2- خروج عقيدة خلاص غير المؤمنين إلى حيز الوجود:
بالاستعانة بمقال الأب لويس بواسّيه اليسوعي عن الأديان في نظر المجمع الفاتيكاني الثاني - نصوص وقراءات جديدة نرى أن برلمان الأديان في شيكاغو سنة 1893م سبق المجمع الفاتيكاني في فكرة خلاص غير المؤمنين، أم القرارات التي صدرت من المجمع الفاتيكاني فيمكن تتبع جذورها وصدورها وما ترتب عليها في نقاط بسيطة كالآتي:
أ- كان المطران رونكالي (البابا يوحنا 23 فيما بعد) نائبًا رسوليًا في إسطانبول أثناء الحرب العالمية الثانية، ولاحظ الاضطهاد المرير الذي عانى منه اليهود في العالم ولا سيما ألمانيا، وموقف المسيحيين السلبي من هذا، وعندما تولى هذا الكردينال البابوية وعقد المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1962م كلف الكردينال "بيا"Bea بوضع خطوط عريضة لإصدار قرار ينصف اليهود ويعيد لهم كرامتهم الجريحة.
ب- وضع الكردينال "بيا" الخطوط العريضة، وصيغت وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح وقدمت للمجمع الفاتيكاني سنة 1962 م ولكن بسبب ردود الفعل الشديدة في البلدان العربية سُحبت، وفي نوفمبر سنة 1963م وفي الجلسة الثانية للمجمع نُوقِش الفصل الخاص بالحركة المسكونية وعادت الوثيقة للظهور، ورفض الكردينال بيا أي تفسير سياسي لتبرئة اليهود وقال أن هذا النص يُؤخذ على مستوى تاريخ الخلاص، ورغم أن أساقفة الشرق الكاثوليك وكذلك أساقفة آسيا وأفريقيا اعترضوا على هذا وقالوا أن هناك أديان كبيرة أخرى في العالم غير المسيحية واليهودية مثل الإسلام إلاَّ أن الوثيقة ظهرت إلى حيز الوجود.
ح- عندما تولى البابا بولس السادس كرسي البابوية الرومانية عوضًا من سلطة يوحنا الثالث والعشرين أصدر "الرسالة العامة" Eccelesiam Suam التي أكد فيها أنه "من واجبنا أن نُظهِر يقينًا بأن الدين الصحيح هو واحد، وبأنه الدين المسيحي، وأن نعلّل النفس بأن نرى جميع الذين يبحثون عن الله ويعبدونه يعترفون بأنه الدين الصحيح " وبذلك ظهر رفض البابا بولس السادس اعتبار أي ديانة أخرى غير المسيحية. تصلح أن تكون واسطة للخلاص، ولكن عندما زار هذا البابا الأراضي المقدسة في يناير سنة 1964م، وتبلورت أفكار وقرارات المجمع الفاتيكاني في عقيدة خلاص غير المؤمنين وافق عليها البابا، وأنشأ في مايو سنة 1964م أمانة سر الأديان غير المسيحية بهدف الحوار مع الديانات الأخرى، وصدرت الرسالة العامة في أغسطس سنة 1964م تؤكد على ضرورة الحوار بين الأديان، وبذلك تطورت الفكرة من النظرة إلى الديانة اليهودية إلى النظرة لكافة الأديان، ولا سيما عقب الرحلة التي قام بها البابا بولس السادس في ديسمبر سنة 1964 إلى بومباي وانفتح فيها على أديان آسيا.
د- في أكتوبر سنة 1965م أقرَّ المجمع الفاتيكاني في جلسته الرابعة الفصل الخاص بعلاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحية بموافقة 1763 صوتًا واعتراض 250 صوتًا، ويعترف الأب لويس بأن هذا القرار جاء نتيجة مسيرة مضطربة (هل من خلاص لغير المؤمنين؟ - مؤتمر حول "لاهوت الأديان" ص 318، 319) أما بنية النص فجاءت كالآتي: في المقدمة (ف2 من الدستور العقائدي للكنيسة نور الأمم وشعب الله، يؤكد على " أن جميع الشعوب يؤلفون جماعة واحدة. فإن الناس ينتظرون من مختلف الأديان الجواب عن ألغاز الوضع البشرى المستترة" والفقرة الثانية تشير إلى الاعتراف بألوهة في تعبير طبيعي أو مادي، والأديان التي تندرج في حضارات قديمة كالهندوسية والبوذية. أما القسم الثالث فيشير للإسلام وبأن أتباعه يؤمنون بالإله الواحد ويسعون بكل قواهم للخضوع لقراراته، والقسم الرابع يشير لارتباط الشعب اليهودي بشعب الله ورفض اتهامهم إجمالاَ بالمسئولية عن صلب المسيح، وفي الفصل (16) يتحدث الدستور العقائدي عن الذين لم تبلغهم رسالة الإنجيل بل "هم مُوجَّهون نحو الله" فيرى أن التطلع إلى الخير يعتبر استعداد إنجيلي لهم.
وهكذا بعد أن كان المقصود هو النظر إلى اليهود واليهودية انفتح المجمع على الإسلام والهندوسية والبوذية.
ه- أنفتح المجمع الفاتيكاني الثاني الانفتاح على الديانات الأخرى ففي سنة 1974م انعقد سينودس حول موضوع "إعلان البشري" أشار إلى الانفتاح على سائر الأديان وتوجه الإعلان بالبشري إلى أصحاب الديانات الأخرى، ووصف هذه الديانات بأنها " تحمل في طياتها صدى ألوف السنين في التماس وجه الله... والتي زَرَعَ فيها عدد لا يحصى من بذور الكلمة " (588)، وكان الأسقف المسئول عن التقرير اللاهوتي لهذا المجمع هو يوحنا بولس قبل باباويته، والذي واصل بعد باباويته المسيرة تجاه الانفتاح على الأديان الأخرى، فقام بعدَّة رحلات وصفها أنها حجَّأً إلى شعب الله الذي يمثل جميع أبناء البشرية بغض النظر عن معتقداتهم وأديانهم، فقال عن هذه الرحلات أنها "حجًّا أصيلًا إلى المعبد الحي معبد شعب الله".
(589) (JEAN- PAUL II, Discaurs au Sacre Callege et La Curie ,28 juin 1980, DC,77,1980,P.670)
وبذلك لم يكتف بتوجيه خطاب للأديان المختلفة بل تطوَّر الهدف إلى محاولة الحوار مع هذه الأديان، وفي 7 مارس سنة 1975م أصدر البابا يوحنا بولس الثاني رسالته العامة "فادى الإنسان" وأشار إلى الأديان المختلفة قائلًا "أن أعمق طموحات العقل البشرى يتجه بالرغم من اختلاف الطرق اتجاهًا واحدًا ويتجسد في البحث عن الله وفي الوقت نفسه وبواسطة النزوع إلى الله في البحث عن بعد البشرية التام، أي عن معنى الحياة البشرية التام، " ودعى الشخص المُرسَل للكرازة إلى "احترام كل ما عمله الروح القدس، الذي يهب حيث يشاء في كل إنسان".
(590) (JEAN- PAULII, Encyelique Redemptor Raminis,13,DC 79,1979,P.307)
و- ومازالت روما في مسيرتها تجاه قضية خلاص غير المؤمنين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ففي سنة 1984م أصدرت أمانة السر لغير المسيحيين وثيقتها " أفكار وتوجيهات " التي تلقى الضوء على الحوار والإرساليات وجاء فيها " كل إرسالية لا تكون مُشبعة بروح الحوار تكون مخالفة لما تقتضيه الطبيعة البشرية وتعاليم الإنجيل " (591)، وفي سنة 1985م وبمناسبة مرور عشرين عامًا على ختام المجمع الفاتيكاني الثاني عُقِد سينودس غير عادى دعى إلى ضرورة مراعاة أديان آسيا مثل البوذية والهندوسية، وفي رسالة رسولية للبابا يوحنا بولس إلى جميع شبان العالم بمناسبة إعلان الأمم المتحدة إعلان سنة 1985م سنة الشبيبة قال البابا " وأنَّا نجد بين أتباع الأديان غير المسيحية على الأخص البوذية والهندوسية والإسلام، منذ آلاف السنين جماعة من "الروحيين" الذين غالبًا ما يتخلون عن كل شيء منذ عهد الشباب، ليعتنقوا حالة الفقر والعفة، بحثًا عن المطلق الكائن وراء المظهر المحسوس، وهم يسعون إلى إدراك حالة من الحرية الكاملة، لائذين بالله بدافع عن المحبة والشفقة عاملين من صميم القلب على الانقياد لأوامره الخفيَّة... وهم يسعون إلى الهدف بكل قواهم، عن طريق الممارسة والتدريب تنقية لنفوسهم بغية وقف حياتهم أحيانًا على الألوهية.." (592)، وفي 19 أغسطس من نفس عام 1985م تحدث البابا يوحنا بولس الثاني إلى 80 ألف شاب مسلم اجتمعوا في ملعب الدار البيضاء بالمغرب بناء على رغبة الملك حسن الثاني، فدعاهم البابا إلى شهادة مشتركة مع المسيحيين وقال "علينا أن نشهد لبحثنا المتواضع عن مشيئته، فهو الذي يجب أن يُلهِم التزامنا من أجل عالم أكثر عدالة وأشد اتحادًا" (Islamo -Christana 11,1985,P.195) (593)
وعبرَّت الصلاة الختامية عن احترام الإله الواحد وعبادته في ألفاظ تستطيع الصلاة الإسلامية أن تشارك فيها" (594)
وفي 27 أكتوبر سنة 1986م وبمناسبة السنة العالمية للسلام التي أعلنتها الأمم المتحدة التقى البابا يوحنا بولس الثاني بابا روما مع 150 شخصًا يمثلون اثني عشر تيارًا دينيًا للصلاة من أجل السلام في أسيزي، البلدة التي خرج منها فرنسيس الأسيزي، وصلى كل واحد بحسب عقيدته الخاصة، وخرج البابا يوحنا بولس واعتبر أن هذه الصلاة نابعة من الروح القدس على فم جميع المؤمنين في جميع الأديان فقال "كل صلاة أصيلة تأتى من الروح القدس الحاضر سرَّيا في قلب كل إنسان " (595) ويقول الأب عزيز الحلاق عن هذا اللقاء " أن لقاء أسيزي كان لقاءًا صامتًا، ولكن هذا الحوار الصامت كان ابلغ من كل الخطب لأنه جميع المؤمنين معًا في حضرة الله. مما لاشك فيه أن الحوار بين الأديان له عدة مستويات، ولكن يجب أن يقود في نهاية المطاف إلى طرح التساؤل عن المصير الإنساني الذي يشغل جوهر رسالة كل دين، والذي يعبر عنه الفكر اللاهوتي المسيحي بقضية الخلاص، أي هل هناك خلاص خارج حدود المسيحية، وهل تقود الأديان الأخرى أتباعها نحو الخلاص؟ " (596)
وفي سنة 1988م غيَّر الفاتيكان اسم "أمانة السر لغير المسيحيين" إلى "المجلس البابوي للحوار بين الأديان"، وفي 7 ديسمبر سنة 1990م وبعد مرور ربع قرن على المجمع الفاتيكاني دعى البابا من خلال رسالته العامة " رسالة الفادي " الكنيسة كلها إلى تجديد التزامها الإرسالي، وانفتاحها على جميع الثقافات والأديان.
_____
(588) هل من خلاص لغير المؤمنين؟ - مؤتمر حول " لاهوت الأديان " ص 322.
(589) المرجع السابق ص323.
(590) المرجع السابق ص324.
(591) المرجع السابق ص326.
(592) رسالة رسولية إلى جميع شبان العالم ص28، 29.
(593) هل من خلاص لغير المسيحيين؟ مؤتمر حول لاهوت الأديان ص323.
(594) المرجع السابق ص323.
(595) المرجع السابق ص323.
(596) المرجع السابق ص340.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/catholic/non-believers-salvation-start.html
تقصير الرابط:
tak.la/xx3g8p9