س96: هل استخدم بولس الرسول مفردات وعبارات ومصطلحات هيلنسينية لم ترد في العهد القديم؟
يقول "شارل جينيبير" أن بولس استخدم مفردات اللغة التي كانت شائعة في الديانات اليونانية الوثنية مثل كلماته: "بريسبيتروس" أي شيخ، و "أبيسكوبوس" أي مشرف، و "دياكونوس" أي خادم، وفيما بعد تطوَّرت معاني هذه الكلمات إلى قس أو أسقف أو شماس (راجع المسيحية ونشأتها وتطورها ص 172).
وقال بعض النُقَّاد أن بولس استخدم الكثير من العبارات التي استخدمتها الديانات الوثنية، مثل عبارة "تلبسون المسيح" فكان الوثنيون يخرجون من معابدهم لابسين وشاحًا سماويًا بهدف التأليه، فكانوا يرتدون لباس الألوهة، واستخدم بولس بعض المصطلحات مثل كلمة "الضمير" مع أنه لا وجود لها في العهد القديم، إنما استخدمها "أثينادور" كأساس للأخلاق، فقال: " أعرف أنك إذا لم تجسر أن تطلب شيئًا من الله، بحضور كل الناس، فأنك بعد لم تتحرر من أهوائك. إن إله الكل هو ضمير الإنسان. عش مع البشر كأن الله يراك، وتكلم مع الله كأن البشر جميعًا يسمعونك"، كما قال أيضًا عن الضمير: " أن روحًا قدوسًا يقوم في أعماقنا. أنه مراقب وحارس لأفكارنا الصالحة والشريرة. عندما تعمل عملًا صالحًا فالجميع يعرفونه، وعندما تعمل عملًا شريرًا فما الفائدة أن يجهله الجميع ما دمت أنت تعرفه" (راجع رأفت شوقي - الخلفية الهلينية والرومانية وعلاقتها بأسفار العهد الجديد - الكتاب الثاني ص 52). كما استخدم بولس الرسول أيضًا بعض المفـردات الأخـرى مثل "الإنسان الباطن"، و"الطبيعة".. إلخ...
ج : 1ــ إن كان بولس الرسول استخدم بعض المفردات والمصطلحات التي استخدمتها الديانات اليونانية، وهيَ لم ترد في أسفار العهد القديم، فليس معنى هذا أن بولس الرسول قد تنكَّر للعهد القديم، لأنه كان أمينًا على الأسفار المقدَّسة، تربى عليها ودرسها وتحقَّق من معانيها، وقد تتلمذ على يدي: " رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ اسْمُهُ غَمَالاَئِيلُ مُعَلِّمٌ لِلنَّامُوسِ مُكَرَّمٌ عِنْدَ جَمِيعِ الشَّعْبِ" (أع 5 : 34)، وقال: " رَبَيْتُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّبًا عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ" (أع 22 : 3)، وغمالائيل هـذا هـو حفيـد المعلم الشهير "هليل"، فحمل نظرة متسامحة معتدلة، وكان عضوًا في مجمع السنهدريم، ونال لقب "ربوني" أي "معلمنا" (في صيغة الجمع)، وقد تغيَّرت نظرة بولس الرسول للعهد القديم بعد إيمانه بالمسيح إذ قرأه في ضوء العهد الجديد، حتى أنه اختصر جميع وصايا العهد القديم في وصية محبة القريب كالنفس، فقال: " لأَنَّ لاَ تَزْنِ لاَ تَقْتُلْ لاَ تَسْرِقْ لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ لاَ تَشْتَهِ وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِـي هذِهِ الْكَلِمَةِ أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (رو 13 : 9).. " لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَـةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (غل 5 : 14).. " وَأَمَّا غَايَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ وَضَمِيرٍ صَالِحٍ وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ" (1تي 1 : 5).
وأوضح أن غاية العهد القديم أن يصل بنا إلى المسيح: " لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رو 10 : 4).. " إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ" (غل 3 : 24)، وأيضًا أوضح أن كل ما كتب في العهد القديم فقد كتب لأجل تعليمنا: " لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ" (رو 15 : 4).
2ــ كان بولس الرسول يراقب الديانات الوثنية بعمق، وهذا واضح في رسالته إلى رومية حيث فضح مساوئ هذه الديانات، وإن قلنا أن مثل هذه الديانات كان بها القليل جدًا من الحق الذي امتزج بالكثير جدًا من الباطل، فإن بولس الرسول بعين ثاقبة حاول أن يسلط الضوء على هذا الحق، مثلما فعل في أثينا، إذ وجـد مذبحًا لإله مجهول، قال للأثينيين: " فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ هذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ.." (أع 17 : 23 - 31)، واستخدم بعض كلمات شعرائهم ليصل إلى هدفه قائلًا: " لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ. فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَــرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ" (أع 17 : 28، 29)، فاستخدم بولس عبارة " ذُرِّيَّةُ اللهِ" وهيَ لم ترد في العهد القديم، لكيما يفهمه أولئك الوثنيين، ويقول "كوست بندل" يمكننا القول بأن ثمة شيئًا من حضور المسيح في الأديان القديمة، وبالتالي فموقفنا من هذه الديانات موقف مزدوج، فإن كنا نشن حربًا على كل ما هو خطأ، فإننا نستدعي كل ما هو إيجابي (راجع مدخل إلى العقيدة المسيحية - منشورات النور (3) ص 200، 201). فقد اعتقد قدماء المصريين بالخلود، والبعث، والدينونة، كما أبرق الله بنوره على بعض فلاسفة تلك الأمم فأوضحوا أنه لا خلاص للإنسان سوى أن يتنازل الله ويأتي ويخلصه.
3ــ نعم استخدم بولس الرسول بعض المفردات والعبارات والمصطلحات التي استخدمتها الحضارة الهيلنسينية، ولكن بعد أن عمَّدها ومسحها بمسحة المسيحية، وحمَّلها بمفاهيم جديدة، أي أعطاها مفهومًا مسيحيًا جديدًا، فقال "يوسف درة الحداد" أن بولس الرسول استخدم بعض التعبيرات الهيلنسينية مثل "الضميـر" و "الحرية" و "الإنسان الباطن"، بعد أن عمَّدها فصارت تحمل مفاهيم مسيحية جديدة (راجع رسائل بولس ص 417، 429، 430، 433، 443، 483، 485، 486، ورأفت شوقي - الخلفية الهيلينية والرومانية - الكتاب الثاني ص 55، 56).
وأخذ بولس الرسول مـن الحضارة الإغريقية انفتاحها على العالم كله، فقال : " فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ... وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ... صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ" (1كو 9 : 20 - 22)، ووضع بولس الرسول في قلبه أن يهدم الجدار الفاصل بين اليهودية والمسيحية والهيلينية، فنجده يذكر تعبيرات وتشبيهات يونانية، مثل المثـل: " فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ" (1كو 15 : 33) ويشبّه الجهاد الروحي بالمسابقات الرياضية قائلًا: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالـَةَ.." (1كو 9 : 24 - 27).. " أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا" (في 3 : 14)، ولما رأى بولس الرسول العبد الذي كان يقتصد أي مال يستطيع أن يحصل عليه كمكافأة، ويكتنزه كأمانة في الهيكل، إلى أن يكتمل ثمنه، فيأتي سيده ويبيعه لإله هذا الهيكل، فيصير حرًا، من هنا استخدم بولس الرسول التعبير الرائع "عَتِيقُ الرَّبِّ": " لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ" (1كو 7 : 22). كما استخدم بولس الرسول بعض التعبيرات التي إعتاد عليها اليونانيون، مثل "ما يليق" (كو 3 : 18، فل 8) و "قبيح" (أف 5 : 12) و" كُلُّ مَا هُوَ حَق كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ.." (في 4 : 8).
وكذلك استخدم بولس الرسول تعبير "الضمير"، ويقـول "الدكتور القس فهيم عزيز" عن الضمير: " وقد استخدمه أكثر من (14) مرة في كتاباته، منها (11) مرة في رسالتي كورنثوس وحدها، ومما يجدر ذكره أنه لا توجد أي كلمة في اللغة العبرية يمكن أن تؤدي معنى، أو تُترجم كلمة "ضمير" ولكنها تظهر في كتاب حكمة سليمان (17 : 10)، وفي الترجمة السبعينية بنفس المعنى الذي تظهر في كتابات الرسول، الذي يعتبره ظاهرة بشرية عامة لها مكانتها عند الأمم (رو 2 : 15). ويظهر من كتابات الرسول أن الضمير ليس مصدرًا للقوانين الأخلاقية والسلوكية، ولكنه شاهد يحكـم فيما هو الصواب وما هو الخطأ، حتى الضمير المسيحي فأنه شاهد فقط على أن ما يعمله المسيحي ويقوله هو صواب وصدق (رو 9 : 1). هذا لأن وراء الضمير المسيحي قوة للإنارة هيَ الروح القدس، وقد يضعف الضمير عند المؤمن فيحكم حكمًا غير صائب كما فعل مع جماعة كورنثوس (1كو 8 : 2 - 7)، وعلى العموم فالضمير في السلوك المسيحي يميل إلى السلبية لأنه لا يعمل سوى الحكم على الصواب والخطأ" (Bultmann theology vol I P. 210)(738).
وكذلك استخدم بولس الرسول اصطلاح "الطبيعة" Physis، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى: " لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُــوَ فِي النَّامُوسِ" (رو 2 : 14)، ويقول "الدكتور القس فهيم عزيز": "هنا نرى أن الرسول حتى وإن كان قد استعمل بعض المصطلحات اليونانية، إلاَّ أنه لم يكن يقصد أن يستخدمها كما يفهمها اليونانيون، بل استخدمها في معنى آخر. أنه لم يرد أن يُعبّر عن البشرية الكاملة بل عن الحياة الجديدة في المسيح يسوع، وما أبعد الفرق بين الأثنين" (Bultmann, theology P. 513)(739).
_____
(738) الفكر اللاهوتي في كتابات الرسول بولس ص 269، 270.
(739) المرجع السابق ص 271.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/96.html
تقصير الرابط:
tak.la/qh5thyn