** مقدمة:
الإنسان مخلوق مركب غير بسيط له نزعات متباينة مما يجعله يفكر ويتأثر ويتصرف بطرق شتى متنوعة. بل لقد أشار مفكر مسيحي إلى أن الغريزة نفسها ليست عنصرا بيولوجيا بحتا إذ هي مقترنة بالخيال والانفعالات الوجدانية لدى الإنسان (2). كما يمكن القول بأنه قلما تعمل غريزة واحدة بمفردها لأنها ترتبط وتتفاعل مع غيرها. لهذا فالإنسان تحت تأثير انفعال معين أو فكرة محددة يتصرف بخلاف تصرفه تحت تأثير مغاير. بل ان الفكرة الواحدة ان أتته من شخص حبيب تجعله يسلك مسلكا غير الذي يسلكه إن أتته من شخص غير محبوب. ومن الآراء القديمة التي سيطرت على الرجال والنساء زعم بأن المرأة أقل قيمة بيولوجية من الرجل. وسيطر هذا الزعم على مدى قرون طويلة مما جعل المرأة تخضع لسيطرة الرجل خضوعا تاما.
فلقد نشأ المجتمع الأول تحت تأثير النظرية القائلة بأن المرأة مخلوقة لأجل الرجل. وحتى بعض أباء المسيحية الأوائل رغم اضطرامهم بمحبة المسيح ورغم اعترافهم في العهد الجديد بما أدته المرأة وما تؤديه من خدمات ظلوا يعتبرونها في مرتبة ثانوية إذ استمر يسيطر على تفكيرهم بأنها السبب في اخراج الرجل من الفردوس، فهي إذن التي أتت بالخطية إلى العالم وبالتالي يجب أن تكفر عن هذا الذنب جيلًا بعد جيل. فطغت خطية حواء في تفكيرهم على النعمة التي فاضت على السيدة العذراء. ونسوا أنه ما من رجل يستطيع بمحض ارادته ومقدرته أن يكفر عن خطيته. ولو كان ممكنا فما الدافع لتجسد الابن الكلمة؟.
وثمة مطلب أخر تضعه هذه الانطلاقة الحاضرة على كاهل المرأة - وذلك هو أن عليها في أحيان كثيرة أن تكون زوجة وأما وعاملة في الحياة العامة في أن واحد. ولكي ترى مجد الله خلال كل هذه الأعمال الموضوعة عليها يجب أن تستطيع "تقسيم" حياتها- أي يجب أن تؤدي كل واجب من هذه الواجبات كأنه الواجب الوحيد- وليس من شك في أن هذا عمل شاق. ولكن الله خلق المرأة بطبيعة ذات إمكانيات عجيبة. لقد خلق الله المرأة بنتا صغيرة تلهو وتلعب وتنمو. وفي هذه البداية من حياتها، تجد نفسها محاطة بالعطف والتدليل. كما تكون في أغلب الأحيان خالية من المسئوليات الجسام التي تنتظرها خلف الأيام. فتسعد برعاية والديها وتسعد بصحبة مثيلاتها، وتطرب حين تجد عودها قد نما وأنها أصبحت "شابة" وتقول في زهو وخيلاء: أنا عمري خمسة عشر عاما.. (مثلًا). ولكنها لا تكاد تأنس إلى هذه الحالة التي ملأتها زهوا حتى تجد نفسها وهي تستعد لأن تكون عروسا. والفترة ما بين الخطوبة والإكليل كلها خيالات واندفاعات تملأ نفس الشابة نشوة، وتصور لها الحياة في صورة زاهية. فإذا ما انست إلى هذه الخيالات السعيدة إذ بها قد أصبحت على أعتاب الأمومة. وهذه الحالة أيضًا تستتبعها انفعالات خاصة إذ تمتلئ العروس المتوقعة أن تكون أما بالنشوة وبالرهبة معًا، النشوة لأنها ستلد إنسانًا إلى العالم- إنسانًا يكون قطعة منها وجزءا من شغاف قلبها، والرهبة فيما قد يكون هذا الطفل. ومرة أخرى تتدافع الخيالات داخل نفسها المترقبة. وتمر الأيام فإذا بها أم بالفعل. وفي السنوات الأولى للأمومة، كثيرًا ما تحس بالضجر لما تفرضه عليها العناية بالطفل من مشاق ومن سهر. ويتخلل هذا الضجر ساعات من الفرح العميق. ساعات تناغى فيها طفلها وتبتسم له وتلتقي ابتسامتها بابتسامته. فلا تلبث أن تجد نفسها سعيدة وهي ترقب طفلها ينمو ويخطو خطواته الأولى. ويبدأ بأن يتلفظ بكلمات ناقصة غير مفهومة للآخرين، ولكنها كاملة واضحة في أذنيها. فتكرر ما يقول وتسرد ما يفعل في زهو وفرح. على أن السنين تمر سراعًا فإذا بهذا الطفل الذي كان في حجم الدمية أصبح شخصا ناضجا له اتجاهاته الخاصة ورغباته الفردية وله أيضًا مقدراته، فهو لم يعد في حاجة إلى ما كانت تبذل من جهد وعناية، ولم يعد مرتكنا عليها لقضاء احتياجاته. وعند ذاك تجد لديها الوقت الذي يثقل على كاهلها. وهنا أيضًا تدفعها عاطفيتها إلى الزعم بأنها أصبحت مستغنى عنها. وهذا هو السبب الأساسي في أن بعض الأمهات حين يشب أولادهن تنتابهن الأمراض لأنه لم يعد لديهن هدف يشغلن أنفسهن للوصول إليه.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
على أنه يجدر بنا أن نتمعن في كيفية خلق الله لحواء: أنه ألقى سباتًا على آدم ليضفى على خلق حواء وقارًا واحتشامًا. ويعلق أحد الآباء المعاصرين على ما جاء في الكتاب المقدس بقوله: "لم يكن هذا السبات نوما عاديا... والعبارة نفسها تتكرر في حادثة أخرى لها أهمية خاصة- هي الحادثة التي تروي لنا العهد الأول بين يهوه وإبراهيم إذ تقول فوقع على إبراهيم سبات عميق ففي كلتا الحالتين اشارة إلى الذهول الذي يصيب الإنسان إذ ما اقترب الله منه بافراط: أنه انخطاف تصوفي(3) ولقد شاء الله تعالى أن يحيط خلقة حواء بقدسية عجيبة فأوقع بآدم هذا الذهول الروحي ثم أخذها من ضلعه من غير أن يجعله يحس بأي ألم ولا أية مضايقة. وهو تعالى شاء أن يوضح بهذه الكيفية مدى الكرامة والحنو اللذين لازما اخراجها إلى حيز الوجود. وبعد ان افاق آدم اتى الله بحواء وقدمها إليه بنفسه. فهل هناك إكرام أعظم من هذا. وقول الخالق المبدع "ليس جيدًا أن يكون آدم وحده فأصنع له معينا نظيره"(4) ليس معناه أنه تعالى استدرك نقصا في عمله- فحاشا لله أن يخلق شيئًا ناقصًا. وإنما قصد بذلك أن يعلم الإنسان منذ البداية مبدأ التعاطف والمحبة المتبادلة التي لا يمكن أن تقوم إلا بين مخلوقين "نظيرين". فالله إذن في شامل حكمته شاء أن يعلم الإنسان ماهية العواطف العليا ويجعل آدم يشعر بحاجته إلى معين نظيره قبل أن يعطيه هذا المعين.
_____
(2) هو الأستاذ كوستى بندلى في كتابه "الجنس" (ص 16- 17).
(3) راجع أيضًا كتاب الجنس (ص 206-207)، جان دانييلو "في البدء" (بالفرنسية) ص 48.
(4) (تكوين 1: 18).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/woman-christ/human-beings.html
تقصير الرابط:
tak.la/fkwk9rh