وهنا نطرح السؤال الذي طالما يتكرَّر:
س 20: ما دام السيد المسيح هو اللَّه فكيف يحزن ويكتئب ويصلّي بلجاجة حتى صار عرقه كقطرات دم، وهو يقدِّم طلباتٍ وتضرعات بصراخ شديد للقادر أن يُخلّصه من الموت، ويظهر له ملاك لكي يقويه؟
ج: 1ـ كما أن السيد المسيح هو إله كامل فهو أيضًا إنسان كامل له مشاعره الإنسانية وأحاسيسه البشرية، لقد حمل السيد المسيح الطبيعة البشرية لذلك فعل ما تقتضيه هذه الطبيعة... لماذا أكل وشرب ونام واستراح؟.. لأنه لبس جسد إنسان وهكذا نقول: لماذا صلَّى؟.. لأنه لبس جسد الإنسان، فالسيد المسيح له المجد صلّى كإنسان بروحه البشرية للَّه الآب، وهذا ما أعلنه مرارًا وتكرارًا، فالسيد المسيح كان يصلّي وهو ينال العماد، وقبل اختياره التلاميذ أمضى الليل كله في الصلاة، وعلى جبل التجلي كان يصلي، وكان يعتزل كثيرًا في القفار لكيما يصلّي، ولكن ولا مرة واحدة ذكر لنا الإنجيل فحوى هذه الصلوات... لا بد أنها مناجاة بين الابن والآب كما رفع السيد المسيح عينيه نحو السماء وقال "أيها الآب، قد أتَتِ السَّاعة. مَجِّد ابنك ليُمَجِّدَك ابنك أيضًا" (يو 17: 1)، إنه تبادل المجد بين الابن والآب، ومخاطبة باطنية بين أقنومي الابن والآب. كما يقول الإنسان جلست إلى نفسي أو قلت لنفسي.
حقًا إن السيد المسيح ليس لاهوتًا مجرّدًا، لكنه هو اللاهوت المتحد بالطبيعة البشرية، فهو طبيعة واحدة من طبيعتين متحدتين، واتحاد الطبيعتين لم يلغِ خواص إحدى الطبيعتين، وبهذا ظلت الطبيعة اللاهوتية بكل خصائصها، وكذلك الطبيعة البشرية، فالحزن والاكتئاب، والصلاة بلجاجة ودموع وصراخ، والجوع والعطش والألم والموت... إلخ، كل هذا من خصائص الطبيعة البشرية، ورغم أن هذه الطبيعة البشرية قد اتحدت اتحاد كامل طبيعي أقنومي مع الطبيعة الإلهيَّة، لكنها ظلّت محتفظة بكل خصائصها، فالناسوت لم يتحوّل إلى لاهوت ولا اللاهوت إلى ناسوت... الطبيعة البشرية لها ضعفاتها أما اللاهوت فمنزَّه عن كل ضعف، وأيضًا لم يتدخَّل اللاهوت لتخفيف الآلام عن الناسوت، ولذلك كل الآلام التي جاز فيها مُخلّصنا الصالح سواء نفسيَّة أو جسمانيَّة هي آلام حقيقة.
ويتساءل القديس أثناسيوس: "كيف يكون (المسيح) قوة الآب الطبيعية الحقيقية الذي يقول عند اقتراب وقت آلامه {الآن نفسي قد اضطربت. ماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة}" ثم يجيب قائلًا: "لقد اتخذ جسدًا وصار إنسانًا وتألم في هذا الجسد لأجلنا... وباعتبار ذلك يُقال عن خواص الجسد، مثل الجوع والعطش والألم والتعب وما شابه ذلك أنها خواصه إذ كانت فيه، ومن جهة أخرى فالأعمال اللائقة بالكلمة ذاته مثل إقامة الموتى وإعادة البصر للعميان وشفاء نازفة الدم، قد فعلها من خلال جسده، وبالجسد قام بأعمال اللاهوت لأن اللاهوت كان فيه، فالجسد كان جسده" (Disc: III. 26,37)(133).
ويقول أيضًا القديس أثناسيوس: "لقد كُتِب أنه {بكى}.. وأنه قـال {نفسي قد اضطربت} وقال على الصليب {إلهي إلهي لماذا تركتني} وطلب أن تعبر عنه (الكأس) فإذا كان المتكلّم مجرّد إنسان دعوه يبكي ويخاف الموت لكونه إنسان، ولكن إذا كان الكلمة في جسد... فممن يخاف مع كونه إله؟ أيخاف الموت وهو نفسه الحياة والمُنقذ من الموت؟ وكيف يخاف وهو نفسه يقول: {لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد}.. كان قادرًا على تجنب الموت... ولكنه تأثر هكذا بالجسد، وفي الناسوت، فهو لم يقل كل هـذا مـن قبـل التجسد بل عندما {صار الكلمة جسدًا} وأصبح إنسانًا، فقد كُتِب إذًا أنه قال هذا بالجسد، أي إنسانيًا" (Against Ar 3.54)(134).
وفعل "يدهش" و"يكتئب" في أصلها اليوناني يحملان معنى الانذهال إلى أقصى درجة، وقال القديس أمبروسيوس: "انذهل كإنسان، انذهلـت نفسـه (الإنسانية) وليس قوته أو لاهوته، انذهل لأنه اتخذ الضعف البشري. فقد اتخذ لذاته نفسًا، واتخذ أيضًا الشعور البشري (شعور النفس) لأن اللَّه لا يمكن أن يحزن أو يموت باعتبار كونه اللَّه" .(135) (The Cyr: Faith B: II VII, 56)
ويقول أبونا الحبيب القمص تادرس يعقوب: "إذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لا بد لنفسه أن تضطرب أمام سحابة الآلام التي تحيط به. ولعله رأى خلال هذه السحابة خطايا البشرية كلها قد ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مقدمًا نفسه ذبيحة عن خطايانا"(136).
وكان السيد المسيح يصلّي بأشد لجاجة حتى أن الشعيرات الدموية الدقيقة للغدد العرقية قد انفجرت، فامتزج العرق بالدم، وهي حالة نادرة الحدوث بسبب المعاناة النفسية الرهيبة التي جاز فيها رب المجد كإنسان، ويقول القس عبد المسيح بسيط: "قدَّم السيد المسيح هذه الصلاة للآب كإنسان يواجه آلامًا نفسية وجسمية وكفارية لا يقوى عليها إنسان مهما كان. كانت الخطية التي صنعها الإنسان غير محدودة لأنه عصى اللَّه غير المحدود، وبالتالي كانت عقوبة الخطية غير محدودة وآلامها غير محدودة، ولا يتحمّلها الإنسان المحدود وحده دون اللاهوت، ولكن اللاهوت لا يتألَّم ولا يتحمَّل عقوبة الإنسان، والمسيح جاء ليتحمَّل الآلام كإنسان وليس كإله، جاء ليتحملها بناسوته المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود. ولكن كإنسان صلَّى وكإنسان صارع {بصراخ شديد ودموع وطلباتٍ وتضرعات} ولكنه لم يطلب النجاة من الألم أو الموت بمعنى الهروب منها، كلا. ولم يطلب أن {تعبر عنه الكأس} وأن {تجتازه} بمعنى أن لا يذوق الألم والموت. حاشا"(137).
2ـ صلَّى السيد المسيح في البستان بدموع وجهاد وطلباتٍ وتضرعات لأنه كان يجب أن يحمل خطايا العالم كله وهو القدوس الذي بلا خطية وحده... تصوَّر يا صديقي أن يبدو القدوس الطاهر وكأنه قاتل زاني فاسق سكير خائن نمَّام كذاب متكبِّر أناني طمَّاع... إلخ... كم يكون حزنه؟! حقًا لقد تجمّعت وتشابكت كل خطايا البشرية منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، ووضعت عصارة كل الخطايا في كأس على الفادي أن يتجرَّعه حتى الثمالة، فيحمل في جسده عقاب كل الخطايا... فكم يكون حزنه؟!!.. أضف إلى هذا الصليب بكل أهواله من جهة الآلام الجسدية وجميعها مكشوفة أمامه ولا بد أن يجوز فيها ولن يسمح للاهوته بتخفيف أي نوع من هذه الآلام... آلام حقيقية رهيبة لا بد أن يجوز فيها... فكم يكون حزنه؟.. قال وليم باركلي: "لقد حزن المسيح واكتئب وصلى وهو يخوض معركة الألم أمام شبح الصليب الرهيب. لكي يلتقي الإنسان بالموت، فهذا أمر ليس مقبولًا على الإطلاق، وأن يموت في عنفوان شبابه أمر بغيض، وأن يموت على الصليب أمر قاسي... لقد كان الصليب يعني أحمال البشرية وذنوبها وعارها منذ بدء الخليقة وإلى نهاية الأجيال. وكم قال المرنم بروح النبوّة {العار كسر قلبي فمرضت} لقد كان الصليب أكثر من ميتة قاسية مرَّة، لقد كان يعني العار والخزي واحتجاب وجه اللَّه الآب وحسبانه عار على كل الشعوب ومحتقر الأمم... إن الشجاعة الحقيقية لا تستلزم عدم الخوف، بل تقتضي أن نسير في طريق التضحية والموت حتى النهاية حتى ولو ساورنا الألم والخوف. وهنا تكمن شجاعة يسوع المسيح" (شرح بشارة يوحنا جـ 2 ص 255)(138).
ويقول القمص تادرس يعقوب: "إذ دخل المسيح في دائرة الصليب في طاعة كاملة للآب صرخ مقدّمًا طلبات وتضرُّعات، قائلًا: {نفسي حزينة جدًا حتى الموت}.. {لتكن لا إرادتي بل إرادتك}.. كان لا بد أن يصرخ ويئن لأنه صار إنسانًا حقًا وحمل آلامًا حقيقية!"(139).
في التجربة على الجبل قدَّم الشيطان للسيد المسيح كل الإغراءات التي رفضها فاندحر الشيطان أمامه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وفي البستان ضغط الشيطان على السيد المسيح برعبة الموت، ولم يشأ الرب يسوع أن يطرده من أمامه بقوة لاهوته، ولكنه وقف كإنسان كامل يسكب نفسه في صلوات عميقة أمام الآب، فغلب الشرير وانتصر عليه ودحره.
3ـ هذه الصلوات تؤكد حقيقة التجسد، فإذ لبس جسدًا حقيقيًا وليس جسدًا خياليًا كما ادعى ذلك فالنتينس وماني وأوطاخي ظهرت مشاعره الإنسانية في هذا الموقف الرهيب.
4ـ السيد المسيح هو مثلنا الأعلى في كل شيء، وهو المعلم الصالح الذي لم يشأ أن يعلّمنا بالكلام فقط، بل بالكلام والسلوك، ولذلك صلَّى وقت التجربة، وطلب من التلاميذ أن يصلّوا أيضًا "اسهَرُوا وصَلّوا لئلا تدخُلوا في تجربة. أمَّا الروح فنشِيطٌ وأما الجَسَد فضَعيف" (مت 26: 41).. إنه يقدم نفسه في صلوات عميقة بلجاجة وقت الضيق لكيما يعلّمنا أن نقدّم مشيئة اللَّه على مشيئتنا البشرية "ليس كما أُريد أنا بل كما تُريدُ أنت. يا أبتاهُ، إن لم يُمكِن أن تعبُر عني هذه الكأس ألاَّ أشرَبها، فلتكُن مشيئَتُك" (مت 26: 39، 42) ويقول القديس كيرلس الكبير: "وكان يصلّي عندما كان الذين يريدون أن يمسكوه على الأبواب، لا يفهم أحد أنه يقدّم هنا توسلات كمن هو في حاجة إلى قوة أو عون من آخَر، إذ هو نفسه قوة اللَّه الآب القدير وسلطانه. إنما صنع ذلك ليُعلّمنا لكي ينتزع عنا التراخي عند حلول التجربة وعندما يضغط الاضطهاد علينا، وعندما تُلقى شباك الغدر ضدنا، وتكون شبكة الموت مُعدَّة لنا، فإن وسيلة خلاصنا هي السهر وإحناء الرُّكب وتقديم التوسلات وسؤال العون من فوق حتى لا نضعف ويصيبنا هلاكًا مرعبًا"(140).
5ـ ليس معنى صلاة السيد المسيح "لتكُن لا إرَادتي بل إرَادَتُك" (لو 22: 42) إن إرادة الابن تخالف إرادة الآب. كلاَّ لأن الآب والابن والروح القدس لهم الجوهر الإلهي الواحد، وبالتالي فلهم إرادة واحدة ومشيئة واحدة، أمّا كلام السيد المسيح هنا فهو يقصد به المشيئة الإنسانية التي لا تشأ هذه الكأس المرَّة وتلك الآلام النفسيَّة والجسديَّة الرهيبة وهو البار القدوس، ويجب أن نلاحظ أن المشيئة شيء والتنفيذ والقرار شيء آخَر، فمثلًا عندما أقول أنني أشاء أن أشرب كأس ماء لأنني عطشان جدًا، فهذا مجرَّد مشيئة وليس معنى هذا أنني قد شربت الماء، وذلك لأنني قررت رغم عطشي أنني لن أشرب الماء لأني صائم، وهكذا شاء السيد المسيح أن تعبر هذه الكأس عنه: "جَعَل الذي لم يَعرف خطيَّةً، خَطيّة لأجلنا" (2كو 5: 21)، "مَلعون كلَّ من عُلِّق على خَشَبة" (غل 3: 13) ومع كل هذا فإنه قرَّر أن يكمل مشوار الصليب، ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانيَّة التي لا تشأ أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانيَّة، لأنه كما أن الجوع ليس زللًا ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد"(141).
ويقول نيافة الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ: "لتكن لا رغبات الجسد في أن يرتاح أو يتحرَّر من الآلام الجسديَّة أو النفسية. تعرّض السيد المسيح لآلام نفسية مريرة بجوار الآلام الجسدية. تمثلت هذه الآلام النفسيَّة في الآلام التي عاناها السيد المسيح نتيجة لخيانة يهوذا (فهو إحساس مر أن يهوذا تلميذه يُقبّله ويُسلّمه لأعدائه بهذه الصورة) وأيضًا في تعبيرات الناس الذين أتى لأجل خلاصهم ويقدّم لهم حُبّه فتكون هذه هي مكافأته. إحساس مر لا يُعبَّر عنه. كما أن كونه موضوعًا في وضع المعلون والمصاب والمضروب من اللَّه ويحمل كل خطايا البشريَّة لكي يُقدّم ثمن عصيان الإنسان وتمرُّده. كأس مملوءة بالمُرّ. كان من الطبيعي أن النفس والجسد يشعران أنهما أمام اجتياز كأس مريرة جدًا لا بد أن يشربها إلى نهايتها فيقول له: "لتكُن لا إرادَتي" (لو 22: 42) وليس المقصود بالإرادة هنا الإرادة المسئولة عن اتخاذ القرار، لأن القرار هو قرار الخلاص الذي أتى المسيح لأجله، إنما المقصود بها هو الاحتياج الطبيعي الناشئ من حمله لطبيعة بشرية حقيقية تشعر بالألم والحزن وبالمعاناة. وهذه الطبيعة وهي في معاناتها الرهيبة تريد أن تقول للآب لن يكون قراري مبنيًا على ما في هذه الخصائص البشرية من تعب وألم وحزن، لكنه مبني على ما في رغبتي الكاملة في إرضاء الآب وفي تخليص الذين أحبَهم للمنتهى فهو الذي قيل عنه: "أحب خاصَّتَه الذين في العالم، أحبَّهم إلى المنتَهى" (يو 13: 1)(142).
6ـ عندما أظهر السيد المسيح في البستان الضعف البشري، فهو بهذا أمعن في إخفاء لاهوته عن الشيطان، حتى يستمر الشيطان في تعديه على شخص السيد المسيح وبالتالي يستوجب الدينونة العادلة.
7ـ عندما صلّـى السيد المسيح: "يا أبتاهُ، إن أمكَـن فلتَعْبُر عني هذه الكأس" (مت 26: 39)، لم يقصد على الإطلاق أن يستعفي من الصليب... لقد أحبَّ الصليب واعتبره مجده لأن بواسطته يسحق الشيطان ويُخلّص الإنسان، وعندما أراد بطرس أن ينهاه عن الصليب قال له: "اذهب عَني يا شيطان! أنت مَعْثرة لي، لأنك لا تهتَمُّ بما للَّه لكن بما للناس" (مت 16: 23) وقال: "أنا هو الرّاعي الصَّالح، والرَّاعي الصَّالح يَبْذِل نفسه عن الخراف" (يو 10: 11) وشبَّه نفسه بحبة الحنطة قائلًا: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إن لم تَقَع حَبَّة الحِنْطَةِ في الأرض وتَمُت فهي تبْقى وحْدَهَا. ولكن إن ماتت تأتي بثمَر كثير" (يو 12: 24) وتنبأ مرارًا وتكرارًا عن موته كما رأينا من قبل.
وصلاة السيد المسيح هذه تُظهِر أولًا مدى ثقل الخطايا، وتُظهِر ثانيًا حقيقة الآلام النفسيَّة والجسديَّة التي جاز فيها مُخلّصنا الصالح، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: "وعن قولـه {إن أمْكَنَ فلتَعْبُر عني الكأس} (مت 26: 39) اعلموا كيف أنه رغم كلامه هكذا، فقد انتهر بطرس قائلًا: {لأنك لا تهتَمُّ بما للَّه ولكن بما للناس} (مر 8: 33) لأنه كان يريد هذه الكأس التي طلب أن تعبر عنه، إذ لأجل هذا قد جاء ولكن الإرادة كانت له. أما الخوف فهو خاص بالجسد، لذلك فقد نَطَق بهذا الكلام أيضًا كإنسان، ومع ذلك فالأمران معًا قالهما نفس الشخص... فكلمته وفعله يحدثان معًا، لأن الأقـوال {أعبر عنـي الكأس} و{لماذا تركتني؟} هي إنسانيَّة، وهو قد جعل الشمس تحتجب والموتى يقومون إلهيًّا. وأيضًا إنسانيًّا قال: {الآن نفسي قد اضْطَرَبت} (يو 12: 27) وإلهيًّا قال: {لي سلطان أن أضعُها (نفسي) ولي سُلطانٌ أن آخُذَها أيضًا} (يو 10: 18) فكونه يضطرب فهذا أمر خاص بالجسد، وأن يكون له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها أيضًا حينما يريد، فهذا أمر ليس خاصًا بطبيعة البشر، بل بقوة الكلمة. لأن الإنسان لا يموت بسلطانه الخاص بل باضطرار الطبيعة ورغم إرادته. أما الرب فلأنه هو نفسه غير مائت، ولكن لأنه أخذ جسدًا مائتًا، فله السلطان كإله أن يفصل النفس عن الجسد، وأن يعيدها أيضًا، حينما يريد"(143).
والسيد المسيح الذي صلَّى لكيما تعبر عنه هذه الكأس كان قويًا جدًا في تسليمه لذاته "فخَرَج يسوع وهو عَالِم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم مَن تطلبون؟ أجابوه يسوع الناصِريّ. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مُسلِّمه أيضًا واقفًا معهم. فلمَّا قال لهم إني أنا هو، رَجَعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" (يو 18: 4 ـ 6) ألم تكن هذه فرصة مواتية للهرب؟ بلا شك ولكن السيد المسيح لم يهرب، بل ظل منتظرًا حتى نهضوا من سقطتهم وسألهم ثانية: "مَن تطلبون. فقالوا يسوع الناصريّ. أجاب يسوع قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون" (يو 18: 7، 8).. فكم كان قويًّا في تسليم ذاته لهم؟!.. وكم كان قويًّا عندما اشترط عليهم أن يتركوا تلاميذه يمضون لكيما يذهب معهم؟!.. وكم كان قويًّا وعطوفًا عندما شفى أُذن ملخس؟!
أما تساؤل البعض: كيف يظهر ملاك ليقويه وهو الإله؟
فإن هذا الأمر قد حَدَث من أجلنا نحن، لكيما يضع أمامنا مثالًا عمليًا أنه وقت انسكابنا في الصلوات أثناء التجربة لا بد أن تحضر الملائكة لتقوينا. أما ملاك البستان الذي ظهر لمخلصنا الصالح فكان يقويه بمعنى أن يسبّحه ويمجده في آلامه المقدَّسة قائلًا له: "لك القوة والمجد والبركة والعزّة إلى الأبد آمين. يا عمانوئيل إلهنا وملكنا" وهذه هي تسبحتنا طوال أسبوع الآلام عوضًا عن المزامير.
_____
(133) أورده القس عبد المسيح بسيط في كتابه إن كان إلهًا فكيف تألم ومات؟ ص 40.
(134) المرجع السابق ص 54.
(135) المرجع السابق ص 43.
(136) تفسير إنجيل يوحنا جـ 2 ص 844.
(137) إذا كان المسيح إلهًا فكيف تألم ومات ص 45.
(138) أورده د. فريز صموئيل في كتابه موت المسيح بين الحقيقة والافتراء ص 48، 49.
(139) تفسير رسالة العبرانيين ص 56.
(140) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير إنجيل متى ص 538.
(141) القمص تادرس يعقوب ـ تفسير إنجيل يوحنا جـ 2 ص 845.
(142) لماذا الصليب بالذات؟ ص 15، 16.
(143) المقالة الثالثة ضد الأريوسيين ص 101، 102.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/cross/jesus-sadness.html
تقصير الرابط:
tak.la/ps3mf5p