"إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتمثل بنا، لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم. ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحد، بل كنا نشتغل بتعب وكد ليلًا ونهارًا، لكي لا نُثقل على أحد منكم" (2تس 3: 7، 8).
بصفة عامة يمكن القول أن هذه القضية تتمثل في ضعف الأجور بشكل لا يسمح بتحمل الأعباء الحياتية في ظل الغلاء العام للأسعار..وإذا قمنا بتوصيف المشكلة من وجهة نظر العاملين نجد أن: الأجور لا تتلاءم مع حجم الجهد المبذول.. أما توصيف المشكلة من وجهة نظر أصحاب الأعمال نجد أن: ضعف الأجور نتيجة مباشرة لضعف الإنتاج.. فكيف يمكن التعامل مع هذه المشكلة طبقًا للتعاليم الكتابية والمسيحية؟
يركز هذا المدخل على حث المؤمنين على الالتزام بالعمل المتفق عليه – طبقًا للتعاقد – حتى مع الأجر المنخفض، طالمًا تم قبول هذا العمل في ظل الأجر المحدود، وذلك عن طريق التأكيد على أهمية الأمانة في العمل، لأن: "الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير" (لو 16: 10).. ومن خلال إرساء بعض القيم الأخلاقية والروحية كالقناعة والرضا، لأن: "القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين" (مز 37: 16)، كما أن "أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بُغضة" (أم 15: 17).. وأخيرًا. من خلال التأكيد على أهمية عمل الرب في حياتنا ومباركته في ثمر أعمالنا: "فبركة الرب هي تُغنى، ولا يزيد معها تعبًا" (أم 10: 22).
تتناول المسيحية قضية الأجور من خلال العلاقة بين رب العمل والعامل في حالتين، يمكن أن يُكوّنا نطاقًا ومنهجًا للتعامل العملي مع هذه المشكلة يجب الاسترشاد به.
إن الأصل في المسيحية هو الربط بين الأجر والجهد المبذول. وهذه سياسة أوسع وأشمل من سياسة ربط الأجر بالإنتاج فقط. فالروح يخبرنا على لسان بولس الرسول: "الغارس والساقي هما واحد ولكن كل واحد سيأخذ أُجرته حسب تعبه" (1كو 3: 8).
تعبر هذه الآية صراحة عن تأصيل لربط الأجر بالجهد المبذول، لأن: "في كل تعب منفعة" (أم 14: 23). ويرى المؤلف أن هذه الآية شاملة، لأنها تُغطى كل من: ربط الأجر بالإنتاج القابل للقياس الكمي كما في حالة الإنتاج السلعي المباشر.. وربط الأجر بالإنتاج النوعي غير القابل للقياس الكمي كما في حالة الكثير من الخدمات، مثل: بعض الخدمات الطبية والتمريض، خدمات القوات المسلحة والشرطة والأمن، مُعظم الخدمات الروحية والدينية، خدمات التعليم والتدريب والاستشارات، بعض خدمات السياحة، بعض الخدمات الفنية والرياضية.. إلخ... ولكن يجب أن يلاحظ أن ربط الأجر بالجهد المبذول لا يُقيد حرية صاحب العمل في اتخاذ ما يراه مناسبًا من سياسات أجور أخرى أو جديدة لتحقيق العدالة الاجتماعية من وجهة نظره الشخصية. ولعل هذا ما سوف نتعرف عليه خلال الحالة الثانية بنموذجيها.
يمكن التعبير عن الحرية المُطلقة لصاحب العمل في تنفيذ ما يراه مناسبًا من سياسات تستخدم لدفع الرواتب والأجور بما يحقق العدالة الاجتماعية المناسبة فيما بين العاملين، وذلك من خلال أكثر من نموذج جاء بمثل: الفعلة في الكرم (أصحاب الساعة الحادية عشر)، كما يلي:
فقد جاء بمثل الفعلة في الكرم (مت 20: 1-16).. أن صاحب العمل قد التزم بما اتفق عليه مع العاملين الذين استأجرهم من أول النهار طبقًا للتعاقد الشفهي بينهم، فقد قال صاحب العمل لأحد العاملين المتذمرين بالمثل: "يا صاحب، ما ظلمتك! أما أتفقت معى على دينار؟ فخذ الذي لك وأذهب، فإني أريد أن أعطى هذا الأخير مثلك" (مت 20: 13، 14).
فقد جاء بنفس المثل السابق على لسان صاحب الكرم: "فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله: أدع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئًا من الآخرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارًا دينارًا. فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر. فأخذوا هم أيضًا دينارًا دينارًا. وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت قائلين: هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر!.... (مت 20: 8 – 12).
إن من يُدقق في هذه الآيات سوف يجد: أن صاحب الكرم قد أعطى من اشتغل ساعة واحدة أجرة يوم كامل، وذلك لظروف هؤلاء العمال التي لا يعلمها إلاّ صاحب العمل نفسه، ورغبة منه في تحقيق العدالة الاجتماعية بمفهوم سامي لا نفهمه نحن، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.. ويُؤكد وجهة نظر المؤلف أنه أيضًا عند توزيع الأجر عليهم قد ابتدأ من الآخرين إلى الأولين. ومفهوم الآخرين لا يعنى فقط من اشتغل في الآخر زمنيًا، بل قد يعنى كمفهوم أوسع: "الأكثر احتياجًا أو فقرًا، الأصغر شأنًا، الأكثر إعالة لعدد الأفراد، من هم مؤقتين في العمل، من هم في القاعدة العمالية.. إلخ.
أما عن التعاليم المسيحية وأجر العمل التطوعي فإن الأمر يختلف.. حيث يرى المؤلف أن العمل التطوعي حبًا في الرب يسوع، له أهمية قصوى في حياة الأفراد والشعوب لأنه يعكس بصدق فلسفة الإدارة بالمحبة.. ورغبة في ترسيخ هذا النوع من العمل لدى الأفراد وحثهم على القيام به في المجالات الحياتية المتعددة خاصة الخدمية: كالتمريض وخدمة كبار السن وإخوة الرب والتعليم والتوجيه والإرشاد الديني والروحي.. إلخ.، فإن المسيحية رفعت من قيمة العمل التطوعي من خلال جعله أغلى الأعمال وأجره أعلى الأجور، والسبب في ذلك يرجع إلى أن أجر العمل التطوعي أجرًا سماويًا لا يعادله أي أجر أرضى. وهذا ما يؤكده بولس الرسول حين يقول: "....فويل لي إن كنت لا أبشر. فإنه إن كنت أفعل هذا طوعًا فلي أجر" (1كو9: 16، 17).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-economics/salaries.html
تقصير الرابط:
tak.la/8wrsv29