الكثير منّا يعلم أو حتى يسمع عن المبدأ الإداري الشائع في الحياة العملية (المُعاملة بالمثل Norm of reciprocity). وينتشر استخدام هذا المبدأ الإداري في عالم السياسة أكثر من عالم الاقتصاد، خاصة في مجال التعامل الدولى، لأن العلاقات السياسية بين الدول قد تحتم استخدام هذا المبدأ في التعامل بينها. ولكن ماذا عن استخدام نفس هذا المبدأ في المعاملات الاقتصادية والتجارية سواء على مستوى الأفراد أو الشركات أو الدول؟
في البداية يجب التأكيد على أن هذا المبدأ الإداري هو ترجمة حقيقية لإحدى التعاليم الكتابية التي قالها الرب الإله لموسى ليقولها لبني إسرائيل: "وإن حصلت أذية تعطى نفسًا بنفس، وعينًا بعين، وسنًا بسن، ويدًا بيد، ورجلًا برجل، وكيًا بكىَّ، وجرحًا بجُرح، ورضّا برضّ..." (خر 21: 23 - 25).
ويرى بعض أباء الكنيسة في تفسير هذه الآيات: أن هذا المبدأ الروحي والأخلاقي يمثل قاعدة قانونية يقع عبء تنفيذها -للفصل في النزاع بين الأفراد وبعضهم- على عاتق الحكام ومسئولى الشعب من رجال الدين والقانون، وليس على عاتق الأفراد أنفسهم وبأنفسهم، في نزعاتهم، طبقًا لرؤيتهم الشخصية أو رد فعلهم.* ولعل ما جاء على لسان سليمان الحكيم فيما بعد، قد يفسر أن ما جاء على لسان موسى النبي للشعب ليس تشريعًا أو دستورًا ينفذه العامة بأنفسهم في نزعاتهم بعيدًا عن رجال الدين أو القانون، وذلك حينما قال الروح على لسان الحكيم: "لا تقل كما فعل بى هكذا أفعل به. أرد على الإنسان مثل عمله" (أم 24: 29).
كما يرى بعض الأباء في تفسير نفس الآيات أيضًا. أن هذا التعليم الذي أنزله الله سبحانه على النبي موسى في جبل سيناء، كان يتمشى مع هذه الفترة الزمنية، التي كان الشعب فيها غير مُهيأ أو مؤهل لتعاليم دينية تسمو بهم أكثر من هذا التعليم.. ولكن هل معنى هذا أن التعاليم التي بالكتاب المقدس لا تصلح لكل الأزمنة أو تتنافى مع بعضها البعض؟ حاشا لله أن يكون هذا. حيث يعتقد المؤلف أن بعض التعاليم الكتابية –بعيدًا عن أي تفسير روحي لها– كانت تعاليم أولية لما سيأتى من تعاليم في العهد الجديد، أو لنقل تعاليم تمهيدية كمرحلة اللبن بالنسبة للطفل قبل سن الفطام. وعليه تُعتَبر تعاليم العهد الجديد التي صاحبت مجيء رب المجد، مرحلة تالية وتكميلية لتعاليم العهد القديم، وهذا ما جاء على لسان الرب يسوع بنفسه، حين قال: "لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل" (مت 5: 17).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وتمشيًا مع ما جاء على لسان الرب يسوع (ما جئت لأنقض بل لأكمل)، وتمشيًا مع رسالة رب المجد للبشرية كلها وعنوانها "الخلاص" وطريقها "المحبة والسلام".. نتساءل ماذا يمكن أن نقول عن مبدأ (المعاملة بالمثل) في التعامل العام بين الأفراد وبعضها أو في التعامل التجاري بين الشركات وبعضها أو في التعامل الاقتصادي بين الدول وبعضها؟ وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن نقول أن مبدأ (المعاملة بالمثل) طبقًا للقواعد أو التعاليم الوضعية سوف يكون هو نفس المبدأ طبقًا للتعاليم المسيحية؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب نعود ونتساءل ما فضل التعاليم المسيحية السامية إذن عن التعاليم الوضعية الأرضية أو ما هو دورها المتميز في السمو والرقي بالسلوك الإنسانى.
وللإجابة على هذه التساؤلات: يمكن القول أن الحد الأدنى في التعامل التجاري والاقتصادي بين الشركات وبعضها أو الدول وبعضها هو مبدأ (المعاملة بالمثل)، لأن: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم أفعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت 7: 12).. أما عن كيفية الإرتقاء والسمو في التعامل أو المعاملات ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الشركات والدول أيضًا، فإنها تأتى على لسان الرب يسوع بنفسه حينما قال: "سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا " (مت 5: 38، 39). وفي هذا الصدد يقول بطرس الرسول: "غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين، عالمين أنكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة" (1بط 3: 9).
ويستمر الإرتقاء والسمو في المعاملات طبقًا لما تعلمناه من رب المجد، إلى أن يصل إلى مراحل متقدمة بمحبة الأعداء والصلاة لهم، كما يوصينا ملك السلام: "سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 43 - 45).
ويمكن ترجمة مبدأ المعاملات الجديد –طبقًا لفلسفة الإدارة بالمحبة– عمليًا على مستوى الشركات من خلال التعاون الكامل المثمر بينهم وليس من خلال المعاملة بالمثل، وذلك بهدف البنيان الجماعي، بما يفيد أصحاب هذه الشركات والعاملين بها والعملاء وأعضاء المجتمع المحيط... إلخ. ومن جهة أخرى فأنه يجب النظر إلى المنافسة بين هذه الشركات على أساس أنها منافسة تكاملية غير تصادمية كما سبق أن أشرنا.. أما على مستوى التعامل فيما بين الدول، فإنه يمكن تحقيق أقصى استفادة ممكنة من خلال التجارة الدولية الثنائية والإقليمية، كما يمكن أن يتطور التعاون فيما بين الدول ليصل إلى مرحلة التكتلات الاقتصادية والأسواق المشتركة والاتحاد الكامل بما يحقق مصالح شعوب هذه الدول.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-management/norm-of-reciprocity.html
تقصير الرابط:
tak.la/842b6q5