(1) الأرض:
"مُلك الأرض في يد الرب فهو يقيم عليها في الأوان اللائق من به نفعها" (سى 10: 4).
من يتأمل هذه الآية، سوف يجد عدة حقائق سماوية ومبادئ أرضية يصعب تواجدها بعمق سوى في تعاليم الكتاب المقدس، كما سنرى.
- مُلك الأرض في يد الرب: هذه حقيقة أولية هامة، فالرب الإله هو: "الذي صنع السماء والأرض، البحر وكل ما فيها" (مز 146: 6).
- فهو يقيم عليها: ولأن رب المجد هو المالك الوحيد للأرض، فهو الذي من حقه وحده أن يعطيها أو يمنحها أو يقيم عليها من يشاء.
- في الأوان اللائق: أي في (الوقت المناسب)، لأن لكل شيء تحت السماء وقت، فلماذا العجلة – أحيانًا – لمن يسأل الله شيئًا. من جهة أخرى – وهذا هو الأهم – أن يكون الوقت مناسب. ولكن مناسب لمن؟. مناسب للجميع. مناسب لمن تؤول إليه الأرض، ومناسب للأرض نفسها، ومناسب لكل الأطراف التي سوف تستفيد من الأرض (المشتغلين بها- المستفيدين من خيراتها كالمستهلكين، كل أعضاء المجتمع المحيط من عملاء أو موزعين أو حكومة.. إلخ.).
- من به نفعها: لأنه كما يهتم الرب القدوس بالإنسان فهو يهتم كذلك بالأرض لأنها إحدى صنائعه. من جهة أخرى عندما يهتم بالأرض من به نفعها، فهذا يعنى أن (الرجل المناسب في المكان المناسب)، وبهذا يمكن تحقيق الثمار المطلوبة 30، 60، 100. مع ملاحظة أن الرجل الذي ليس به نفع الأرض قد يكون به نفع لشيء آخر.
وكما نرى – كما سبق أن أشرنا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت – إن آية واحدة قد لخصت حقائق إيمانية وفلسفة حياتية ومبادئ علمية كثيرة، مثل: الهبة أو العطية المناسبة، في الوقت المناسب، للإنسان المناسب، للعمل المناسب. وبذلك يمكن تحقيق الأهداف المرجوّة. ويجدر الإشارة إلى أن كل ما قلناه على الأرض، يمكن أن يقال أيضًا على كل ما في باطن الأرض من ثروات طبيعية ومعادن وبترول..إلخ. والأكثر من ذلك فأن كل ما يقال على الأرض وما في باطنها، يمكن أن يقال أيضًا على عوامل الإنتاج الأخرى (مال، تكنولوجيا..إلخ.).
والآن. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الأرض؟ أو بمعنى آخر لماذا نبدأ بعنصر الأرض عند الحديث عن عوامل الإنتاج؟
لأن الأرض هي البداية.. ليس في حالة النشاط الاقتصادي الزراعي فقط، ولكن لكل الأنشطة الاقتصادية الأخرى الرعي والصناعة..إلخ. لأنه "في البدء خلق الله السموات والأرض" (تك 1: 1). ثم بعد ذلك استخدم الرب الإله الأرض في خلق الدواب والحيوانات: "وقال الله: لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها: بهائم، ودبابات، ووحوش أرض كأجناسها. وكان كذلك" (تك 1: 24). والأكثر من ذلك فإن الرب العلى قد استخدم الأرض أيضًا في خلق الإنسان: "وجبل الرب الإله أدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار أدم نفسًا حية" (تلك 2: 7).
هذا بالإضافة إلى أهمية الأرض واستخدامها الرئيسي في الرعي والزراعة، فقد قال الله: "لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا، وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه، بزره فيه على الأرض. وكان كذلك" (تك 1: 11). من جهة أخرى تُستخدم الأرض في استخراج كل أنواع المعادن والبترول..إلخ. فكما جاء بالكتاب: "الحديد يستخرج من التراب، والحجر يسكب نحاسًا" (أي 28: 2).
لكل ما سبق كان لابد من البدء بالأرض عند الحديث عن عوامل الإنتاج، فكما استخدمها الله في خلق الكثير من الكائنات الحية، جعلها الله أيضًا مصدر حياة لمعظم هذه الكائنات تقريبًا.
من جهة أخرى يرى المؤلف أن الأرض هي الحاضن الطبيعي لعمليات أو مرحلة التشغيل في المجال الزراعي، وهي بذلك تعادل المصنع في المجال الصناعي، والمعمل في الصناعات التحويلية، والمستشفى أو المدرسة أو الكنيسة في المجال الخدمي.. إلخ.
حدد الكتاب المقدس في مواضع كثيرة ما يمكن اعتباره متطلبات رئيسية لعملية الزراعة الناجحة، والتي يمكن إجمالها في: فلسفة روحية للعمل، أرض زراعية خصبة، توافر المياه والبذور والأسمدة، توافر أدوات الزراعة.. إلخ.
عند القيام بأي مشروع زراعي هناك فلسفة روحية يجب العمل من خلالها. فلسفة تحررنا من كل خطية وأثم: "يا بني لا تزرع في خطوط الإثم لئلا تحصد ما زرعت سبعة أضعاف" (سى 7: 3)، ونعيشها بالإيمان: "فليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمى" (ا كو 3: 7)، ولهذا فإن: "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت:... للغرس وقت ولقلع المغروس وقت" (جا 3: أ، 2)، ونعمل فبها بالرجاء: "لأنه ينبغي للحّراث أن يحرث على رجاء، وللدّارس على الرجاء أن يكون شريكًا في رجائه" (1 كو 9: 10).
يخبرنا الكتاب المقدس في مثل الزارع وتفسيره، الذي جاء بإنجيل: (مت 13: 1-23) (مر 4: 1-20) (لو 8: 4-15).. أهمية خصوبة الأرض الزراعية، حيث أن الأرض الجيدة فقط هي التي حققت الثمار المطلوبة 30، 60، 100. ويؤكد نفس المعنى المرتل في المزمور: "حبال التقسيم وقعت لي في أرض خصبة وإن ميراثي لثابت لي" (مز 16: 6).
وفي قصة اعتزال (لوط عن أبرام): "فرفع لوط عينه ورأى كل دائرة الأردن أن جميعها سقى، قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة، كجنة الرب، كأرض مصر" (تك 13: 10).
وكما هو واضح من الآية يُشَبِّه الوحي دائرة الأردن بجنة عدن، وبأرض مصر: نتيجة لخيراتها الكثيرة بسبب خصوبة أرضها وتوافر مياه النيل، ومعرفة المصريين بأول تقويم (التقويم القبطي) الذي تم استخدامه لتحديد المواسم الزراعية (أنسب ميعاد لزرع كل نوع وأنسب ميعاد للحصاد)، بالإضافة إلى خبراتهم الزراعية الكبيرة.. إلخ. وللأسباب نفسها – خصوبة أرض مصر وخيراتها – نرى أنه عندما حدث جوع شديد في الأرض لجأ أبرام إلى أرض مصر (تك 12: 10)، نفس الشيء قد حدث لأبناء يعقوب مرتين كما جاء بقصة يوسف الصديق (تك 42: 1، 2)، (تك 43: 1، 2).. كل هذا يعكس إلى أي مدى تأتى أهمية خصوبة التربة -طبقًا للتعاليم الكتابية- في الزراعة.
لا أحد يستطيع أن يتجاهل أو يتناسى للحظة واحدة أهمية المياه في الحياة للمخلوقات والأرض كلها منذ بدء الخليقة وحتى الآن. فعندما خلق الله السماوات والأرض: "كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه" (تك 1: 2). وقال الله: "ليكن جلد في وسط المياه. وليكن فاصلًا بين مياه ومياه". فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك" (تك 1: 6، 7).
أما عن أهمية المياه للأرض، فيقول الكتاب في سفر التكوين أيضًا: "كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض" (تك 2: 5) فضابط الكل ومدبر الكون هو: "الذي يهيئ للأرض المطر، الذي ينبت العشب على الجبال، والخضرة لخدمة البشر" (مز 147: 8).
أما مثل التينة التي أعطيت فرصة أخرى فهو يُعبر إلى حد كبير عن أهمية السماد للأرض الزراعية، فقد: "كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه، فأتى يطلب فيها ثمرًا ولم يجد. فقال للكرام: "هوذا ثلاث سنين آتى أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد. أقطعها! لماذا تبطل الأرض أيضًا؟ فأجاب وقال له: يا سيد، أتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها وأضع زبلًا. فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد تقطعها" (لو 13: 6-9). وفيما يتعلق بالبذار فإن: "الذي يقدم بذارًا للزارع وخبزًا للأكل، سيقدم ويكثر بذاركم وينمى غلات بركم" (2كو9:10).
وأخيرًا. يجب التنويه إلى أن الأرض الزراعية لا تحتاج فقط إلى وجود المياه أو البذور أو السماد، بل إلى الوفرة فيهم، لأن: "من يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد" (2كو 9: 6).
عرف شعب الله قديمًا الأدوات الزراعية، كما عرف اليهود استخدام الحيوانات في كل عمليات الزراعة كعامل أساسي يساهم في زيادة الإنتاجية الزراعية، لأن: "كثرة الغلة بقوة الثور" (أم 14: 4)، فلذلك: "لا تكتم ثورًا دارسًا" (1 تى5: 18).. من جهة أخرى فأنه لأهمية أدوات الزراعة، فإن الكتاب المقدس يوصى بضرورة الحفاظ عليها والاهتمام بها: "فإن كانت لك دواب فتعهدها وإن كان لك منها نفع فأبقها عندك" (سى 7: 24).
وفي نفس المجال يجب الاهتمام بالمعدات والآلات الزراعية الميكانيكية المستخدمة أولًا بأول، والقيام بالصيانة الاعتيادية والدورية اللازمة لها لزيادة إنتاجيتها وإطالة عمرها الإنتاجي، أو القيام بالإحلال والتجديد إذا دعت الحاجة لذلك. فحيث إنه لكل شيء تحت السماء وقت، فأنه أيضًا: "للصيانة وقت وللطرح وقت" (جا 3: 6).
وختامًا. بعد استعراض كل متطلبات الزراعة الناجحة المشار إليها، فأن المُنصف يستطيع القول بأن الكتاب المقدس تكلم عن الأرض والزراعة بتفاصيل واهتمامات تخصصية دقيقة. فعظيم هو الرب وعظيمة هي أعماله، ومشيئته كلها مفحوصة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-economics/land.html
تقصير الرابط:
tak.la/c78ay6s