وبعد انقضاء الساعة الثالثة بعد الظهر عادت الشمس تفرش أشعتها، ولكن كأنها فقدت بريقها ولمعانها، إذ غلب اللون الأحمر على هذه الأشعة وكأنها قد صارت مرآة لدم المصلوب. أما قرص الشمس المشتعل نارًا فأخذ يعلن غضب الله على ذاك الشعب الذي دعاه يومًا شعبه، وصنع من أجله المعجزات العظام وحمله على أجنحة النسور، وأتى به إلى هذه الأرض، وهو شعب جاحد عنيد صلب الرقبة، وبدأت الجموع الباقية على الجلجثة تسرع إلى المدينة لإقامة طقس الفصح.
أما حنان وقيافا فقد غطَّاهم الحزن العميق والخزي العظيم بسبب انشقاق حجاب الهيكل، فعلما أن الخراب أصبح وشيكًا، وسمع قيافا صوتًا داخله: قيافا... قيافا... لقد شقَّقتَ ثيابك بإرادتك، فشق الرب عنك كهنوتك، وهوذا قد انشق حجاب الهيكل مفخرتك ومفخرة كل شعبك... وتوهَّم قيافا أنه صوت الرجيم، فأخذ يتمتم بالمزامير وهو يقول: ألم نفعل كل هذا محبة في يهوه وغيرة على مجده...
وقف يوسف ونيقوديموس متجاورين وأعينهما نحو المصلوب حتى بعد موته يريدان أن يستنطقانه، ويلحَّان عليه بالنظرات لكيما يكلمهما، أو ينزل عن الصليب ويعلن مجده... كان يوسف رجلًا غنيًا شريفًا صاحب مشورة، وكان نيقوديموس رئيسًا لليهود، ومعنى اسمه النقي الدم أو الشريف الحسب، وكلاهما كان عضوًا في مجلس السنهدريم، وكلاهما لم يكن موافقًا على قتل يسوع، فكلاهما كان تلميذًا ليسوع في الخفاء، وكلاهما كان ينتظر ملكوت الله، ومحبة المصلوب قد ألفت بين قلبيهما، وإذ بيوسف يقول: إني ذاهب يا نيقوديموس.
نيقوديموس: إلى أين يا يوسف..؟! يخال إليَّ أنني سأظل واقفًا هكذا أمامه... لا أريد أن أفارقه.
يوسف: سأذهب إلى بيلاطس، واستسمحه في جسد يسوع لأدفنه في قبري هذا الذي حفرته في الصخر، بدلًا من إلقائه في المقبرة العامة أو في وادي هنوم... أليس هذا أقل ما يمكن عمله؟!
نيقوديموس: نعم... نعم يا يوسف هذا أقل ما يمكن عمله، ولكنها ألا ترى أنها جسارة منك يا يوسف..؟! سيطردونك من مجلس السنهدريم، وربما في حركة هوجاء يعتدون على ممتلكاتك أو عليك شخصيًا...
يوسف: لست مستعدًا أن أُطرد من السنهدريم فقط، إنما صدقني إنني مستعد الآن أن أُصلب من أجله.
نيقوديموس: إذًا لتذهب يا يوسف. بل أنا سآتي معك، فلم أعد أخشى غضب رؤساء الكهنة ولا شيوخ إسرائيل... لم أعد ألتفت إلى سخط الكتبة ولا الفريسيين... لم أعد أهتم بعضويتي في السنهدريم.
ويبدو إن جسارة يوسف الرامي أشعلت نيران الغيرة في قلب نيقوديموس، الذي جاء قبلًا إلى المعلم الصالح يستتر بظلام الليل.
يوسف: إنها الفرصة الأخيرة يا نيقوديموس لنُعبّر عن محبتنا ونجاهر بإخلاصنا له، ما لم يمكننا عمله في حياته خشية الغضب الكهنوتي السنهدريمي يمكننا عمله الآن، وليكن ما يكن.
نيقوديموس: إن موته بعث الشجاعة في نفسي... أريد أن أشهد على تعسف الرؤساء وشيوخ الشعب... أريد أن أستهجن ظلم مجلس السنهدريم.
يوسف: الوقت مقصر يا نيقوديموس... سأذهب أنا إلى بيلاطس، وأذهب أنت لتشتري الأكفان، فبعد قليل ستغلق جميع الحوانيت أبوابها.
لقد تحوَّل خوف يوسف إلى جسارة، وكذا اعترف نيقوديموس السري إلى مجاهرة علنية، وترك الاثنان معًا جبل الجلجثة إلى داخل المدينة، وترك يوسف نيقوديموس، ووقف نيقوديموس يشتري أكفانًا غالية من كتان نقي، وكمٌ وافرٌ من الحنوط مزيج من مّرٍ وعودٍ نحو مائة مَنًاْ (نحو 36 كجم) تكفي لتطييب مائتي رجلًا، فهذا كانوا يفعلون مع الملوك والعظماء، وكأني بنيقوديموس الذي يريد أن يحمل كل حنوط وأطياب العالم ليضمخ بها الجسد المقدَّس...
أما يوسف الذي لفته دوامة الأحداث فلم يدري أن العيد يدق الأبواب، والشعائر الدينية توجب عليه ذبح وأكل الفصح بعد ساعتين، ولم يدري يوسف أنه لا يجب دخول بيت بيلاطس الأممي لئلا يتنجس، وإذ به يقف أمام بيلاطس:
سيدي الوالي... يسوع صُلب ومات وهو برئ... أنتَ شهدت بهذا، وشهادتك هي حق... فهل تسمح لي أن أخذ جسده لأدفنه؟
بيلاطس: عجبًا يا يوسف... كيف مات في هذه المدة الوجيزة؟!
وأيضًا تعجب بيلاطس من جسارة هذا العضو السنهدريمي الذي يضحي بمنصبه من أجل إنسان برئ قد مات -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وهذا ما لم يقوى بيلاطس على فعله، فاكتسب يوسف احترام بيلاطس، وإذ بقائد المئة الذي كُلّف بعملية الصلب عاد على التو من الجلجثة، فدعاه بيلاطس وسأله: أحقًا مات ملك اليهود؟ وهل له زمان منذ أن مات؟!
قائد المئة: مات في بداية الساعة التاسعة (3 ب. ظ) ولهذا لم تكن هناك ثمة ضرورة لكسر ساقيه، غير إن أحد جنودي طعنه بحربته فلم يرتعش الجسد لأنه كان قد مات.
وتمتم قائد المئة بكلمات خفيفة " مات... مات ابن الله " وسمع بيلاطس كلماته وصمت، فكيف يحتج على من شهدت الطبيعة لبراءته؟!
وتمتم بيلاطس: عجبًا... أبهذه السرعة... اذهب يا يوسف وادفنه بإكرام عظيم...
ورغم إن الولاة عادة يتلقون رشوة من أجل تسليم ذوي المصلوب جثة المصلوب، فإن بيلاطس وافق بسهولة على تسليم جسد يسوع ليوسف بدون مقابل، لعله يريح ضميرًا مثقلًا بجريمة قتل إنسان برئ صلبًا.
والتقط يوسف تصريح بيلاطس، فشكره وعاد إلى المصلوب، وكان الوقت قد جاوز منتصف الخامسة بعد الظهر. كل شيء يبدو ساكنًا... سكت أنين المصلوبين، لأن الحياة سكتت فيهم، ولم يعد أمام المصلوب سوى يوحنا والأم الثكلى وبعض النسوة، وقد خيمَّ الهدوء على جبل الجلجثة حتى يخيل للمرء أن كل شيء قد مات...
وجاء نيقوديموس حاملًا على ظهره صرة بها الأكفان والحنوط.
واحتضن الرجال الصليب، ورفعوه بهدوء، وأمالوه حتى وسدوه الأرض بمنتهى الهدوء والحرص والحب، وليس كالجلادين عديمي الرحمة الذي رفعوه وهم لا يبالون بما تحدثه الاهتزازات لجسد حي مثبت بثلاثة مسامير من آلام تفوق الوصف، ونزعوا المسامير، ولم تتمالك الأم نفسها فأسرعت باحتضان وحيدها، والنسوة يحطن به، والمجدلية لا تكف عن تقبيل قدميه... إنها لقطة للتاريخ.
وحمل الرجال الجسد إلى القبر الذي حُفر في الصخر أفقيًا ولم يُحفر رأسيًا لأسفل، وملحق بالقبر غرفة خاصة لتجهيز الميت " لم يكن الأغنياء فقط وحدهم هم الذين يملكون قبورًا خاصة، بل كان متوسطو الحال يفعلون ذلك، وكانوا يُجهزون القبر قبل الحاجة إليه بوقت طويل، وكانوا يحفرون القبور في الصخور ويضعون فيها الجسد بعد تعطيره بالأطياب والحنوط وماء الورد وزيته، وكانوا يلفُّون الجسد بالأكفان في أقمشة قديمة تكون غالبًا قد سبق أن لُفت بها كتب الشريعة، وكانت القبور أحيانًا كهوفًا طبيعية" (41).
حملوا الجسد ووضعوه على المغسل، ولكن الوقت لا يسمح بجلب الماء وتغسيل الجسد، ولاسيما إن الشمس قد أوشكت على المغيب، ففردوا الأكفان ووضعوا الحنوط، وكان المرُّ يستخدم لدى قدماء المصريين كأحد مواد التحنيط، والعود له رائحة نفاذة تظل عالقة بالجسد لمدة طويلة... المر هو المادة الراتنجية المستخرجة من ساق شجرة "الكومّيفورامولمول" التي تنمو في شبه الجزيرة العربية، والعود مستخرج من شجرة تدعى شجرة الفردوس تنمو في المنطقة الاستوائية بأسيا... " كرسيك ياالله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك. كل ثيابك مرٌ وعودٌ وسليخة (قرفة)" (مز 45: 6 - 8)
وضعوا الجسد ولفوه بالأكفان بحسب الطقس اليهودي، فلم تُلَف الأكفان بالعرض كما كانت تُلَف المومياء المصرية، إنما لُفت الأكفان ممتدة من الرأس إلى القدمين، وثنيت من القدمين حتى الرأس، وقد تضمح الجسد المخضب بالدماء بمزيج المر والعود.
وحملوه إلى القبر، ووضعوا منديلًا على الرأس والوجه، وهكذا قُبِر يسوع في قبرٍ جديدٍ لم يوضع فيه أحد من قبل، والقبر في بستان وليس في المنطقة قبور أخرى، حتى متى قام لا ينسبون قيامته إلى شخص آخر.
وتعاون الرجال في دحرجة الحجر الضخم على فم القبر، بينما وقفت المريمات وبعض النسوة اللاتي تبعنه من الجليل تجاه القبر ينظرن أين وضع، ولم يدر بخلد أحد قط أن يسوع الذي وسَّدوه القبر لن يمر عليه اليوم الثالث حتى يقوم بمجد عظيم يعلن نصرته على الموت والشيطان والخطية...
وأيضًا لم يدر بخلد أحد منهم أن الحجر الذي دحرجوه بصعوبة على فم القبر سيدحرجه ملاك القيامة بسهولة عن فم القبر، ليعلن قيامة مخلص العالم...
ولم يدري نيقوديموس أن الحنوط التي اشتراها ستظل آلاف السنين وحتى المجيء الثاني من خلال زيت الميرون المقدَّس " لأننا رائحة المسيح الذكيَّة لله" (2 كو 2: 15).
ولم يدرَ نيقوديموس أيضًا أن قماش الكفن الذي اشتراه سيصبح يومًا مثار إعجاب العالم كله، يوم أن يجتمع علماء القرن العشرين ليثبتوا أنه ليس بكفن المسيح، وإذ بمئات التجارب التي يجرونها تؤكد أنه هو هو الكفن المقدَّس...
ولم يدرَ يوسف الرامي أن قبره الذي تنازل عنه لمعلمه الصالح سيصير أشهر قبر في تاريخ البشرية، لأنه القبر الوحيد الذي لا يحتوي في جوفه عظام أموات، بل تفوح منه رائحة الحياة، وستظل أنوار القيامة تفج منه عامًا بعد عام حتى يتسلم العريس كنيسته العروس...
وطوبى لمن له نصيب في حفل عشاء الخروف، ولعلك تذكرني يا صديقي في صلواتك...
اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك... دير الأنبا بيشوي العامر
بوادي النطرون
السبت الكبير 2004م. - 1700 ش.
_____
(41) المؤرخ اليهودي الأصل أدرشايم - أورده جوش مكدويل في كتابه برهان يتطلب قرارًا ص 253
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/with-him/love.html
تقصير الرابط:
tak.la/qfm37nv