غمر ينادي غمرًا:
والمعمودية هي الباب الذي يدخل منه المؤمن إلى حظيرة الكنيسة فهي السر المقدس الأول الذي يجب أن يناله الإنسان لأنها الولادة الثانية التي بواسطتها يدفن الإنسان العتيق ليقوم الجديد. وبعد خروجه من جرن المعمودية يدهنه الكاهن بالميرون الذي هو سر حلول الروح القدس داخل الروح الإنسانية ليؤهلها لحياة النعمة والقداسة. ولما كانت الصبغة المقدسة (المعمودية) تمنح في الطفولة فقد رتبت الكنيسة الأشبين (أو الأشبينة) للقيام بتربية الطفل وتهيئت الفرصة أمامه للنمو. على أن النمو الروحي يتطلب مجهودا شخصيًّا من الإنسان ذاته. لأنه بعد أن يتعلم من والديه ومن اشبينه ومن الآباء الكهنة -بعد هذا كله يجب أن تتجاوب التعاليم التي تلقاها مع نفسه. وهذا ما عبر عنه مرتل المزمور حين قال: "غمر ينادي غمرًا" (مز 42: 7) فالإنسان في مراحل نموه الروحي قد سمع عن الله وآمن به وأحبه وأحب قريبه كما قالت الوصية. ويزعم البعض أن هذا يكفي ويذهبون إلى أن المسيحي الذي يمارس مسيحيته فيما يُسَمَّى بالخدمة الاجتماعية هو المسيحي الحق. على أن مثل هذا الزعم بعيد عن واقع الحياة المسيحية الحية. فهذه الحياة تتطلب الامتلاء المستمر "تتطلب الارتواء من ذلك الماء الحي الذي يعطيه رب الحياة. ومن غير هذا الارتواء من الماء الحي تجف الحياة رغم ما تتسم به من خدمة اجتماعية ومن حسن معاملة الآخرين. ذلك لأن النمو الروحي ليس له حد يقف عنده. فالقمة التي يريدنا مخلصنا أن نصل إليها قمة شاهقة تحتم التسلق مدى الحياة- ألم يقل لنا كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل؟ ولكي يستطيع أي شخص أن يواصل التسلق يحتاج إلى تغذية مستمرة تعطيه القوة ليتسلق. ولن يحصل على هذه التغذية ما لم يأخذها من مصدرها. ولكي يأخذها من مصدرها يجب أن يكون على صلة شخصية بهذا المصدر -أي أنه يجب أن يكون متصلا بالله. وهذا معناه أنه يجب أن يدع جزء -مهما كان صغيرًا- من وقته للجلوس في صمت عند قدمي المعلم كما فعلت مريم. وهذا الجلوس في صمت مع الله هو ما نفتقر إليه في عصرنا الحالي لأن مشاغل الحياة تجرفنا لا تترك لنا بضع دقائق لهذا الصمت الذي هو ضرورة من ضروريات النمو الروحي. ولكي تبين لنا كنيستنا أهمية هذا الصمت جعلت ضمن صلوات القداس الإلهي صلوات يقولها الكاهن سرًا بينما يخشع المصلون في صمت. وخلال هذه اللحظات من الصمت تتلامس هذه الأرواح الإنسانية بالروح القدس وتستجيب الأعماق لنداء العمق. ومثل هذه اللحظات يجب أن تكون أيضًا جزء من حياتنا اليومية كي يستمر التلامس الروحي يومًا بعد يوم. وباستمرار تلامس الروح الإنسانية مع الله تزداد الصلة وثوقًا وتكتسب روح الإنسان قوة علوية. وعند ذلك تستطيع أن تكون ذات فعالية في المجتمع بصورة أعم من مجرد الخدمة الاجتماعية. فمثلا أعرف كاهنًا اعتاد مثل هذه الخلوة اليومية فامتلأت نفسه بالقوة الإلهية إلى حد أن أحد الرجال العسكريين رجا منه أن يسمح له بالجلوس أمامه في صمت تام آخر النهار مدى ربع ساعة فقط. وقد قال له حين طلب إليه هذا الطلب بأنه يشعر بالسلام يسري داخل نفسه حين يجلس أمامه صامتًا. فان كان إنسان يستطيع أن يشعر بسلام داخلي من مجرد جلوسه في صمت أمام إنسان فكم بالحري إذا جلس أمام الله بهذا الصمت؟ وأذكر أيضًا أنني استصحبت سيدة هندية(76) ذات يوم إلى كنائس مصر العتيقة(*) وحين خرجت من هذه الكنائس وقفت معي بعض لحظات في حديقة المتحف القبطي لتقول لي: "لا بُد أن السلام كان يملأ نفوس أجدادكم الذين صلوا في هذه الكنائس". ورأت علامة الاستفهام على وجهي فقالت: "لأن نفسي امتلأت سلامًا نتيجة اللحظات التي قضيتها في داخلها" وهنا أيضًا نرى أثر الإنسان في الإنسان -ولكنه أثر الإنسان الملتصق بالله في الإنسان الملتقي في حياته بمعرفة الله كما تعلمها فقط. وهنا نتذكر نصيحة أحد آباء الصحراء -فقد جاءه شاب مرة يقول له بأنه يريد أن يلتصق بالله ولكنه لا يعرف كيف. فأجابه الأب الذي ذاق حلاوة الله: "إذن فاذهب والتصق بإنسان ملتصق بالله".
_____
(76) هذه الملحوظة عينها أيَّدتها لي صديقة أمريكية بعد خروجها من هذا الكنائس عينها مما يدل دلالة صريحة على حقيقة هذا السلام السائد على كنائسنا القديمة -راجع كتابي "نحو هدف أمثل" (ص 29- 30).
(*) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا "عتيقة" فتم التعديل، ويُقْصَد بها منطقة "مصر القديمة" بالقاهرة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/woman-christ/bridesmaid.html
تقصير الرابط:
tak.la/ryf97d2