ج: أولًا: Epicurus أبيقور (341 - 270 ق.م): نقرأ عن الأبيقوريين والرواقيين الذين كان لهم تواجد قوي في أثينا في سفر الأعمال، فعندما كان بولس الرسول في أثينا ينتظر سيلا وتيموثاوس ورأى المدينة مملؤة أصنامًا احتدت روحه فيه، وكان يكرز لليهود في المجمع وفي السوق كل يوم " فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ الأَبِيكُورِيِّينَ وَالرِّوَاقِيِّينَ وَقَالَ بَعْضٌ تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هذَا الْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ وَبَعْضٌ إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِيًا بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ. لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَالْقِيَامَةِ..." (أع 17: 18 - 34) واستغل بولس الرسول وجود مذبح في أثينا كُتب عليه لإله مجهول فجعله مدخلًا لكرازته لهم وأصغوا إليه إلى أن سمعوه يتحدث عن قيامة المسيح، فالبعض استهزأوا بفكرة القيامة، وآمن قليلون منهم ديونيسيوس الأريوباغي ودامرس وآخرون.
قال "عباس محمود العقاد" في كتابه "حياة المسيح" أن "أبيقور" وُلِدَ في جزيرة "ساموس" Samos بالقرب من شواطئ آسيا الصغرى، بينما يرى "د. محمد غلاَّب" في كتابه "الفلسفة الإغريقية جـ2 "أن أبيقور وُلِدَ في أثينا، وكان أبوه يعمل أستاذًا في إحدى المدارس الإغريقية، أما أمه فقد انشغلت بأعمال السحر والشعوذة، تذهب للمنازل لتبرئ المرضى وتطرد الأرواح الشريرة، وكانت تصطحب معها "أبيقور" وهو طفل صغير، لذلك كره أبيقور كل الأمور التي تتعلق بما وراء الطبيعة بما فيها سحر وشعوذة أمه، وتلقى أبيقور تعليمه وثقافته ودرس الفلسفة وهو في الرابعة عشر من عمره، فتأثر بديموقريطس وأرسطو، بينما أدار ظهره للفلسفة الأفلاطونية. وفي نحو الثلاثين من عمره سنة 311 ق.م افتتح مدرسته في حديقته المشهورة في أثينا، ودعاها بِاسم "الحديقة" وقَبِلَ فيها الجميع بما فيهم العبيد والراقصات وبائعات الهوى.
وكان أبيقور يميل للنُسك والتصوف فعاش زاهدًا متقشفًا، يقضي معظم أيامه يقتات على الخبر والماء وأحيانًا القليل من الجبن، وكان "أبيقور" يهدف من فلسفته أن يحيا الإنسان حياة سعيدة هادئة في سلام، فعلم أتباعه أن غاية الحياة هيَ المتعة والسرور، وأفضل السرور الذي لا يعقبه الألم ولا التبرم، ولكن كثيرين أساءوا فهم أبيقور، فربطوا فلسفته بالمتعة والشهوات، مع أن أبيقور نفسه كان يتجنب الشهوات البهيمية، وكان يُعلِم أتباعه وتلاميذه أن من يرفض السرور الذي لا يعقبه ألم فهو إنسان أحمق. وفضل "أبيقور" السرور النابع من السكينة والتأمل، ودعى للقناعة، والأمر العجيب أن أبيقور الذي عاش زاهدًا متقشفًا، فإن تعاليمه كان لها تأثير عكسي على الناس، لأنهم نظروا للأعمال المتناقضة أنها كلها جيدة، فصار شعارهم "لنأكل ونتشرب لأننا غدًا نموت".
وأوضح أبيقور أن الديانات التي انتشرت بكثرة في عصره محشوة بالخرافات والأكاذيب، وقال أن الآلهة مشغولة بسعادتها في شئون الدنيا. وكان يرى أن على الإنسان أن ينشغل بالفلسفة في سن مُبكرة ولا ينقطع عنها في شيخوخته فيقول: "يجب على الشاب أن لا ينتظر إلى وقت معين لكي يتفلسف، كما يجب على الشيخ أن لا يتعب من أن يتفلسف كذلك، لأنه فيما يتعلق بعناية الشخص بتربية نفسه لا يصح مُطلقًا أن يُقال: أن الوقت لم يحن بعد، ولا أن الوقت قد فات، لأن من يقول أن وقت التفلسف لم يحل بعد أو أنه قد مضى، يكون مثله مثل من يقول: أن ساعة اشتهاء السرور والسعادة لم تحن أو قد انقضت"(230).
ويقول "دكتور محمد غلاَّب": "كان "أبيكور" بشوش الوجه، طلق المحيا، لا تكاد البسمة تفارق ثغره مهما تعاقبت على نفسه الحوادث وتوالت على قلبه معاكسات الأيام. وكان لطيف النقاش، حلو الحديث، عذب النكتة، لا يخلو من سمر، فجعلته هذه الخلال محببًا من جميع جلسائه ومعارفه ومكَّنت له في قلوب أصدقائه وتلاميذه إلى حد بعيد. وأكثر من ذلك كله أنه كان شديد الوفاء لأصدقائه، قوي التعلق بحبهم إلى درجة جعلته يضع الصداقة في أعلى مراتب الحياة، حيث يقول ما نصه { إن امتلاك الصداقة هو أهم جميع ما تقدمه إلينا الحكمة من سعادات الحياة، بل أن هذه الناحية تفوق النواحي الأخرى بدرجات عظيمة }"(231). وفي نهاية حياته أُصيب "أبيقور" بالشلل فكان صابرًا محتملًا قسوة المرض بشجاعة وهدوء، لم تفارقه الابتسامة حتى لحظات موته، حتى أنه كتب رسالة إلى "أيدومينيوس" يقول فيها: "لقد كتبت لك هذه الرسالة في يوم سعيد بالنسبة لي، وهو آخر يوم في حياتي، لأنني تعرضت لهجوم مؤلم... لا يمكن إضافة أي شيء إلى عنف معاناتي، لكن بهجة ذهني التي تأتي من تذكُّر كل تفكيري الفلسفي، تعادل كل هذه الآلام...". ورغم أن "أبيقور" وضع نحو (300) مؤلف إلاَّ أنه لم يتبقَ منها سوى ثلاث رسائل، واحدة إلى "هيرودوت" تحمل مختصرًا عن الفلسفة، والثانية إلى "بيتوكليس" عن الظواهر السمائية، وكان أبيقور يرجع الظواهر التي يعاينها إلى الطبيعة، والثالثة إلى "منيكايوس" في الأخلاق.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
![]() |
ثانيًا: الفلسفة الأبيقورية: بينما انشغل أفلاطون وأرسطو بالأنظمة السياسية التي تقوم عليها الحكومات وكيفية تحقيق العدالة، فإن فلسفة أبيقور دارت حول سعادة الفرد، وبُنيت فلسفة أبيقور على أن حياة الإنسان قاصرة على هذه الحياة الحاضرة، وأن الموت هو نهاية حياة الإنسان، جسدًا وروحًا، فقد أنكر أبيقور خلود الأرواح، ولذلك دعى للعيش في سعادة في هذه الحياة الحاضرة وهو ما ردَّ عليه بولس الرسول بقوله: "إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوت" (1 كو 15: 32)، وقال أبيقور أن ما يسبب تعاسة الإنسان هو الخوف من أمرين:
أ- الاعتقاد أن هناك آلهة تعاقب الإنسان أو تكافئه بعد الموت، وقال أبيقور مع أن الآلهة موجودة لكنها كاملة وأبدية، ولا تهتم بشئون الإنسان.
ب- الخوف من الموت، مع أن الموت يمنح الإنسان الراحة من أتعابه، وأنه بمجرد انتهاء التجربة الواعية لن يكون هناك أي إحساس بالألم. وقال "أبيقور": "الموت لا معنى له بالنسبة للأحياء لأنهم أحياء، ولا معنى له بالنسبة للأموات لأنهم أموات".
ولكن كيف يحقق الإنسان سعادته بحسب فكر أبيقور؟... الإنسان يحقق سعادته عن طريق المتعة واللذة التي لا يترتب عليها اضطراب أو ألم. تقول "دكتورة أميرة حلمي مطر": "أما عن اللذة التي طلبها أبيقور لتكون أساس سعادة الإنسان... لم يتركها بغير قيود أو تنظيم بل عنى بتفسيرها تفسيرًا عقليًا. ففي رأيه أنه من الطبيعي للكائن الحي أن يسعى إلى طلب ما يسبب له اللذة وأن يهرب من كل ما يسبب له الألم وذلك بطريقة تلقائية لا تحتاج لبرهان. لكن السعادة لا تتم للإنسان إلاَّ بالحكمة والتعقل وبالفضيلة خاصة فضيلة الأمانة والعدالة"(232). وقسَّم "أبيقور" اللذة إلى ثلاثة أنواع:
أ- اللذات الطبيعية الضرورية: وعدم إشباعها تمثل ألمًا للإنسان، ومن هذه اللذات لذة الأكل ولذة النوم...
ب- اللذات الطبيعية غير الضرورية: مثل اللذات الحسية.
ج- اللذات غير الطبيعية وغير الضرورية: فهيَ لذات كمالية ينبغي الزُهد فيها، وهيَ مثل طلب طعام مُعيّن أو ملبس مُعيّن أو الإفراط في تعاطي الخمور.
ورأى "أبيقور" أن الحياة تصير أكثر متعة وسعادة إذا امتنعنا عن الرغبات غير الضرورية، ونقتني الطمأنينة الداخلية ونكتفي بالأشياء البسيطة، ونختار متعة المحادثات الفلسفية أو المحادثات حول العلوم أو الفنون مع الأصدقاء في أجواء الطبيعة الساحرة أفضل من الملذات الجسدية من طعام وشراب وجنس. وواضح هنا تأثر أبيقور بمدرسته "الحديقة" الكائنة في حديقته المشهورة حيث المناظر الطبيعية. وقال "أبيقور" أن الفيلسوف هو أسعد الناس جميعًا، فهو يختار لذات المعرفة المستقرة مع لذات الجسد المؤقتة والمتقلبة... إذا مارس الإنسان هذه التعاليم فإنه سيصبح "إلهًا بين البشر" لأنه سيصل إلى حالة خالدة حتى وهو في جسد مائت... الإنسان يفقد كل مظاهر الفناء عندما يعيش وسط بركات خالدة... وبسبب أفكار أبيقور وفلسفته أحبه الناس، ودعوه "المُنقذ" و"المُخلّص" وأثنوا عليه كثيرًا حتى أن "لوكريس" قال عنه بعد موته بمئتي عام: "إنه كان إلهًا، نعم أنه كان إلهًا، ذلك الذي كان أول من اكتشف وسيلة الحياة التي يسمونها الآن بالحكمة، ذلك الذي بواسطة فنه أنقذنا من عاصفة، وأية عاصفة هيَ! ومن ليل، وأي ليل هو! لكي يثبّت حياتنا في مقر هادئ أعظم الهدوء، ومنير أسطع النور"(233).
أما عن التساؤل: كيف تتفق حياة أبيقور الفاضلة مع فلسفته التي تسعى نحو اللذة؟ فالحقيقة أنه من الصعب التوفيق بين حياة أبيقور الفاضلة، وفلسفته التي تسعى لتحقيق السعادة عن طريق اللذة، وهل هو قصد اللذة البريئة فقط أم أنه أباح لذات البطن والتذوق والسمع والنظر والجنس، كما هو واضح من رسالته لأنصاره، ويُعلق على هذه الرسالة "د. محمد غلاَّب" فيقول: "إن هذه الرسالة قد احتوت على المبدأ الآتي وهو: أن غاية كل حي اللذة. وأوضح الأدلة على هذا أن الحيوان مدفوع بغريزته إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من اللذة وإلى الفرار من الألم. ولما كانت طبيعة الإنسان تشبه طبيعة الحيوان فقد وجب أن تكون اللذة مرمى الجميع، وأن تكون محاولة إبعاد الإنسان عن هذه اللذة هيَ محاولة لإقصاءه عن طبيعته... على هذا المبدأ تأسَّست الأخلاق الأبيقورية وهو مبدأ جلي صريح في جعل اللذة الجسمية غاية الحياة ومرماها. ولكنه صريح أيضًا في أن اللذة إذا وصلت إلى حد إحداث اضطراب في الجسم أو في الروح انقلبت رذيلة. غير أن خصوم "أبيقور" السيئي النية قد اتخذوا من هذا التصريح مستندًا لرميه في أخلاقه النظرية بأنه قال باللذة الحيوانية التي لا تقف عند حد، وفي أخلاقه العملية بالدعارة والمجون... أما الخصوم النزهاء... فقد اعترفوا بأن "أبيقور" كان في حياته العملية قنوعًا فاضلًا... وفي الحق أن التوفيق عسير بين حياة "أبيقور" العملية... وبين نظرياته الأخلاقية التي يقرر فيها بصريح العبارة أن اللذة التي يجعلها غاية الحياة هيَ اللذة الجسمية الخالصة التي يدعوها على غير حياء بلذة البطن"(234). كما قال "أبيقور": "أنا لا أستطيع أن أدرك الخير إذا ألغيت من الحياة لذائذ التذوق والسمع والنظر والمُتَع الجنسية"(235). وينتهي "د. محمد غلاَّب" إلى قوله: "من كل ما تقدم يتبين أن آراء "أبيقور" في الأخلاق النظرية مسفَّة وضيعة ترمي إلى إنزال الإنسان عن عرش إنسانيته إلى مستوى الأنعام، فتعتبر المثل الأعلى للحيوان مثلًا أعلى للإنسان، وتجزم بأن ما كان غاية للأول وجب أن يكون غاية للثاني، وهذا مُنتهى الضيعة والإبتذال"(236).
_____
(230) أورده د. محمد غلاَّب - الفلسفة الإغريقية، جـ 2 ص189.
(231) الفلسفة الإغريقية جـ 2، ص188، 189.
(232) الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص366.
(233) أورده د. محمد غلاَّب - الفلسفة الإغريقية، جـ 2 ص192.
(234) أورده د. محمد غلاَّب - الفلسفة الإغريقية، جـ 2، ص203، 204.
(235) المرجع السابق، ص205.
(236) المرجع السابق، ص208.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/664.html
تقصير الرابط:
tak.la/hd98ajr