعاية: وهي عصا طويلة مزخرفة يحملها الأب البطريرك أو الأسقف. وعادة، أثناء الاحتفالات الكنسية، يحملها شماس ويسير أمام البطريرك أو الأسقف. ويوضع عليها زنار من الحرير الأحمر (إشارة إلى دم المسيح الذي سفك على الصليب)، وفي أعلى هذه العصا يوجد صليب على كرة صغيرة بين حيتين ملتويين. الحية رمز للصليب، كما قال السيد المسيح " كما رفع موسى الحية في البرية. هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 14، 15). لذلك ترمز هذه العصا إلى انتصار الصليب، كما أنها تشير إلى الرعاية الصالحة والأمينة.
2- صليب الاحتفالات: هو صليب كبير موضوع على عصا خشبية (وأحيانًا يكون الصليب والعصا من الفضة أو الذهب)، ومنقوش علي الصليب من جهة صورة المسيح المصلوب، وعلى الجهة الأخرى منه قيامة المسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويحمل الشماس هذا الصليب في الاحتفالات الكنسية ويسير أولًا، ثم يأتي وراءه بقية الشمامسة حاملين أيضًا صلبانًا خشبية أصغر حجمًا، موضوع عليها رايات تمثل الاحتفالات المختلفة.
وقد وصف يوسابيوس القيصرى، الصليب الذي كان يحمل في احتفالات الصليب المقدس أيام قسطنطين الكبير، وقال: انه كان منقوش عليه الحروف الأولى باليونانية لأسم "يسوع المسيح". وذكر أيضًا أن الملك كان يأمر بوضع علامة الصليب على أدوات الحرب التي يستعملها الجيش في الحروب.
3- الصليب والشموع: يمسك الكاهن بيده اليمنى صليب مع ثلاثة شمعات مضيئة في صلاة رفع بخور عشية وباكر ويرسم الشعب بهم 3 مرات، ثم يلتفت ناحية الشرق ويصلى قائلًا: "اللهم ارحمنا، قرر لنا رحمتك، اسمعنا، باركنا، احفظنا، وأعنا وارفع غضبك عنا، تعهدنا بخلاصك".
وهذا الصليب مع الشمعات الثلاثة، يرمز إلى أن السيد المسيح الذي صلب على الصليب هو نور العالم، وهو الذي أخرج المؤمنين به من الظلمة إلى نوره العجيب، كما قال بطرس الرسول: "أما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي. أمة مقدسة. شعب اقتناء. لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم إلى نوره العجيب" (1بط 2: 9).
4- المبخرة: هي من المعدن (فضة أو ذهب أو برونز......)، ومربوطة بثلاثة سلاسل مجتمعة معًا في نهايتها بغطاء مقبب، وحلقة تعلق بها. وهذه السلاسل يتخللها صلبان، وأحيانًا يعلق بها أجراس مدورة.
هذه المبخرة يوضع في داخلها البخور على جمرات مشتعلة، ويخرج منها رائحة ذكية. وهي كقول الكتاب "ما دام الملك في مجلسه أفاح ناردينى رائحته" (نش 1: 12). ولهذا فالبخور يشير إلى حضور الله في القداسات، ويشير أيضًا إلى الصلوات النقية التي ترفع أمامه. (صورة 4)
وقد أمر الله موسى في العهد القديم، أن يجعل هارون الكاهن يقدم هذه البخور في كل صباح في خيمة الاجتماع.
وتشير المبخرة أيضًا في الكنيسة، إلى السيدة العذراء مريم التي حملت في بطنها مخلص العالم، وتخصص لها الكنيسة لحنين، يقال الواحد في أيام الصوم والآخر في أيام الأعياد والآحاد، حيث يقول اللحن للعذراء "أنت هي المجمرة الذهب الحاملة العنبر، والتي كانت في يد هارون الكاهن"......
5- صليب اليد: هذا صليب يحمله في يده، البطريرك أو الأسقف أو الكاهن، سواء في داخل الكنيسة أو خارجها. وهو يعطى لأي منهم عند رسامته بطريركًا أو أسقفًا أو كاهنًا إشارة إلى أنه أخذ هذه الرتبة باسم يسوع المسيح، وأنه هو صار خادمًا للمسيح الذي هو راعى نفوسنا وأسقفها، كما قال بطرس الرسول "لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعى نفوسكم وأسقفها" (1بط 2: 25).
وهو يشير إلى القوة التي ينالها المسيحيين من خلال الصلاة، وكما أن السيد المسيح هزم الموت بموته على الصليب وفتح لكل من يؤمن به أبواب ملكوت السموات، هكذا يستخدمه المؤمنين كأداة حرب (كسلاح) يحاربون به عدو الخير.
6- القارورة: وهي عبارة عن قارورة من الزجاج عادة (وان كانت قديمًا كانت تصنع من الذهب أو الفضة)، وهي مزخرفة بالصلبان أو أي منظر من الكتاب المقدس.
وتستخدم الكنيسة قارورتين في خدمة القداس، واحدة للخمر وأخرى للماء. وتستخدم القارورة أيضًا ليوضع فيها زيت الميرون أو زيت الغاليلاون أو زيت مسحة المرضى.
7- المروحة: عادة تصنع من ريش النعام أو الطاووس أو من قماش الكتان، أو من المعدن الرقيق، وهي تستخدم أثناء القداس لأبعاد أي حشرات أو ناموس بعيدًا عن الكأس. وعادة يكون منقوشًا عليها صلبان ورسومات للملائكة الشاروبيم والسيرافيم ذوى الستة أجنحة. ولكنها نادرًا ما تستعمل في الكنائس حاليًا (إذ يستخدم بدلًا منها اللفائف).
وفى قوانين الرسل الأطهار، جاء أنه يجب أن يقف شماسين يحمل كل منهم مروحة على يمين المذبح وعلى يساره لطرد الحشرات، كما أن الشماسان يشيران إلى الشاروبيم التي ترفرف أجنحتها على القربان المقدس.
8- خزانة الكتاب المقدس: وهي صندوق معدني من الفضة أو الذهب يوضع بداخله نسخة من البشائر الأربعة، أو إنجيل العهد الجديد كله باللغة القبطية أو العربية. ويوضع على المذبح أثناء القداسات، لأنه يرمز لحضور الرب نفسه، كما يرمز المذبح إلى عرش الله.
وهو عادة مزخرف بالصلبان ومنقوش على أحد أوجهه العذراء تحمل الطفل يسوع، ويوجد في كل ركن من الأركان الأربعة نقش لواحد من الإنجيليين، وعلى الوجه الآخر ينقش صورة القديس الذي تسمى الكنيسة باسمه.
ولأن في القرون الأولى قد كانت نسخ الكتاب المقدس نادرة ومكلفة، فكان يجب حفظها بهذه الطريقة. وقد برع الفنانين في زخرفة هذه الخزانة بالصلبان ويرصعونها بالجواهر وينقشون عليها بالقبطية ما معناه "إنجيل ربنا وإلهنا يسوع المسيح".
ويستخدم هذا الإنجيل أثناء صلاة رفع بخور باكر إذ يحمله الكاهن في يده، ويمسكه الشماس خلف الكاهن أثناء قراءة أوشية الإنجيل، وأيضًا أثناء قراءة الإنجيل.
وفى الكنيسة القبطية في أورشليم يستخدمون كتابين كبيرين مذهبين مقدسين، منقوش عليه من جهة صورة الصلبوت، وعلى الجهة الأخرى صورة القيامة، ويحملانهما اثنين من الكهنة أو الشمامسة.
9- بناء الكنيسة: اعتاد المعماريين أن تبنى الكنائس أما على شكل صليب لأنه حياة المؤمنين الذي أخرجهم من الظلمة إلى النور. وإما على شكل سفينة، مثل سفينة نوح التي أعطت الحياة لجنس البشر مرة أخرى، من خلال نوح وزوجته وأولاده الثلاثة وزوجاتهم حينما أغرق الطوفان العالم. (صورة 5)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pauline-todary/cross/liturgy.html
تقصير الرابط:
tak.la/8nqwp6s