س598: لماذا أدان السيد المسيح الرجل الغني ووصفه بالغباء مع أنه لم يفعل شيئًا رديئًا، بل كان يخطط للغد (لو 12: 16-20)، وكأن المسيح يحتقر الغنى ويكره الأغنياء؟ وهل في السماء ولائم وأطعمة (لو 12: 37، 14: 15)؟ وما معنى قول السيد المسيح: "وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" (لو 12: 50)؟ وهل هذه الآية مُرتبطة بما سبقها وما لحقها؟
ج: 1- لماذا أدان السيد المسيح الرجل الغني ووصفه بالغباء مع أنه لم يفعل شيئًا رديئًا، بل كان يخطط للغد (لو 12: 16-20)..؟ ليس العيب في الغِنَى، فالغِنَى يتيح لصاحبه أن يخدم الفقراء والمحتاجين، وأيضًا ليس العيب في اهتمام الغني وتخطيطه للغد ونظرته المستقبلية وتدبير أمر الغد، فلا يوجد تعارض بين النجاح في العمل والسعي نحو الملكوت، وليس هناك تعارض أيضًا بين حياة الطموح وحياة الاستعداد للملكوت، ولهذا فليس بالضرورة أن كل غني إنسان شرير، ولا أن كل فقير هو بالضرورة إنسان بار، فهناك أغنياء أبرار مثل إبراهيم وأيوب وسليمان، كما أن هناك فقراء أشرار، مثل العبد الذي سامحه سيده بعشرة آلاف وزنة ورفض أن يسامح أخيه المديون بمائة دينار: "فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ" (مت 18: 32).. التخطيط للغد أمر جيد وكريم ما دام الإنسان يُدخِل اللَّه في حساباته، والغد نوعان، فهناك الغد القريب في الزمن الحاضر وينصب على اليوم التالي الذي نعيشه أو ما بعده خلال هذه الحياة، وهناك الغد البعيد ويدخل في دائرة الحياة الأخرى الأبدية، ولسنا نملك هذا ولا ذاك، فالغد القريب قد يأتي ولا يجدني: "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ" (يو 7: 6) والغد البعيد ربما يكون قريب أكثر مما أتصوَّر، وعلى كلٍ فإن الإنسان الحكيم هو من يهتم بالأكثر بالغد البعيد ولا يترك أيضًا الاهتمام بالغد القريب، والحياة الأرضية مهما طالت مهما كانت سعادتها فهيَ لا تخلو من المتاعب والضيقات والآلام والأمراض، وواضح أن نظرة هذا الرجل الغني للحياة ككل نظرة مشوهة مزيفة، حتى أنه ظن أن حياته تكمن في غناه وممتلكاته، مع أن الغنى الحقيقي في الالتصاق باللَّه لم ينل شيئًا من اهتماماته، فعاش حياته طولًا وعرضًا بدون اللَّه، فكان من الطبيعي أن تنتهي حياته وهو بعيد عن اللَّه والمظال الأبدية.
ومن الملاحظات على هذا الرجل الغني، ما يلي:
أ– أنكر أفضال اللَّه عليه، فنسب ما حقَّقه من نجاحات لنفسه قائلًا: "غَّلاَتِي وَخَيْرَاتِي" مع أن الغنى هو هبة ووزنة من اللَّه منحنا إياها، فنشكره عليها، ونتاجر بها ونربح لحساب الملكوت.
ب– هذا الرجل الغني سقط في بئر الأنا، فانصب اهتمامه على نفسه: "وَأَقُولُ لِنَفْسِي يَا نَفْسُ.." وعاش في قلق واضطراب وكأنه إنسان فقير لا يجد قوت يومه. يقول "القديس كيرلس الكبير": "لذلك فما الذي فعله الرجل الغني، وهو مُحاط بوفرة من بركات كثيرة جدًا تفوق كل إحصاء؟ إنه ينطق في ضيق وقلق بكلمات الفقر، فهو يقول: "وماذا أعمل". إن الإنسان الذي في احتياج إلى الضروريات يبث باستمرار هذه اللغة البائسة، ولكن انظر هنا! أن واحدًا من ذوي الأموال غير المحددة يستخدم تعبيرات مشابهة. لقد قرر أن يبني مخازن أكثر اتساعًا، وعزم أن يُمتّع نفسه بمفرده فقط بتلك الموارد التي كانت تكفي مدينة مكتظة بالناس. إنه لا ينظر إلى المستقبل، ولا يرفع عينيه نحو اللَّه، ولم يحسبه أمرًا جديرًا بأن ينفق ماله من أجله ليربح لقلبه تلك الكنوز التي هيَ فوق في السماء، ولا يهتم بمحبة الفقير، ولا يرغب في التقدير الذي يحصل عليه من جراء هذا، ولا يتعاطف مع المتألمين، فهذا أمر لا يؤلمه ولا يُنهض فيه الشفقة وما هو أكثر من تلك مما هو غير معقول. أنه يقرّر لنفسه سنى حياته... يمكننا أن نقول لك أنت فعلًا تملك مخازن كثيرة (غلالك) ولكن من أين تحصل على سنين عديدة لنفسك..؟ لذلك، فإنه أمر حقيقي أن حياة الإنسان ليست من ممتلكاته"(293).
جـ- ظن هذا الغني أن روحه الخالدة التي جبلت على صورة اللَّه أنها تشبع من الأطعمة الجسدية: "وَأَقُولُ لِنَفْسِي يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي" (لو 12: 19) مع أن النفس البشرية لن تجد شبعها الحقيقي إلاَّ في اللَّه الذي جُبلت على صورته ومثاله، وهو مصدر حياتها وشبعها وفرحها. ويقول "القديس باسيليوس": "ويا لها من غباوة... هل أصبحت نفسك، أيها الغني، زريبة خنازير؟! ألا يوجد ما تعدها به سوى هذه الأمور؟! هل أنت حيواني بهذا القدر؟.؟ جاهل إلى هذا الحد، عن إحتياجات نفسك، حتى أنك تعدها بأطعمة جسدك؟!" (294).
د– لم يبال هذا الغني بالفقراء قائلًا: "وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِي" ولم يفكر أن يوزع ولو العُشر على الفقراء والمحتاجين، ولذلك يوصينا السيد المسيح في نفس الفصل قائلًا: "بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً" (لو 12: 33). يقول "القديس باسيليوس الكبير": "إنه لم يذكر إخوته في الخليقة، ولا حسب أنه يجب أن يُعطي من فائضه للمحتاجين. كانت مخازنه تتفجر من فيض المخزون، أما جشع ذهنه فلم يشبع بأية وسيلة... يقول: "أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي". حسنًا تفعل، فإن مخازنك الشريرة تستحق الهدم. تهدم مخازنك التي لا تُقدم راحة لأحد" (295). ويقول "القديس أمبروسيوس": "لك المخازن العديدة أحضان الفقراء والمعدمين... بيوت الأرامل والأيتام... أفواه الأطفاء الجائعين. هذه هيَ المخازن التي تتبعك إلى الأبدية، وتبقى معك للأبد" (296).
الإنسان الغير حكيم تنتهي آماله وأحلامه وخططه عند القبر، أما الإنسان الحكيم فهو الذي يستثمر أمواله استثمارًا روحيًا، ويقول "القديس أمبروسيوس": "إن أحضان الفقراء، وبيوت الأرامل، وأفواه الأولاد هيَ المخازن التي تبقى إلى الأبد" (297).
هـ- لم يُدخل هذا الغني ساعة الرحيل من هذا العالم في حساباته، بل ظن أنه سيعيش سنينًا كثيرة، وربما كان في مرحلة الشباب، حسنًا أن نعمل حسابًا للغد كأننا سنعيش طويلًا، وأيضًا حسنًا أن نعمل حسابًا للغد كأننا سنرحل سريعًا. الجسد سينتهي ويعود إلى التراب أما الروح فهيَ الخالدة، فكيف يهتم الإنسان بقشرة ثمرة البندق عن ثمرة البندق اللذيذة الطعم، ويهتم بالعلبة التي تحوي اللؤلؤة عن اللؤلؤة الكثيرة الثمن، ويهتم بالقارورة عن الناردين الذي تحتويه، ويهتم بالخيمة عن الساكن فيها، ولا يُحسب غبيًا جاهلًا؟!!
و– لقد وُصِف هذا الرجل بالغباء لأنه خسر أبديته من أجل أمور زائلة، ولربما نال إعجاب زملائه بأنه رجل حكيم لا ينظر تحت رجليه، إنما لديه النظرة المستقبلية نحو الغد، بينما هو في الحقيقة لم يكن حكيمًا على الإطلاق، فوُصِف بأنه "غبي" أي "جاهل"، فقد شابه العذارى الجاهلات (مت 25: 1-13) وسمع الصوت الإلهي: "يَاغَبِيُّ هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمن تَكُونُ؟" (لو 12: 20). ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "أنك تترك كل الأشياء هنا، فلا تخرج صفر اليدين فحسب، وإنما تخرج مثقلًا بحمل خطايا على كتفيك. وما جمعته هنا غاليًا، يقع في أيدي الأعداء، وفي نفس الوقت تطالب أنت به" (298).
وفي نهاية مَثَل "الغني الغبي" أوضح السيد المسيح الهدف منه قائلًا: "هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا ِللَّهِ" (لو 12: 21).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- هل في السماء ولائم وأطعمة (لو 12: 37، 14: 15)..؟ قال السيد المسيح عن العبيد الأمناء متى جاء سيدهم ووجدهم ساهرين مستعدين: "يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ" (لو 12: 37)، وفي هذا كان يتحدث بأسلوب مجازي: "لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ الله أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" (رو 14: 17)، ففي الملكوت السمائي لا يوجد طعام ولا شراب مادي ولا تزاوج وإنجاب: "لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ الله فِي السَّمَاءِ" (مت 22: 30) وبالطبع ملائكة اللَّه أرواح لا يحتاجون للطعام والشراب (راجع مر 12: 24، 25، لو 20: 34-36، 1 كو 15: 35-50). في الملكوت نتمتع بالفرح والسلام والبركات الروحية التي أعدها اللَّه لنا، وعلى قمة هذه البركات نعمة معاينة اللَّه في مجده. وقول السيد المسيح: "يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ" تعبر عن محبة المسيح واشتياقاته في أن يرى الجميع يسعدون معه بالملكوت، وعلى نفس المنوال قال مُخلصنا الصالح: "لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً" (لو 12: 35) والأحقاء الممنطقة تشير للاستعداد لعمل الخير وإتمام الخدمة، وكانوا في بلاد الشرق يرتدون الجلباب، ومن يشرع في السفر كان يرفع طرف رداءه الطويل ويشد وسطه بزنار، مما يساعده على سرعة الحركة (2 مل 4: 29، 9: 1، طو 5: 5) وهكذا من يشرع في العمل والخدمة (إش 11: 5) فالعبد يتمنطق لخدمة سيده، كما أن السرج المُوقدة تشير للسلوك في النور: "فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ" (يو 12: 35) كما تشير إلى إعلان نور بشارة الإنجيل والكرازة. أيضًا الأحقاء الممنطقة تشير إلى ضبط حواس الجسد، والسرج الموقدة تشير للمشاعر المُلتهبة، فالأحقاء الممنطقة مع السرج الموقدة يشيران لحياة الاستعداد والجهاد. الأمر المدهش أن العبيد ينتظرون سيدهم ليخدمونه، ولكن هنا نجد ما يفوق الخيال، وهو أن السيد هو الذي يتكئهم أي ينعم عليهم بالراحة ويخدمهم أي يمنحهم من نعمهِ ما يكفيهم... يا للمحبة الفائقة.
ويقول "القديس كيرلس الكبير": "لا يقل أحد أن السيد يريدنا أن نمنطق جسدنا، ونمسك بسرج في أيدينا (بالمعنى الحرفي) فإن هذا التفسير يناسب غباوة اليهود وحدهم، أما بالنسبة لنا فالأحقاء الممنطقة تعني استعداد الذهن للعمل بقوة في كل ما هو ممدوح... والسراج يمثل يقظة الذهن والفرح العقلي" (299).
أما قول أحد المتكئين في بيت الفريسي: "طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ الله" (لو 14: 15) فهو تعبير عن الشبع الروحي، لأنه لا يوجد خبز مادي في ملكوت السموات حيث أننا سنلبس أجسادًا روحانية، وهكذا يفسر الآباء جميع الآيات التي تتحدث عن الطعام والأكل في ملكوت السموات مثل قول السيد المسيح في سفر الرؤيا:
† " مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (رؤ 2: 7).
† " مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى" (رؤ 2: 17).
† " طُوبَى لِلْمَدْعُوِّينَ إِلَى عَشَاءِ عُرْسِ الْخَرُوفِ" (رؤ 19: 9).
3- ما معنى قول السيد المسيح: "وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" (لو 12: 50)؟ وهل هذه الآية مرتبطة بما سبقها وما لحقها..؟ قال السيد المسيح: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ"، وهو يقصد بالصبغة موته الفدائي على صليب العار، مثلما قال لابني زبدي: "أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا" (مت 20: 22). أما قول السيد المسيح: "وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" فربما يفسره قول بولس الرسول: "فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا. وَلكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ" (في 1: 23، 24) هكذا كان السيد المسيح يريد أن يجوز موت الصليب من أجل فداء البشرية، هذا من جانب ومن الجانب الآخر أن طبيعة المسيح البشرية تنفر من موت العار والفضيحة. عن رغبته في خلاص جنس البشر قال: "مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ" (عب 12: 2) وعن بشاعة موت الصليب كان يقول كثيرًا " يَنْبَغِي" أي يجب، ولا بد، وحتمًا " يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا وَيُرْفَضُ... وَيُقْتَلُ" (لو 9: 22).. " يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا" (مت 16: 21).. " يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يو 3: 14) (راجع يو 12: 34)، كما أنه قال: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ" (يو 12: 27)، وفي البستان صلى: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" (لو 22: 42).
وعبارة السيد المسيح: "وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" جاءت في "الترجمة اليسوعية": "وعليَّ أن أقبل معمودية الآلام وما أضيق صدري حتى تتم"، وفي "ترجمة كلمة الحياة": "ولكن لي معمودية عليَّ أن أتعمد بها. وكم أنا متضايق حتى تتم"، وفي ترجمة (NKJV):
" But I have a baptism to be bapetized with , and haw distressed I am till it is accomplished "
وترجمتها: "ولكن لدي معمودية لأعتمدها. وكم أنا متضايق حتى يتم ذلك".
إذًا معنى " كَيْفَ أَنْحَصِرُ" أي أنني لا أستطيع إلاَّ أن أتمم الفداء ولو كان عن طريق صليب العار"، ومعنى "حتى تُكمل" أي حتى تُكمَل قصة الفداء العجيب. ويقول "دكتور وليم إدي": "وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ: أي أنا بين أمرين متضادين أُريد كلا منهما، فهذه الحال كحال بولس المذكورة في رسالته إلى أهل فيلبي (في 1: 23). فإن يسوع كان يشتهي أن يُكمِل عمل الفداء بموته من أجل الخطاة، وكانت طبيعته البشرية تنفر من الآلام التي يقتضيها إيفاؤه الدين في العالم. وهذا المعنى يقرب من معنى الآية السابقة. وتفاعلات المسيح هنا كانفعالاته في بستان جثسيماني، والذي عبَّر عنه بالضيقة هنا عبَّر عنه بالكأس هناك (لو 22: 42، يو 12: 27)" (300).
وفي براعة يربط "القديس كيرلس الكبير" بين قول السيد المسيح: "وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" (لو 12: 50) وبين الآية السابقة: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ" (لو 12: 49) والآية اللاحقة: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ" (لو 12: 51) فيقول: "نحن نقول أن قوة الرسالة الإلهيَّة تشبه جمرة حيَّة وتشبه النار. ورب الكل قال في موضع ما لإرميا النبي: "هأَنَذَا جَاعِلٌ كَلاَمِي فِي فَمِكَ نَارًا وَهذَا الشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ" (إر 5: 14)، وأيضًا: "أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ يَقُولُ الرَّبُّ" (إر 23: 29). لذلك فبحق قال لنا ربنا يسوع المسيح: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ" (لو 12: 49). لأن بعضًا من الجمع اليهودي آمنوا به، وباكورة هؤلاء كانوا التلاميذ القديسين. والنار إذ تشتعل مرة فأنها حالًا ما تمسك بكل العالم، وفي الحال يصل التدبير إلى كماله سريعًا، أي أنه قد احتمل آلامه الثمينة على الصليب وأمر رباطات الموت أن تتوقف، لأنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات. وهو يعلمنا هذا بقوله: "وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" (لو 12: 50) ويقصد بصبغته موته بالجسد، ويقصد بكونه ينحصر بسبها، أنه كان حزينًا ومضطربًا إلى أن اكتملت، لأنه ماذا كان سيحدث حينما تكتمل؟ الذي كان سيحدث هو أن رسالة الإنجيل المخلّصة يُكرَز بها ليس في اليهودية فقط. وهو يقارن هذا بالنار عندما يقول: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ"، بل ينبغي أن تنتشر الآن في العالم كله... لذلك ها أنتم ترون أن تلك النار الإلهيَّة والمقدَّسة قد انتشرت في كل الأمم بواسطة الكارزين القديسين.
وقد تحدث المسيح عن الرسل القديسين والبشيرين، بواسطة أحد الأنبياء في موضع ما فقال: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَجْعَلُ أُمَرَاءَ يَهُوذَا كَمِصْبَاحِ نَارٍ بَيْنَ الْحَطَبِ وَكَمِشْعَلِ نَارٍ بَيْنَ الْحُزَمِ. فَيَأْكُلُونَ كُلَّ الشُّعُوبِ حَوْلَهُمْ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الْيَسَارِ" (زك 12: 6). وكأنهم أكلوا الشعوب كنار واغتذوا بالأرض كلها، وأشعلوا كل سكانها الذين "كما قلت" كانوا باردين وكانوا يعانون من موت الجهل والخطية. هل تريد أن ترى تأثيرات هذه النار الإلهيَّة والعقلية؟ اسمع إذًا مرة أخرى كلماته: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. كَّلاَّ، أَقُولُ لَكُمْ بَلِ انْقِسَامًا" (لو 12: 51). ومع ذلك فالمسيح هو سلامنا بحسب الكتب... (أف 2: 14، 15)" (301).
كما يقول "القديس كيرلس الكبير": "إن النار التي يلقيها المسيح إنما يلقيها لمنفعة البشر وخلاصهم. فليملأ اللَّه في قلوبنا. والنار هيَ رسالة الإنجيل الخلاصية ولهيب وصاياه. الإنجيل يجعل كل أهل الأرض متقدين. لقد كنا من قبل فاترين وأمواتًا بسبب الخطيئة وكنا نجهل من هو في الطبيعة إله حقًا، فجاء يسوع وقادنا إلى حياة التقوى، وجعلنا متقدين بالروح (رو 12: 11). كما يقول بولس المبارك جعلنا شركاء في الروح القدس... أن الكتاب المقدَّس المُلهم به من اللَّه يطلق اسم النار على الكلام الإلهي المقدَّس، وعلى قدرة الروح القدس وفاعليته فينا، فهو الذي يجعلنا متقدين بالروح" (302).
ويقول "القديس أمبروسيوس": "إن المحبة صالحة، ولها أجنحة من نار مشتعلة ترفرف في قلوب القديسين وصدورهم وتحرق كل ما هو مادي ودنيوي، لكنها تختبر كل ما هو طاهر. المحبة بنارها تجعل ما تلمسه طاهرًا. قد ألقى الرب يسوع هذه النار على الأرض، فتألقت بالإيمان، واتقدت بالتقوى، وأضاءت بالمحبة، ولمعت بالبر. بها أشعل قلوب رسله، كما يشهد كليوباس في قوله: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتب" (لو 24: 32). أن أجنحة النار هيَ لهيب الكتاب المقدَّس" (303).
لقد جاء مُخلِّصنا الصالح ليُلقي نارًا على الأرض وهو يريدها أن تضطرم. هذه النار هيَ نار الكرازة بكلمة الحق التي تطهر الإنسان، فتأكل الشرور والآثام: "وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ. وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ. لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ" (ملا 3: 2).. نار الروح القدس الناري الذي حلَّ على المجتمعين في شكل ألسنة نارية فبدَّد ظُلمة النفوس وجرد جحافل الظلام. يقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "إن "النار" التي جاء المسيح ليلقيها على الأرض، هيَ النار التي أنبأ بها يوحنا المعمدان "بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (لو 3: 16). هذه نار:
أ– الإحياء والتطهير والإلهاب للمؤمنين.
ب- وهيَ نار الإحراق، والتدمير، والتعذيب، لغير المؤمنين.
جـ- وهيَ بالتالي نار الانقسام الناشئ عن إصطدام قوات الظلام بقوات النور" (304).
(راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س326).
_____
(293) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص427، 428.
(294) أورده دكتور عزت زكي - تفسير بشارة لوقا لكتَّاب مشهورين، ص151.
(295) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص301.
(296) تعريب الدكتور عزت زكي - تفسير بشارة لوقا لكتَّاب مشهورين، ص150.
(297) أورده وليم ماكدونالد - الإنجيل بحسب لوقا، ص319.
(298) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص301.
(299) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص311.
(300) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 - إنجيلي مرقس ولوقا، ص266.
(301) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص450، 451.
(302) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص345.
(303) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص346.
(304) شرح بشارة لوقا، ص354.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/598.html
تقصير الرابط:
tak.la/xnhn539