س592: هل كان السيد المسيح متحيزًا لمريم، فلم يقبل شكوى مرثا ضدها (لو 10: 39-42)؟ وهل المقصود بـ" الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ" (لو 10: 42) الحاجة إلى طعام واحد؟
ج: 1- هل كان السيد المسيح متحيزًا لمريم، فلم يقبل شكوى مرثا ضدها (لو 10: 39-42)..؟ جاء يسوع إلى بيت مرثا ومريم وأخيهما لعازر في بيت عنيا، البيت الذي كان يجد راحته فيه، وكم كانت فرحة أهل البيت البسيط بالسيد المسيح، حتى أن مرثا اهتمت جدًا، ووصل اهتمامها إلى حد الارتباك، فهيَ تُريد أن تصنع وليمة تُقدِّم فيها كل ما تستطيع، والوقت لا يسعفها، أما أختها مريم فقد تسللت من المطبخ وجلست تحت أقدام مُخلصنا الصالح تتمتع بكلماته المعزية، فاشتكت مرثا أختها مريم: "فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ يَا رَبُّ أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي. فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي" (لو 10: 40)، ونلاحظ هنا الآتي:
أ– تعبير " فَوَقَفَتْ" ينم عن ضيقها وضجرها حتى أنها لم تتمالك نفسها، فتوقفت عن الخدمة لتصحح وضعًا تراه أنه خطأ... وهل جلوس مريم تحت أقدام المسيح خطأ؟!.! ربما يرى البعض هكذا ولسان حالهم يقول: لماذا هذا الإتلاف؟!!
ب- وجهت مرثا عتابًا للسيد المسيح الذي سمح لمريم أن تجلس عند أقدامه تتعلم ولم يطلب منها مساعدة أختها، وجاء عتابها بصورة خشنة: "يَا رَبُّ أَمَا تُبَالِي؟!!".
جـ- اشتكت مرثا أختها مريم ولم تحتملها بل لآمتها قائلة: "قَدْ تَرَكَتْنِي".
د– أظهرت مرثا خدمتها وتفاخرت بها: "أَخْدُمُ وَحْدِي" بينما قرَّعت أختها مريم أنها خذلتها وتركتها بمفردها في خدمة المداد والطعام.
هـ- طالبت مرثا بعودة أختها لخدمة المطبخ، فقال للسيد المسيح: "فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي".
فماذا كان رد السيد المسيح عليها؟
" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها مَرْثَا مَرْثَا أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لو 10: 41، 42) ونلاحظ هنا:
أ– إن السيد المسيح نادى مرثا بِاسمها مرتين " مَرْثَا مَرْثَا" ليُعيد لها طمأنينتها ويطرد عنها الارتباك والانزعاج.
ب- أوضح لها أنها اهتمت بالطعام البائد أكثر مما ينبغي، وهو الذي علَّم قائلًا: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّة" (يو 6: 27)، فقال لمرثا: "أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ"، والخدمة التي تؤدي للهموم والاضطرابات تصبح مصدر إزعاج أكثر من أن تكون مصدر فرح وبركة.
جـ- أوضح السيد المسيح أن أبسط طعام، حتى لو كان صنفًا واحدًا فهو يكفي أن يقوت الجسد " الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ"، وإن كانت هذه العبارة تشير للطعام إلاَّ أنها تشير بالأكثر ليسوع المسيح المن السماوي.
د– عندما عبَّرت مرثا عن حبها بطريقتها الخاصة لم يلومها السيد المسيح، ولكن عندما اشتكت على أختها ودخلت في مقارنات معها لجحفه بحقها، ووجهت اللوم للسيد المسيح نفسه: "يَارَبُّ أَمَا تُبَالِي؟!!" وكأنها تُريد أن تُعلمه ما ينبغي أن يفعله، عندئذ كشف لها السيد المسيح عن حقيقة الأمور. حتى ولو كان السيد المسيح في حاجة إلى الطعام لكن كان اهتمامه بخلاص النفس أهم وأكثر، فعندما أرسل تلاميذه ليشتروا طعامًا، والتقى بالمرأة السامرية التي أشبعته بتوبتها، وعاد التلاميذ ليقولوا له " يَا مُعَلِّمُ كُلْ" فماذا قال لهم؟ " طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ" (يو 4: 32، 34).
هـ- أوضح السيد المسيح لمرثا أن مريم عندما تركتها لم تهدر وقتها بلا فائدة، بل أنها اختارت النصيب الصالح، وليس معنى هذا أن مرثا اختارت النصيب الرديء، فليس مدح مريم يعني زمًا لمرثا، ولولا مرثا ما كانت مُدحت مريم... مريم من أجل محبتها للمسيح تركت الكل لترتبط بالواحد، ومرثا من أجل محبتها للمسيح انهمكت في إعداد الطعام له. اهتمت مريم بالشبع بالمسيح والإرتواء به، واهتمت مرثا بأن تُقدِّم أفضل ما لديها لتُشبِع المسيح... محبة مرثا للمسيح لا تقل عن محبة مريم له، فعندما علمت أن يسوع جاء بعد موت أخيها لعازر كانت أول من خرجت للقائه، والسيد المسيح لم يقصد أن يبكت مريم ويوبخها، إنما قصد أن يعلمها ويرشدها، بل ويرشد كل البشرية من خلالها... تحتاج الكنيسة لكل من مريم ومرثا، والكنيسة التي كلها مريمات ينقصها خدمة مرثا، والكنيسة التي كلها مرثوات ينقصها هدوء وعبادة مريم، ويقول "القس سمعان كلهون": "فلا نحسب مرثا دنيوية في أفكارها، بل كواحدة من أحباء المسيح الأتقياء أصحاب الكد والاجتهاد. وأما مريم فكانت ممن يحب الانفراد والتأمل. كانت مرثا في خطر من اهتمامها أكثر من اللازم بممارسة واجباتها... المسيح قبل خدمة كلتيهما... المسيحي الأكمل هو الذي يجتمع فيه الاجتهاد الخارجي ومحبة الانفراد والتأمل، واجتمعت الصفتان بكمالهما في المسيح، فإنه كان دائمًا يجول يصنع خيرًا، وأحيانًا يقضي كل الليل في الصلاة السرية والشركة مع أبيه السماوي" (268).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- هل المقصود بـ" الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ" (لو 10: 42) الحاجة إلى طعام واحد..؟ المعنى الحرفي يعني الحاجة إلى طعام واحد، ولكن لا يمكن أن أحدًا يغفل المعنى الروحي، فالواحد الذي لا غنى عنه هو ربنا وإلهنا ومُخلصنا يسوع المسيح المَن السماوي، ويؤيد هذا التفسير الروحي قول السيد المسيح عن مريم أنها اختارت " النَّصِيبَ الصَّالِحَ" وهذا النصيب الصالح هو اقتناء المسيح ذاته. ويقول "دكتور وليم إدي": "الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ: يحتمل هذا الكلام معنيين، الأول: الحرفي وهو أنكِ تعيدين أشياء كثيرة لخدمتي ضيفًا ولكني لا أحتاج إلاَّ إلى قليل أو صنف واحد من الأطعمة.
والثاني: المعنى الروحي وهو العناية بالنفس، أو الإصغاء لصوت المسيح الذي هو الوسيلة إلى ذلك، أو قبول المسيح نفسه في القلب بالإيمان بدلًا من قبوله ضيفًا يُخدَم بأمور كثيرة، فمن الخطأ أن نُقصِر مراد المسيح مع الأول لأنه لا بد أن يكون قد قصد الثاني فتكلم مما يصدق على الاثنين، لكي ينبه بالمعنى الحرفي على المعنى الروحي" (269).
ويقول "وليم باركلي": "حاولت مريم أن توفر ليسوع ما أراد (من جو الهدوء والسكينة) بينما أفسدت مرثا الفرصة عن حُسن نية، إذ بالغت في إكرامه ولكن "الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ" أي أن يسوع لا يُريد من الطعام الكثير بل البسيط... هذا ما فهمته مريم ولم تدركه مرثا... أحب يسوع مرثا ومرثا أحبته، وعندما فكرت في إكرامه فكرت بطريقتها التي لم تناسبه، وقد أحب يسوع مريم، وأحبته مريم، ولكن مريم أدركت فكره" (270).
وجاء في "الموسوعة الكنسية": "أوضح المسيح أنه يكفي صنف واحد أو الطعام الضروري، ومن ناحية أخرى فإن مريم اختارت النصيب الصالح الأفضل، وهو سماع تعاليمه، عن الانهماك في الأعمال المادية، وهذا الاختيار هو الذي يُشبع النفس ويخلصها إلى الأبد. لن ينزع، فمحبة المسيح تدوم في القلب وتؤهل المسيحي إلى الملكوت الأبدي، ولا تغني مثل الأطعمة والماديات. أن مرثا ترمز للخدمات المادية والأعمال البشرية المُفيدة في كل مجالات الحياة. أما مريم فترمز لمحبة كلام اللَّه والتأمل فيه، وهذا هو الأهم، ولا تخلص النفس بدونه. فمع تقدير المسيح للأعمال العالمية المُفيدة وكل الخدمات المادية، مثل مساعدة المرضى والمسنين، وإعالة الفقراء ماديًا، لكنها لا تغني الخادم أو الإنسان الروحي في علاقته الشخصية بالمسيح في الكنيسة من خلال الأسرار المقدَّسة والصلاة وقراءة الكتاب المقدَّس والعظات الروحية" (271).
_____
(268) إتفاق البشيرين، ص340.
(269) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 - إنجيلي مرقس ولوقا، ص245.
(270) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص184.
(271) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد جـ 2 بشارتي لوقا ويوحنا، ص130.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/592.html
تقصير الرابط:
tak.la/m5aw36t