St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

87- متى وأين ظهرت "مدرسة نقد الشكل" المنبثقة من النقد التاريخي؟ ومَن هم أهم مؤسّسي هذه المدرسة؟ وما هو هدف مدرسة نقد الشكل؟

 

س87 : متى وأين ظهرت "مدرسة نقد الشكل" المنبثقة من النقد التاريخي؟ ومَن هم أهم مؤسّسي هذه المدرسة؟ وما هو هدف مدرسة نقد الشكل؟

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: أولًا: ظهور مدرسة نقد الشكل:

ظهرت "مدرسة نقد الشكل" في بداية القرن العشرين في ألمانيا، والحقيقة أنه قبل الدراسات النقدية في القرن الثامن عشر كان الناس يقرأون الأناجيل ببساطة وهم يعلمون أنهم يقرأون سجلًا تاريخيًا حقيقيًا عن حياة يسوع المسيح وأقواله وتعاليمه، ولكن الدراسات النقدية افترضت افتراضات عجيبة مثل أن الإنجيليين لم يكتبوا سجلًا تاريخيًا بل كتبوا ما يناسب الكرازة والإجابة على الأسئلة المثارة، وأنهم أضافوا وبالغوا في الأحداث التاريخية وأدخلوا نوعًا من الزخارف التي يجب إزالتها للوصول إلى الأصول الصحيحة، ويقول "جون درين": " قبل ظهور الدراسات النقدية، كانت الأناجيل تُفهَم ببساطة على أنها سجل تاريخي عن حياة وأعمال وكلمات يسوع، ولكن تم التخلي عن هذا الفكر في المرحلة الأولى من الدراسات النقدية ليُستبدل برأي آخر وهو أن البشيريين كتبوا ما كتبوه لغرض عملي وهو تلبية احتياجات الكنائس الوليدة. هذه الاحتياجات ترجع اغلبها إلى التبشير (التشارك في رسالة الإنجيل مع الآخرين)، والعبادة (نظم العبادة) والتعليم (تعليم المسيحيين عن الإيمان)، وحل النزاعات الداخلية (مثل حفظ السبت وباقي النواميس اليهودية). تأسيسًا على هذا المفهوم لم تكن الأناجيل سردًا مستفيضًا لأعمال يسوع أو كلماته. ولكنها كانت ذكريات منتقاة على أساس نوعية الأسئلة المطروحة والمناقشات الجارية في الكنائس الأولى، وهذا ما ذكره لوقا (1 : 1 - 4) ويوحنا (20 : 30 - 31، 21 : 25).. وعلى نفس هذا الأساس لم تكن هناك حاجة لكتابة تاريخ حياة يسوع من البداية للنهاية. إذ لم تكن هناك حاجة إلى إثبات حقيقة وجوده (يسوع التاريخي) لكن البشيريين أبـدوا اهتمامًا أقل لكتابة "حياة يسوع"، فما اهتموا به إيضاح ملاءمته للحياة اليومية لتابعيه"(640).

 ويقول "جوش مكدويل": " وتبعًا لنقد الشكل، فإن تكوين وحفظ هذه الوحدات كان مصممًا ومحددًا على أساس احتياجات الجماعة المسيحية الأولى. بمعنى آخر، عندما كانت الجماعة تواجه مشكلة فأنها كانت تلجأ إما إلى اختلاق أو إبراز مقولة أو حادث ليسوع للتعامل مع متطلبات هذه المشكلة بالذات. ومن ثم فإن هذه الوحدات ليست شواهد أساسية على حياة المسيح ولكن بالأحرى يمكن اعتبارها معتقدات وممارسات الكنيسة الأولى" (641).

 ولاحظ الدارسون أن هناك وحدات إنجيلية أو فصول صغيرة مستقلة، تضم كل وحدة أحداثًا بترتيب معين، ونجدها تتكرَّر إلى حد كبير في الأناجيل الإيزائية، فمثلًا ما جاء في (مر 8 : 1 - 9 : 37) نجد إحدى عشر حدثًا تشمل معجزة إشباع الجموع، وطلب الفريسيون آية، والتحذير من خمير الفريسيين، وتفتيح عيني الأعمى، وشهادة بطرس للمسيح، ونبوة يسوع عن موته وقيامته، وما يُطلب من أتباع يسوع من إنكار الذات، والتجلي، وطرد شيطان، ونبوة يسوع الثانية عن آلامه وقيامته، والحوار بين التلاميذ عمن هو أعظم في ملكوت السموات، نجد لها تماثل إلى حد كبير في إنجيل متى (مت 15 : 32 - 17 : 27)، وإنجيل لوقا (لو 9 : 12 - 48) فنشأت مدرسة نقد الشكل في ألمانيا وتبحرت في دراسة هذه الوحدات الصغيرة (Form) والفقرات الإنجيلية، ومدرسة نقد الشكل في اللغة الألمانية تُدعى Form Geschichte أي "تاريخ الشكل" ويُرمَز لها بالحرفين F.G، وسيطرت أفكار هذه المدرسة على الدراسات النقدية للعهد الجديد حتى سبعينيات القرن العشرين.

 

ثانيًا: مُؤسّسو مدرسة نقد الشكل:

من مؤسسي هذه المدرسة "مارتن ديبليوس" Martin Dibeluss، و "رودلف بولتمان" Rudalf Bultmann، و "فينست تايلور" Vincent Taylor، و "هيرمان جنكل" Hermann Gunkel، و "هوك. إل. شميدت" K. L. Schmidt، ودعنا يا صديقي نعرض باختصار لآراء ثلاثة من هؤلاء النُقَّاد:

1ــ مارتن ديبليوس Martin Dibeluss (1883-1947م):

 وُلِد مارتن ديبليوس في ألمانيا، وحصل على الدكتوراة من "توبنجن"، وعلَّم في جامعة "برلين" ثم شغل منصب أستاذ للعهد الجديد في "هايدلبرج"، ويعتبر مارتن من أكبر نُقَّاد الشكل ورائدًا في هذه المدرسة، وقد ألَّف عدة كتـب منها "من التقليـد إلى الإنجيل"، و "مدخل جديد للعهد الجديد والكتابات المسيحية المبكرة"، و "نقد الإنجيل والكريستولوجي"، و "يسوع"، بالإضافة إلى بعض الأعمال البارزة.

 واعتقد ديبليوس أنه لا توجد شهادة تاريخية نقية عن يسوع في الأناجيل، لأن الأناجيل لم تقصد تدوين سيرة ذاتية ليسوع، إنما قصدت تقديم عقيدة خلاصية لتبشير غير المؤمنين، والرواية الوحيدة الكاملة عن "قصة آلام المسيح" أوردتها الأناجيل ليس لتأكيد حقيقة حدوثها، بل لتوضيح أن كل ما حدث من هذه الآلام فقد حدث بإرادة الله. فرأى ديبليوس أن المسيحيين الأوائل الذين سجلوا أسفار العهد الجديد لم يهتموا بمسيح التاريخ، إنما كان كل ما يشغلهم هو ربح النفوس، فيقول ديبليوس: " لم يكن لدى المسيحيين الأوائل أي اهتمام بتسجيل حياة وآلام يسوع بصورة موضوعية كشهادة للبشرية، لكن كل ما كانوا يرغبون فيه هو ربح أكبر عدد ممكن للخلاص في الساعة الأخيرة من نهاية العالم، والتي آمنوا أنها على وشك الحدوث، فهؤلاء المسيحيون الأوائل لم يكن لديهــم أي اهتمام بالتاريخ"(642). كما يُعبّر "ديبليوس" عن هدف مدرسة نقد الشكل فيقول: " إنها تحاول أن تملأ الفجوة في العهد الجديد بواسطة الأساسيات المشتركة التي تقوم عليها عقيدة يسوع المسيح، ورواية يسوع الناصري"(643).

 واهتم "ديبليوس" في نقد الشكل بالأناجيل الثلاثة الإيزائية مرقس ومتـى ولوقا وقال: " أن الفهم الأدبي للأناجيل المتوافقة يبدأ مع إدراك أنها عبارة عن تجميعة من الكتابات والمواد، والقائمون بإعدادها لا يمكن اعتبارهم مؤلّفين إلاَّ في أضيق الحدود. بل هم بالدرجة الأولى ليسوا سوى جامِعِين أو محرّرين، وقبل كل شيء فإن عملهم يختص بكتابة وتجميع وتحرير الكتابات أو المواد التي وصلت إليها"(644).

 واقترح "مارتن ديبليوس" خمسة أشكال للوحدات الإنجيلية، وهيَ:

الأنماط - الروايات - الأساطير - الخوارق - التشجيعات

1ــ الأنماط: وهيَ القصص، وقد أطلقوا عليها عدة أسماء، فدعاها "بولتمان" الحكمة أو القول المأثور، ودعاها فينسنت تايلور "قصص البيان"، واعتقد "مارتن ديبليوس" أنها قصص معينة كانت تُستخدم كأمثلة وإيضاحات في الوعظ المسيحي المبكر، ويقول عنها "جون درين" أنها: " تشتهر بالأسلوب الذي تتصاعد به... ولكن ما يجمعها التعبير القصير الذي يأتي في النهاية، وهناك أمثلة عديدة في الأصحاحات الأولى من مرقس (انظر مر 1 : 2 - 3 : 1)، وهذا الشكل الأدبي كان معروفًا عند اليونانيين واليهود في ذلك الوقت، وأمدَّ المسيحيين بأجزاء مهمة لوصف أفكار تميز إيمانهم"(645).

2ــ الروايات: ودعاها "فينسنت تايلور" قصص المعجزات، وعرَّفها "مارتن ديبليوس" بأنها قصص جيدة، وتحوي بعض المعجزات وليس كلها معجزات، وهيَ نتاج قصَّاصين محترفين في الكنيسة الأولى، فقصُّوا قصص عن يسوع تماثل قصص الآلهة اليونانية والأبطال، فتُظهِر هذه الآيات يسوع مثل هؤلاء الآلهة والأبطال، بهدف كسب مسيحيين جدد، ويرى "جون درين" أنه حتى لو كان هناك قصاصون في الكنيسة الأولى فأنهم لم يخترعوا قصصًا، إنما قصوا ما رأوه عيانًا، فيقول: " لم يذكر العهد الجديد صراحة وجود قصاصين في الجماعة المسيحية المبكرة، ربما لأن هذا الأسلوب كان شائعًا لدرجة أنه لا مجال لذكره... كما أن وجود كتَّاب محترفين لكتابة قصص يسوع لا يعني أنهم تدخلوا بآرائهم، بما أن الأناجيل قد كُتبت في فترة تقل عن جيل بعد وقوع الأحداث فلا بد أن مجال الإضافة كان محدودًا"(646). ونحن نقول مجال الإضافة لم يكن محدودًا فقط بل كان معدومًا لأن كل ما كُتب بوحي إلهي، وما أكثر شهود العيان على تلك الأحداث.

 الأساطير: ولم يقصد نُقَّاد الشكل التشكيك في مصداقية وتاريخية الفقرات، إنما استخدموا هذا اللفظ كلفظ شائع للتعبير عن الروايات التـي قصتها الأناجيل، ويقول "جون درين": " الأساطير: استخدم ديبليوس هذا التعبير لأنه لفظ كان شائعًا وقتئذ، وهيَ روايات عن حياة بعض القديسين والتي كان غرضها تقديم أمثلة ونماذج روحية للاقتداء بها. أما من جهة استخدام هذا التعبير لها فليس القصد منه التشكيك في مصداقيتها أو تاريخيتها... أمثلة لهذه الأشكال موجودة في (مت 14 : 28 - 32).. (لو 2 : 41 - 49)"(647). 

4ــ الخوارق: تظهر فيها كائنات روحية أو علوية مثل ظهور الروح القدس على شكل حمامة في عماد السيد المسيح (مر 1 : 9 - 11)، وظهور الشيطان في التجربة على الجبل (مت 4 : 1 - 11)، وظهور موسى وإيليا في التجلي (مر 9 : 2 - 8). 

5ــ التشجيعات: وهيَ التعاليم الإنجيلية، فجميعها جاءت في سياق التعليم أو التجديد. 

 

St-Takla.org Image: Rudolf Bultmann (20 August 1884 – 30 July 1976), German Lutheran theologian and professor of New Testament at the University of Marburg صورة في موقع الأنبا تكلا: رودلف بولتمان (20 أغسطس 1884 - 30 يوليو 1976)، لاهوتي لوثري ألماني، ومدرس العهد الجديد بجامعة ماربورج

St-Takla.org Image: Rudolf Bultmann (20 August 1884 – 30 July 1976), German Lutheran theologian and professor of New Testament at the University of Marburg

صورة في موقع الأنبا تكلا: رودلف بولتمان (20 أغسطس 1884 - 30 يوليو 1976)، لاهوتي لوثري ألماني، ومدرس العهد الجديد بجامعة ماربورج

2ــ رودلف بولتمان Rudalf Bultmann (1884 - 1976م):

 لاهوتي بروتستانتي ألماني لوثري، وُلِد في 20 أغسطس 1884م في ويفلستيد Wiefelstede، درس اللاهوت في جامعة توبنجن ثم جامعة برلين ثم جامعة ماربورج، وحصل على درجة الدكتوراة سنة 1910م حول "بولس الطرسوسي"، وعمل أستاذًا لدراسات العهد الجديد في جامعة ماربورج، وعُرف بمعارضته للنظام النازي، وقام بالفصل الكامل بين "يسوع التاريخ" و "مسيح الإيمان"، ومن أشهر كتبه "تاريخ تقليد الأناجيل الإيزائية" سنة 1921م، و "إنجيل يوحنا" سنة 1941م، و "لاهوت العهد الجديد" في مجلدين، و "يسوع: الأسطورة ونزع الأسطورة"، وبحث بعنوان "العهد الجديد والأسطورة"، ويقول "جوش مكدويل" عنه: " شغل وظائف أكاديمية في العديد من الجامعات. ساعد بولتمان في تطوير مدرسة نقد الشكل ومناهج دراسة الكتب المقدَّسة، وأهم أعمال بولتمان تشمل: يسوع والعالم، يسوع المسيح وعلم الأساطير، المعرفة الروحية، والمسيحية البدائية في أوضاعها الحالية"(648).

 وفي سنة 1941م طبق "رودلف بولتمان" النقد الشكلي على إنجيل يوحنا، وانتهى إلى أنه كان هناك إنجيلًا للآيات اعتمد عليه يوحنا في كتابة إنجيله، ثم فقد، وفي سنة 1951م تقاعد رودلف بولتمان عن التدريس، ولم يتوقف عن إصدار مؤلفاته وأبحاثه، ويرى بولتمان أن الأسطورة لا تهدم الإيمان ولكنها تشوهه، ولذلك يجب فهمها وتأويلها وتفكيكها، واعتقد أن العنصر العجائبي الذي يحوي المعجزات قد أضيف للأناجيل مؤخرًا، وهو جانب خرافي، فيجب إزالته للوصول للحقيقة، وقال بولتمان أن صلب المسيح كافٍ للإيمان المسيحي بدون القيامة، لأن الصلب في حد ذاته تمجيد للمسيح وانتصار له على العالم، وليست القيامة هيَ التي تجعل يسوع يسود وينتصر على القوى الشيطانية، ويؤكد بولتمان أن شخصية "يسوع التاريخ" لا يرقى إليها الشك، ولكنها لم تكن قط بهذا التضخم الذي صوره كتَّاب الأناجيل، وشكَّك بولتمان في القصص الإنجيلية وقال أن الأساطير تطغو عليها، فالعالم الذي وُلِد فيه يسوع كانت تغلب عليه الأساطير والخرافات والأفكار اليهودية الأخروية والأفكار الغنوسية، فالمناخ الذي ظهر فيه يسوع ساعد على تقديمه بهذه الصورة الأسطورية، وقال بولتمان أنه من المستحيل الوصول إلى يسوع التاريخ، مما دفع جماعة من الباحثين إلى تأسيس حركة جديدة أطلقوا عليها "البحث الجديد" عن يسوع التاريخ، وانتهوا إلى أن صورة يسوع التاريخ يمكن استعادتها بوضوح تـام من صفحات العهد الجديد (راجع القس أندرية زكي - المسيح والنقد التاريخي ص 24، 25).

 لقد أكد بولتمان أن المعجزات التي سجلتها الأناجيل غير حقيقية، ولكنها جاءت نتيجة تأثر الكتَّاب بالميثولوجيا، فيقول "بيرتون ل. مارك": " بدأ برنامج بولتمان لتفسير العهد الجديد... أُقرَّ أن المسيحيين الأوائل كانوا متأثرين بالعالم الذي عاشوا فيه في أواخر الحقبة الرومانية، وأنهم عبَّروا عن أنفسهم في مفردات أساطيره، ولهذا اقترح برنامجًا لتفكيك هذه الأساطير وشرحها، أو لإعادة صياغة معنى الرسالة المسيحية المبكرة في لغة غير ميثولوجية" (649). وأجاب بولتمان عن سؤال: "من هو الرجل يسوع؟" قائلًا: " أنه شخص مثلنا وليس صورة أسطورية، وهو لا يمتلك إشعاعًا مسيانيًا، أنه رجل حقيقي ولكنه رجل فقط، مُعلّم ديني، عمل لفترة وجيزة وتنبأ بالنهاية الوشيكة للعالم ومجيء ملكوت الله، كما أنه جدَّد بقوة أكثر احتجاج أنبياء العهد القديم العظام ضد التقيُّد بالشريعة والعبادة الطقسية الشكلية لله. ويسوع أسلمه اليهود إلى الرومان فصلبوه، ولكن أي شيء آخر عنه فهو غير مؤكد ومشكوك فيه بل وأسطوري" (650).

 وقد استخدم بولتمان نقد الشكل الأدبي ليستخلص خطة الإعلان الإلهي من الأساطير والأشكال الأدبية الأخرى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقال أننا لن نستطيع أن نعرف سوى القليل جدًا عن شخص المسيح وتعاليمه وحياته، وحاول بولتمان حسب تصوُّره أن يُخلّص العهد الجديد من أسلوبه الأسطوري، وقام بولتمان بنوع من الدراسة دعاها "مواقف حياتية" حاول من خلالها التمييز بين كلمات يسوع الأصلية وبين ما أضافته الكنيسة إلى كلمات وأقوال (وهذا ما قامت به جماعة سيمنار يسوع كما سنرى فيما بعد)، فقام بولتمان بتقسيم قصص وتعاليم يسوع إلى:

أ - أقوال مأثورة؛ ب - أقوال ربانية

 فالأقوال المأثورة تشمل القصص القصيرة التي تضم كلام هام قاله يسوع مثل ما ورد في (مر 2 : 23 - 28)، فهذه الأقوال هيَ من نتاج الكنيسة اليهودية، ولكنها تحتوي على كلمات أصلية قالها يسوع، وحلَّل بولتمان أقوال يسوع وصنفها إلى ما يأتي:

أ - كلمات الحكمة: وهيَ مستمدة من أمثال العهد القديم والأعمال الأدبية الخاصة بالشعوب القديمة، وقال بولتمان أن المجتمع البدائي وضع على لسان يسوع الكثير من أقوال الحكمة المقتبسة من الأمثال اليهودية، وعندما كُتبت الأناجيل وردت فيها كلمات الحكمة هذه على أنها كانت كلمات يسوع وهيَ ليست بكلماته.

ب - الأقوال النبوية والأخروية: وهيَ أقوال نسبها المجتمع المسيحي ليسوع، وإن كان بعضها هو من أقوال يسوع حقيقة، ولكن ليست كلها من أقواله، فكثير منها جاءت نتيجة إضافات المجتمع المسيحي وظلت تُتناقل هكذا إلى أن دُوّنت في الإنجيل على أساس أنها أقوال يسوع ولكن ليست جميعها أقواله.

جـ - الأقوال المتعلقة بالناموس: مثل الأقوال الخاصة بالطلاق والأصوام، وهذه الأقوال صاغها المجتمع المسيحي الأول، ولكن كلمات يسوع كانت خلف هذه الصياغات، أي أن يسوع قالها بدون التقيُّد بالحرف وصاغها المجتمع المسيحي الأول، وبعض هذه الأقوال تُنسب للكنيسة الأولى ولا تُنسب ليسوع، مثل الأقوال التي تتعلق بإرسالية الكنيسة ونظامها.

د - أقوال يسوع التي تتضمن "أنا": هذه الأقوال يتحدث بها يسوع، ولكن الكنيسة الأولى أعادت صياغتها، فبعض هذه الأقوال تخص مُعلّمين يهود، ولكن الكنيسة نسبتها إلى يسوع.

هـ - أقوال المجاز والأمثال: وتتميز هذه الأقوال بالحيل الأدبية مثل المبالغة والاستعارة، وقد قام المجتمع المسيحي بتحويلها إلى قصص رمزية.

 ووجدت أفكار بولتمان معارضة شديدة من الكاثوليك المحافظين، بينما وجدت قبولًا لدى بعض الأوساط البروتستنتية، حتى أن معظم كبار اللاهوتيين الألمـان هم تلاميذ لبولتمان، ويقول "مارتن مارتي": "أن البعض اعتبروا بولتمان أعظم عالِم في العهد الجديد في القرن العشرين، بينما اعتبره أحد الأحزاب اللوثرية أنه كبير مهرطقي القرن العشرين"(651). ومات بولتمان في 30 يونيو 1976م في ماربورج بألمانيا. 

 

3ــ فينسنت تايلور Vincent Taylor:

من أكبر نُقَّاد الشكل، وألَّف كتابه "بنية تقليد الإنجيل" سنة 1935م حيث افترض أن التقليد القديم للإنجيل الشفهي كان يتكوَّن من وحدات صغيرة متفرقة غير مرتبطة معًا من جهة المكان، وغير مرتبة من حيث الزمان، وأن التقليد الخاص بحياة يسوع اشترك في وضعه الكثيرون، وقال تايلور أن كل ما كان يشغل المسيحيون الأوائل هو السماء الجديدة والأرض الجديدة، لذلك لم ينصرف ذهنهم نحو الأحداث التاريخية.

 

ثالثًا: اهتمامات أصحاب مدرسة نقد الشكل:

1ـــ اعتقد أصحاب مدرسة نقد الشكل أن الإنجيل الشفهي عندما تداول بين المؤمنين نحو ربع قرن من الزمان، أُضيف إليه بعض المبالغات والزخارف، يجب إزالتها حتى نصل إلى الأصول الحقيقية الخالية من الشوائب، وهذه الأشكال الأصلية للنص كانت مختصرة وانسيابية، أي في تواصل وترابط وتماسك، عبارة تقودك إلى عبارة بدون جمل اعتراضية أو حشو أو مبالغات أو زخارف. فمثلًا قال بولتمان أن اعتراف بطرس الرسول بألوهية السيد المسيح: " أنت المسيح ابن الله الحي" ليست حقيقة تاريخية، إنما هيَ إضافة من اختراع الكنيسة الأولى للتأكيد على ألوهية المسيح، فيجب إزالتها... وهلم جرا، فنقد الشكل إذًا يبحث في التقليد الشفهي قبل أن يتحوَّل إلى أناجيل مكتوبة، وكان هذا التقليد أو الإنجيل الشفهي في شكل وحدات من القصص أو التعاليم أو الأمثال المنفصلة، وحدات صغيرة منفردة، ويرى بولتمان أن مدرسة نقد الشكل: " تسعى إلى دراسة التقليد الشفهي في مرحلة سابقة لتبلوره في الأناجيل... يبدأ نقد الشكل مع إدراك أن التقليد الذي تضمنته الأناجيل المتوافقة يتكوَّن في الأصل من وحدات منفصلة... أن التقليد الأكثر قدمًا للإنجيل تناقل شفويًا داخل الكنيسة التي كان التقليد يخدم احتياجاتها الروحية. وهذا التقليد بدأ يتجمع تدريجيًا إلى مجموعات وكتل أو متتابعات وأخيرًا أناجيل"(652).

وقال "ج. أ. لادد": " أن "نقد الشكل" يهتم بدراسة الأشكال الأدبية المتنوعة التي يُفترض أنها التقليد الشفهي الذي تم تناقله من فم إلى فم... أن محتوى الأناجيل في مراحلها المبكرة كان يعتمد على التناقل الشفوي كوحدات وحكايات وقصص وأقوال وتعاليم وأمثال غير متصلة... نحن لا نملك في الحقيقة سجل حياة أو (سيرة حياة) يسوع، ولكن فقط مجموعة من الحكايات والتعاليم المنفصلة التي تم ربطها معًا بأسلوب غيـر تاريخـي وسطحي" (653)، فهؤلاء النُقَّاد اعتبروا أن الذين كتبوا الأناجيل، كل ما فعلوه، أنهم جمعوا هذه الوحدات الصغيرة المتناثرة، وربطوا بينها بأدوات الربط مثل "في الحال"، و "مرة أخرى"، و "بعد أيام قليلة"، و "بينما"، و "بعد ذلك"، فأدوات الربط هذه تعد إطارًا زائفًا وضعه محررو الأناجيل لربط الوحدات معًا.

2ــ ما المقصود بالشكل؟.. المقصود بالشكل أي الوحدة أو الفقرة الإنجيلية، والتعرُّف على ملامحها من جهة الطول أو القصر، ومن جهة تركيبها وهيكلها، ومن جهة ترتيب محتوياتها، وزعم النُقَّاد أنه من خلال دراسة أشكال هذه الفقرات فأنهم يستطيعون أن يتعرَّفوا على السياق العام الذي كتبت فيه، هل هيَ كُتبت بغرض الكرازة، أم بغرض العـبادة، أم بغرض التعليم، أم لحل نزاعات نشبت في الكنيسة الأولى، أم ردًا على أسئلة مثارة، والتعرُّف أيضًا عما إذا كانت هذه الوحدة أصلية في الإنجيل أم أنها من ضمن المبالغات الزخارف والإضافات، ويقول "جون درين": " الأشكال: بناء على هذه النتائج التي توصل إليها علماء النقد فقد رأوا أن الروايات الإنجيلية قد حُفظت في "أشكال" مختلفة على حسب السياق والغرض... إن كلمة "شكل" تشير إلى بعض الملامح، كطول الفقرة، وهيكلها أو ترتيب المحتوى داخلها... وهكذا اقترح النُقَّاد إمكانية معرفة السياق الذي كُتِبت فيه أجزاء إنجيلية معينة في حياة الكنيسة الأولى بالنظر إلى الشكل.."(654).

3ــ نقد الشكل أي تاريخ الشكل بدأ بالتحليل الأدبي، أي فحص النصوص وتحديد النص الأصلي من الإضافات والزخارف، فبلا شك أن النص الأصلي هو الأقدم، والإضافات والزخارف هيَ الأحدث، وبذلك يبدأ نقد الشكل بالتحليل الأدبي، وينتهي بالتحليل التاريخي.

4ــ قال نُقَّاد الشكل أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل، وكان عبارة عن أجزاء ووحدات متفرقة، جمعت تحت تأثير بعض الأفكار اللاهوتية، فتعرضت لبعض التصحيحات والإضافات، لأنه كان هناك تطوُّر في نظرة المسيحيين الأولين للسيد المسيح وأقواله، والدليل على ذلك أن نظرة متى ولوقا تطوَّرت عن نظرة مرقس الإنجيلي، فعدَّل كل منهما العبارات غير الدقيقة إلى عبارات دقيقة، فمثلًا قول مرقس: " لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً... وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (مر 6 : 5، 6) عدَّلها متى إلى: " لَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (مت 13 : 58). كما أن كل من متى ولوقا غيَّر العبارات القاسية التي استخدمها مرقس، وأيضًا جعلا بعض عبارات مرقس أكثر لباقة، وخفَّفا العناصر الصارخة، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع، فيُرجى الرجوع إلى س73. فإن كان القديسين متى ولوقا قد حاولا إضفاء مجدًا أكثر على شخصية يسوع من مرقس الرسول، فما المانع أن يكون المسيحيون الأوائل قد ضخَّموا في صورة يسوع، بينما أكد المحافظون أن الإنجيليّين لم يخترعوا ولم يطوّروا الأحداث عند تسجيلها، ولكنهم فهموا الأحداث بطريقة أكمل وأفضل بعد القيامة، فالقيامة صارت نافذة استطاع التلاميذ أن يروا القصة من خلالها، وأن ينشئوا مفهومًا أوضح عن يسوع وخدمته (راجع القس أندرية زكي - المسيح والنقد التاريخي ص 56، وجوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 473 - 482، 501 - 504).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(640) مدخل العهد الجديد ص 182.

(641) برهان يتطلب قرارًا ص 473.

(642) برهان يتطلب قرارًا ص 484.

(643) المرجع السابق ص 475.

(644) المرجع السابق ص 478.

(645) مدخل العهد الجديد ص 183.

(646) مدخل العهد الجديد ص 183، 184.

(647) المرجع السابق ص 184.

 (648) برهان يتطلب قرارًا ص 605.

(649) ترجمة محمد الجورا - الإنجيل المفقود - كتاب " ك " والأصول المسيحية ص 29.

(650) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 479.

 (651) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 480.

 (652) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 475.

(653) المرجع السابق ص 474.

(654) مدخل العهد الجديد ص 183.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/87.html

تقصير الرابط:
tak.la/pta9xz5