في البدء يلزم التنويه إلى أن الكتاب الثالث من هذه السلسلة سيكون تحت عنوان: "التعاليم المسيحية.. ومبادئ التمويل والاستثمار".. وعليه فإننا سوف نكتفي هنا بالإشارة فقط إلى بعض الشواهد الكتابية التي تهتم بالادخار والاستثمار، وكذلك الشواهد التي ترفض وتنبذ الاكتناز والربا.. إلخ. أما كل ما يتعلق بشرح وتفسير موضوعات أو نظريات التمويل والاستثمار فسوف يتولى تغطيتها الكتاب الثالث من هذه السلسلة كما سبق الإشارة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفيما يتعلق بالادخار.. فالكتاب المقدس يعلمنا ضرورة الاهتمام بالادخار لارتفاع أهميته سواء على مستوى الادخار المالي أو الصحي.. إلخ. والشواهد الكتابية صريحة في هذا الشأن سنختار منها بعض الأمثلة التي لا تحتاج إلى تفسير. فمثلًا يوصينا الكتاب صراحة بضرورة الاهتمام بالادخار المالي من خلال الحكيم بن سيراخ: "في وقت الشبع أذكر وقت الجوع وفي أيام الغنى أذكر الفقر والعوز" (سى 18: 25)، كما يعلمنا: "إن لم تدخر في شبابك فكيف تجد في شيخوختك" (سى 25: 5). وكما هو واضح من الآيات فهي تدعونا إلى الاقتصاد والادخار المالي من فائض اليوم للغد.. ومن جهة أخرى فإن الحكمة تدعونا قائلة: "أن من جار على شبابه جارت عليه شيخوخته". وتوضح الحكمة السابقة ضرورة الاهتمام بالصحة والحفاظ عليها من خلال ما يمكن أن نسميه (الاقتصاد أو الادخار الصحي)، لأن الصحة وزنة من رب المجد، لذا يجب الحفاظ عليها واستثمارها - طبقًا للتفسير الاقتصادي للوزنة – روحيًا وجسديًا الاستثمار الأمثل.
والادخار في معناه البسيط هو: تجنيب الفرد لجزء من دخله – سواء كان فائض أو حتى غير فائض عن الحاجة – وعدم إنفاقه على الاستهلاك.. للاستفادة به عند الحاجة في وقت لاحق إما في إنفاقه على الاستهلاك، وإما في توجيه هذا الادخار إلى الاستثمار، وبذلك يتضح أنه ليس كل ادخار استثمار.. ولكن يجب ملاحظة أن المسيحية ترفض بشدة الاكتناز. فالرب يسوع يعلمنا في الموعظة على الجبل، قائلًا: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" (مت 6: 19، 20).
وإذا انتقلنا إلى المسيحية والاستثمار.. فإن الرب يسوع بنفسه قد شجع على استثمار كل فرد للوزنة المعطاة له، وليس أدل على ذلك أكثر من مثل الوزنات الذي ذكره رب المجد يسوع، حينما قال: "وكأنما إنسان مسافر دعا عبيده وسلمهم أمواله، فأعطى واحد خمس وزنات، وآخر وزنتين، وآخر وزنة. كل واحد على قدر طاقته. وسافر للوقت. فمضى الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها، فربح خمس وزنات أخرى. وهكذا الذي أخذ الوزنتين، ربح أيضًا وزنتين أخريين. أما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض وأخفى فضة سيده..." (مت 25: 14 – 30)
والمتأمل لهذا المثل – بعيدًا عن التأملات الروحية – يمكن أن يجد بعض الملاحظات الاستثمارية الهامة، لعل أهمها:
- إن صاحب رأس المال قد أثنى على كل من الشخص الأول والثاني، لنجاحهما في الاستثمار المباشر للوزنات المعطاة لكل منهما، من خلال التوظيف الجيد لعنصري العمل ورأس المال..ويعكس هذا الأمر – ضمنيًا – أهمية الاستثمار المباشر لما يمكن أن يحققه: من أرباح وعوائد لصاحبه، وتوظيف موارد المجتمع (من خلال موارد أفراده) الاستثمار الجيد، وتحقيق عوائد ضريبية للمجتمع نتيجة لما حققه أفراده من أرباح، بالإضافة إلى المساهمة في تشغيل عمال آخرين.. إلخ.
- قد حقق كل من الشخص الأول والثاني نسبة عائد 100 % من رأس المال المستثمر، حيث قد حقق الشخص الأول خمس وزنات إضافية، والشخص الثاني وزنتين إضافيتين.. وبهذا يمكن التأكد من عدم تقييد المسيحية لنسب العوائد أو الأرباح التي يمكن أن يحققها المستثمر على أمواله بشرط أن تكون في مجال أعمال يرضاها الرب الإله، وعدم الاستغلال لأي من المستهلكين أو العاملين، مع جودة المنتجات المقدمة (سلع أو خدمات).. إلخ.
- إن الاستثمار المباشر هو الاستثمار الوحيد الذي يمكن أن يحقق – بطرق مشروعة وأخلاقية – عوائد تصل إلى 100 % من رأس المال، وبعيدًا عن المضاربات بأنواعها (في البورصة أو الأراضي.. إلخ.)، أو المشاريع التي لا ترضاها المسيحية.
- إن صاحب رأس المال قد وبخ وعنف الشخص الثالث الشرير والكسول، الذي لم يستثمر مباشرة بنفسه، ولا حتى قام بوضع الوزنة التي أعطيت له عند المصارف أو الصيارفة حتى يمكن استرداد رأس المال وفوائده عند نهاية المدة كما توضح الآيات.. الأمر الذي يعنى أن المسيحية لم تمانع في الاستثمار غير المباشر عن طريق المصارف أو البنوك لمن ليس لديه القدرة على الاستثمار المباشر بنفسه.
- مما سبق يتضح إلى أي مدى تشجع التعاليم الكتابية والمسيحية على الاستثمار المباشر وغير المباشر التي كانت سائدة في ذلك الوقت..أما الاستثمار في الوقت الحاضر فيأخذ الكثير من الصور والأشكال سواء كانت مباشرة في مجالات (الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات المتنوعة.. إلخ.)، أو غير مباشرة في مجالات (التوفير والودائع بالبنوك، والأسهم والسندات وصناديق الاستثمار في البورصة والبنوك..إلخ.).
وتجدر الإشارة إلى أن ما يمكن أن يقال عن ضرورة الاهتمام باستثمار الوزنات المالية التي تمنح للأفراد، يقال أيضًا على ضرورة استثمار كل الوزنات الصحية والعقلية والحرفية والمواهب.. إلخ. بشرط أن يكون للبنيان، وبما يحقق الفائدة لجميع الأطراف كما سبق الإشارة خلال الفصول السابقة.
وفي الحديث عن الاستثمار لا يفوتنا الإشارة إلى أهمية التعاون المالي بين الأفراد خاصة في مجالات الاستثمار المباشر. فالاعتماد على رأس مال أصحاب المشروع فقط قد يكون غير كافى، مما يُحتم أو يستوجب الاستعانة بأموال الغير والتعاون بين الأفراد. فالكتاب المقدس يوصينا: "لا تعتد بأموالك ولا تقل لي بها كفاية" (سى 5: 1).. من جهة أخرى يبارك الكتاب التعاون المالى والشراكة الاستثمارية بين الأفراد طالمًا كان بغرض البنيان وللصالح العام: "لأن الذين يتشاركون في الفائدة، هم مؤمنون ومحبوبون، علم وعظ بهذا" (1تى 6: 2).
ولكن يجب ملاحظة أن الدعوة إلى الاستثمار لا يجب أن تنسينا الاهتمام بإخوتنا الأصاغر الذين أوصانا بهم الرب يسوع.. كما لا يجب أن ينسينا الاهتمام بالاستثمار أية من المسئولية الروحية والأخلاقية تجاه كل أفراد المجتمع الصغير أو الكبير المحيط بنا، لأن: "صالح هو الذي يترأف ويُقرض" (مز 112: 5). والإقراض هنا لا يعنى الإقراض المصرفي، حيث أن الإقراض هنا بدون فوائد، والدليل على ذلك يأتى على لسان المرنم عندما بدأ المزمور، يقوله (صالح هو الذي يترأف)، وبذلك لا يستقم هذا الوصف على مُقرض يأخذ فوائد للمساهمة في حل أزمة مُحتاج يقترض، كما إن المرنم – في نفس المزمور – يعود ليثنى على هذا المُقرض عندما يرتفع بره ويتحنن على المساكين، قائلًا: "فرق أعطى المساكين. بره دائم إلى الأبد" (مز 112: 9).. وفي المجال نفسه يطوّب المرنم من يتعطف على المساكين ومعددًا له الحسنات المنتظرة، بقوله: "طوبى لمن يتعطف على المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب. الرب يحفظه ويحييه، ويجعله في الأرض مغبوطًا، ولا يسلمه لأيدي أعدائه. الرب يعينه على سرير وجعه، إنك أقمته من كل أوجاع مرضه" (مز 41: 1-3).
أما عن الربا فإن المسيحية ترفضه تمامًا وتنبذه. فعندما يتساءل المرتل في مطلع المزمور (15) قائلًا: "يا رب من يسكن في مسكنك، من يحل في جبل قدسك (مز 15: 1).. فإنه يذكر في إجابته للتساؤل أو الاستفسار عدة اشتراطات منها إن هذا الإنسان: "لا يعطى فضته بالربا" (مز 15: 5)، والكتاب يقول: "المُكثر ماله بالربا والمرابحة، فلمن يرحم الفقراء يجمعه" (أم 28: 8).. ولكن ما هو المقصود بالربا؟.. يُقصد بالربا إقراض المحتاج والمُعوز بفوائد مرتفعة مستغلًا بذلك حاجته الشديدة للمال في العلاج أو تنكيس منزل أو زواج أحد الأبناء أو تعليمه.. إلخ. وفي كثير من الأحيان يخصم المُقرض الفوائد المرتفعة مقدمًا من أصل المبلغ المُقترض.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-economics/investment.html
تقصير الرابط:
tak.la/kg7g29c