س95 : هل تأثر بولس الرسول بالأفكار والأساطير الهيلينية والفلسفة الرواقية؟
يرى "شارل جينيبير" أن بولس الرسول بحكم نشأته في المدينة الأممية طرسوس قد تأثر بالأفكار والأساطير والعبادات الوثنية وطقوسها، كما تأثر بالفلسفة الرواقية، وطبع كل هذا على المسيحية التي يكرز بها حتى قال: " لذلك كله نستطيع وصف بولس بأنه كان منشئ المستقبل" (راجع المسيحية نشأتها وتطورها ص 101 - 108). كما قال "جينيبير" عن بولس الرسول: " فإن تحوُّل صاحبنا، وهو اليهودي الفريسي الأصيل إلى المسيحية، هذا التحوُّل سوف يبدو لنا حينئذ أقرب إلى المنطق... أنه رُبّي حقيقة، لا بين أحضان اليهودية الفلسطينية، ولكن في ربوع المهجر بما امتاز به – سواء في طرسوس أو في أنطاكية – من مرونة ونزعات متفاوتة القوة نحو التأليف بين الأديان. وإذا تبينا أنه، منذ طفولته الأولى، قد أحاط به من كل جانب إيمان الناس بإله يموت ويُبعث، فانغمس في هذا الإيمان حتى اشرب به دون أن يشعر بذلك"(735) ومن وجهة نظر جينيبير أن بولس الرسول قبَل المسيحية لتقارب عقائدها من العقائد الوثنية التي تأثر بها بولس منذ نشأته في طرسوس وأيضًا إقامته وكرازته في أنطاكية (راجع المسيحية نشأتها وتطورها ص 123 - 128).
وأيضًا يرى "شارل جينيبير" أن بولس الرسول أخذ فكرة موت المسيح وقيامته من الآلهة الوثنية، فقال: "والدراسة المفصَّلة لرسائل بولس الكبرى تكشف لنا النقاب عن مزيج من الأفكار، يبدو لأول وهلة، غريبة حقًا: مزيج من دعوى الأوساط الوثنية والذكريات الإنجيلية والأساطير الدينية الشرقية... وكان أهمها، أتيس في بلاد الفريجيين، وأدونيس في الشام، وملكارت في فينيقيا، ثم تموز ومردوك في ربوع ما بين النهرين، وأوزوريس بمصر، وعلينا أيضًا إذا أردنا الإنصاف أن نذكر الإله الفارسي ميثرا، الذي بدأت شهرته في تلك العصور بين رحاب الإمبراطورية الرومانية... وأن الخاصة التي تثير الانتباه أكبر من كل الخصائص الأخرى لآلهة المنطقة، عند دراسة تاريخهم الأسطوري، فهيَ تلك التي بمقتضاها يموتون في موسم معين من السنة، ثم يُبعثون بعد ذلك في موسم آخر، فيشعلون في نفوس المؤمنين بهم مشاعر الأسى العميق، ثم يستثيرون لديهم مظاهر الفرح التي تكاد تصل إلى حد الجنون.."(736).
وقال "ألفريد لوازي" Alfred Loisy أن مسيحية بولس الرسول أخذت من العبادات الأسطورية الوثنية، والتي تتحدث عن موت الآلهة وبعثهم مــن جديــد مثل "داغروس" Zagros الذي أكلته التيتان Titans، و "كوره" Core' المنتقل إلى وادي الموت، و "ميثرا" Mithra قاتــل الثـور، و "أدونيس" Adonis (تموز) القتيل، و "ديونسيوس" الذبيح (راجع الأب بولس إلياس اليسوعي - يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 132).
ج : 1ـــ نشأ شاول الطرسوسي الفريسي في بيئة يهودية منغلقة، لا يقبل الأمم الوثنيين ولا يطيقهم، لا يختلط بهم ولا يأكل معهم ولا يدخل بيوتهم، ومتى عاد إلى بيته من السوق يغسل يديه جيدًا فربما يكون قد صافح أمميًّا، فهو يعرف جيدًا مدى الانحطاط الخُلقي الذي صاحب تلك الديانات، حتى أنهم مزجوا طقوس عباداتهم بالزنا ودعوه بالعهر المقدَّس، وخصَّصوا مئات الكاهنات لممارسة الرذيلة في المعابد، وطالما حذر بولس الرسول أولاده في كورنثوس من هـذه العبادات المرذولة: " فَلاَ تَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ كَمَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ" (1كو 10 : 7).. "لِذلِكَ يَا أَحِبَّائِي اهْرُبُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ" (1كو 10 : 14).. "لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ... لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ. وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ. وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ. وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ" (2كو 6 : 14 - 17).. إلخ...
فجميع الديانات الوثنية ديانات فاسدة، ومعظمها يركز على الشهوات الجسدية، تلك الأمور التي ترفَّعت عنها المسيحية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وبولس الرسول العفيف لم يتأثر بتلك الديانات، بل تكلم بالروح القدس في يقين الإيمان بالمسيح يسوع القائم من الأموات، وأوضح أن عالم بلا مسيح هو عالم هالك يقع تحت الغضب الإلهي المُعلَن من السماء على جميع فجور الناس، وعلى هذه العبادات الوثنية، فخلْف كل وثن شيطان، فكيف يقول البعض أن بولس سُرَّ بمثل هذه الديانات الوثنية واقتنع بها وأدخل مبادئها وطقوسها للمسيحية..؟! فإن ألف باء في اليهودية هو تحريم العبادات الوثنية: " لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ" (خر 20 : 3 - 5) وحذر بولس الرسول من عبادة الأوثان قائلًا : " فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ" (كو 3 : 5)، وقال يوحنا الحبيب: "أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ"(1يو 5 : 21).
2ــ هناك فرق شاسع بين العبادات الوثنية بآلهتها الأسطورية وبين المسيحية، وهو العمق التاريخي، فالآلهة الوثنية جميعها مثل أتيس، وأدونيس (تموز)، وملكارت، ومردوك، وأوزيريس ، وديونسيوس، وميثرا... إلخ هم شخصيات خيالية أسطورية لا وجود لأحد منها في أرض الواقع، أما المسيحية فقد بُنيت على شخص يسوع المسيح ابن الله الحي الأزلي الذي تجسد في لحظة من الزمن فشق الزمن إلى ما قبله وما بعده، وعاش في ربوع فلسطين فكان يجول يصنع خيرًا ويُعلّم ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، وصنع معجزات لا حصر لها فكان يتبعه آلاف وربوات، وحكم عليـه بيلاطس البنطي بالموت صلبًا، وقام وظهر للمئات، وأرسل تلاميذه للخليقة كلها يكرزون بالإنجيل أي البشارة المفرحة بالخلاص من الموت، واقتراب ملكوت السموات، فانتشروا فـي كافة ربوع الأرض، والسيد المسيح هو محور الكتاب المقدَّس بالكامل بعهديه، فالأنبياء الذين جاءوا قبله تنبأوا عنه، وتلاميذه ورسله كتبوا عنه، ولم يغفله المؤرخون المعاصرون له، وأيضًا الذين جاءوا بعده، وهو حي قائم في كنيسته، سور نور حولها ومجدًا في داخلها... أما الأعمى البصيرة لا يرى، أو قل لا يريد أن يرى كل هذا، فيدَّعي أن المسيحية وليدة فكر بولس الذي تأثر بالعبادات الوثنية!!
3ــ في الأساطير نجد صراع الآلهة، والآلهة تُقتل أو تُذبح نتيجة هذا الصراع، وهيَ بعيدة تمامًا عن فكرة الفداء في المسيحية، حيث يموت ابن الله المتجسد بالناسوت ليفدينا من حكم الموت وهو القدوس الحي الذي لا يموت بلاهوته، ويقول "الأب بولس إلياس اليسوعي": " وما هيَ تلك الآلهة التي ماتت وقامت من الأموات حسب معتقدات الميثولوجيا وخرافاتها؟ أوزيريس، وديونيسيوس، وأتيس. فهؤلاء ليسوا بأشخاص تاريخيين إنما ابتدعتهم المخيلة ووُضِعوا في مستودع الميثولوجيا. وكثيرًا ما تكون أخبارهم وقصصهم مدعاة للفساد بدلًا من أن تكون مدعاة لتقويم الأخلاق. وطقوس العبادة التي تكونت في تلك الديانات جميعها مستوحاة من الطبيعة التي تتعرى من خضرتها في فصل الخريف وتموت في فصل الشتاء ثم تُبعَث وتتجدد في فصل الربيع، وهيَ مرتكزة على خصب الأرض... فأزويريس يمثل أرض مصر الخصبة ومياه النيل الخيّرة، حُكم عليه بالموت في ساعة لم تكن بالحسبان، وقُطّع إربًا إربًا بأمر أخيه تيفون Typhon ريح الخمَسين. فقامت الإلهة إيزيس وجمعت أعضاءه المقطَّعة وحنَّطتها فأتاحت له بذلك أن يملك على مصر دون أن يعتريه الفساد في عالم الأموات. أما "داغروس" الإله الصغير، ابن زفس، فقُتِل هو أيضًا وقُطّع إربًا إربًا وأكلته التيتان رغمًا عن استحالاته (أي تحوله من شكل إلى شكل آخر)، لكن قلبه بقى سليمًا فابتلعه أبوه زفس وولد إلهًا آخر يُدعى ديونيسيوس، وقد أعدَّه ليشاطره مجده وقد عُوقب التيتان على شر فعلتهم وأصبحوا رمادًا، ومن رمادهم وُلِد الجنس البشري.
وماذا نقول عن عبادة "سيبال" الإلهة الفريجية، أم الآلهة والبشر التي أُدخلت طقوس عبادتها إلى روما سنة 204م. وقد كانت الدولة الرومانية تحتفي بها رسميًا في مطلع الربيع. وأنها لعبادة دنسة وفاسدة. أجل، إلى جانب "سيبال" كان "أتيس" إله الخصب، الذي كان قد أحبها، ولكنه خان حبها يومًا وهجرها. فتكفيرًا عن خيانته لها وإعرابًا عن حبه لها، قطع أعضاءه التناسلية وقدمها لعشيقته الغضوب لكي يهدئ من حدة غضبها. وكان هذا الخصاء يُمارَس عند الذين يريدون أن ينتسبوا إلى هذه الديانة السرية.."(737).
4ـــ لو افترضنا جدلًا أن بولس الرسول كرز وبشر بديانة مسيحية مزيَّفة، بل أنها مقتبسة من الديانات الوثنية، فكيف عضدته السماء مرات ومرات؟!:
كان الرب يسوع يتحدث معه - كان الروح القدس يقوده في خدمته - كان الله يصنع معه معجزات - أُختطف للسماء الثالثة
أ - كان الرب يسوع يتحدث معه: " وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي الْهَيْكَلِ أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ. فَرَأَيْتُهُ قَائِلًا لِي أَسْرِعْ وَاخْرُجْ عَاجِلًا مِنْ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ شَهَادَتَكَ عَنِّي" (أع 22 : 17، 18).. " فَقَالَ الرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي اللَّيْلِ لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ. لأَنِّي أَنَا مَعَكَ وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ" (أع 18 : 9، 10).
ب - كان الروح القدس يقوده في خدمته: " وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ" (أع 16 : 6، 7).
جـ - كان الله يصنع معه معجزات: ففي أيقونية هو وبرنابا: " فَأَقَامَا زَمَانًا طَوِيلًا يُجَاهِرَانِ بِالرَّبِّ الَّذِي كَانَ يَشْهَدُ لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ وَيُعْطِي أَنْ تُجْرَى آيَاتٌ وَعَجَائِبُ عَلَى أَيْدِيهِمَا" (أع 14 : 3).. وأقام بولس العاجز المقعد من بطن أمه (أع 14 : 8 - 10)، وأقام أفتيخوس من الموت (أع 20 : 9 - 12)، " وَكَانَ اللهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ. حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى الْمَرْضَى فَتَزُولُ عَنْهُمُ الأَمْرَاضُ وَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ" (أع 19 : 11، 12)، ونجا بولس من سم الأفعى (أع 28 : 1 - 6).
د - أُختطف للسماء الثالثة: (2كو 12 : 1 - 4).. إلخ...
5ــ لو افترضنا جدلًا أن بولس الرسول تأثر بالعبادات الوثنية التي كانت منتشرة في طرسوس، فكيف اتفقت كتاباته مع كتابات السبعة الآخرين الذين شاركوا في كتابة أسفار العهد الجديد..؟! هل استطاع أن يؤثر على متى ويوحنا وبطرس وهم من التلاميذ الاثنى عشر الذين لازموا السيد المسيح له المجد أكثر من ثلاث سنوات ليل نهار..؟! مَن يصدق هذا..؟! ألم يعتبر بولس الرسول بطرس ويعقوب ويوحنا هم أعمدة الكنيسة وهم يمثلون المرجعية له، حتى بعد أن كرز لمدة أربعة عشر عامًا صعد إليهم في أورشليم قائلًا: " إِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا" (غل 2 : 2) ولكن الرسل أقروا إيمانه الصحيح المستقيم، وأعطوه مع برنابا يمين الشركة (غل 2 : 9).
_____
(735) تقديم الإمام عبد الحليم محمود - المسيحية نشأتها وتطورها ص 122، 123.
(736) تقديم الإمام عبد الحليم محمود - المسيحية "نشأتها وتطوُّرها" ص 91 - 93.
(737) يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 133، 134 .
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/95.html
تقصير الرابط:
tak.la/d9dd8nw