س574: كيف يختار اللَّه أحد العشارين ليكون تلميذًا له (لو 5: 27، 28)؟ وما سبب كراهية الكتبة والفريسيين للعشارين (لو 5: 30)؟ وهل السيد المسيح هو رجل الأحزان (إش 53: 3) أم أنه العريس مبعث الفرح والسرور (لو 5: 34)؟
ج: 1- كيف يختار الله أحد العشارين ليكون تلميذًا له (لو 5: 27، 28)..؟ قال القديس لوقا: "وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ فَقَالَ لَهُ اتْبَعْنِي. فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ" (لو 5: 27، 28).. كانت نظرة اليهود للعشار أنه إنسان خاطئ وأثيم، عبد للمال، باع أهله وشعبه للرومان من أجل الدنانير التي تدخل إلى جيبه، ولذلك كأن أمر عجيب على اليهود أن يقبل السيد المسيح إنسانًا عشارًا مرفوضًا من المجتمع اليهودي ومنبوذ، بل ويدخل إلى بيته ويأكل معه، بل أكثر من هذا وذاك يختاره تلميذًا له. يقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "إن اختيار السيد المسيح لمتى ليكون تلميذًا له: "ينزل بسمعة المسيح وأتباعه إلى الحضيض لأن البحر متى تلوثت مياهه عن منبعه، صارت على الناس ويلًا ووبالًا وموتًا. ولكن اللَّه الذي يُخرج نورًا من ظُلمة، والذي يوجد الألماس اللامع من الفحم الأسود، والذي يُنبت النرجس من البصل. أن اللَّه الذي يُجري هذه المعجزات في دائرة الطبيعة، قد مدَّ يده السحرية العجيبة وأتم معجزة أخرى في دائرة الروح، وقال لمتى "اتْبَعْنِي" فصار هذا العشار كاتب البشارة التي بها يفتتح العهد الجديد" (158).
وجاءت استجابة العشار تفوق التصور، فالمُحب للمال ترك ماله وكل شيء وقام وتبعه، وصنع له وليمة عظيمة تحمل معنى تغيير الاتجاه واشتياقات القلب من الأخذ إلى العطاء، ومن الأنانية إلى البذل، بعد أن قام من موت الخطية إلى جدة الحياة، وتبع يسوع المسيح في إيمان كامل من دعاه من الظُلمة إلى نوره العجيب، وفي دعوته لأصدقائه العشارين قام ببكورة عمل الخادم... فهل بعد هذه النتائج المُبهرة يحتج أحد على السيد المسيح أنه اختار عشارًا من بين تلاميذه... لو بقى العشار على حاله لحق لهذا المُحتج احتجاجه. أما وقد تغيَّر الوضع تمامًا من الخطأ للصواب، ومن اليسار لليمين فلا مجال هنا للاحتجاج... أننا أمام القديس العظيم متى الإنجيلي الطاهر والشهيد، ولسنا أمام متى العشار (راجع أيضًا مدارس النقد عهد جديد جـ 4 س307).
2- ما سبب كراهية الكتبة والفريسيين للعشارين (لو 5: 30)..؟ يقول القديس لوقا: "فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ" (لو 5: 30).. العشار هو مُحصل الضرائب، وتحصيل الضرائب في حد ذاته لا عيب فيه، ولا يُمثل أي خطية، بدليل أنه عندما ذهب بعض العشارين ليوحنا المعمدان: "فَقَالُوا لَهُ يَا مُعَلِّمُ مَاذَا نَفْعَلُ. فَقَالَ لَهُمْ لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ" (لو 3: 13)، وعندما سأل بعض الفريسيين والهيرودسيين السيد المسيح عن الجزية قال لهم: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللَّهِ لله" (مر 12: 17) فهو لم يمنع أداء الضريبة الواجبة. وبينما نظر اليهود للعشارين نظرة ازدراء وحقد وغضب، فإن السيد المسيح نظر إليهم على أنهم مرضى، ولهذا قال للفريسيين: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ" (لو 5: 31، 32) ومتى نال أحدهم الشفاء وتحرَّر من المال يتغير من لاوي المكروه إلى القديس متى الإنجيلي والشهيد، ويقول "القديس كيرلس الكبير": "ما جاء المسيح قاضيًا للحكم، بل طبيبًا للشفاء، وذلك كان إلزامًا عليه وهو طبيب أن يقترب من المرضى لشفائهم من أمراضهم" (159).
وسبب كراهية اليهود للعشارين إنهماكهم بمحبة المال التي تصل إلى حد العبودية، فسعوا إلى تكوين ثروات ضخمة من عرق ودم الشعب. كانوا يدفعون مبلغ مُعين للحاكم، ويجتهدون لجمع أضعافه، وقد أُنتزعت الرحمة من قلوبهم، فلا تأخذهم الشفقة على أحد، ولأنه كان لديهم سلطة الضبطية القضائية فمن يتقاعس عن دفع الجزية كانوا يُضايقونه ويأذونه ويزجون به في السجن، وكان تقدير الضرائب يتم من قِبَل العشار بطريقة جزافية مُبالغ فيها، وكان العشارون يفرضون ضرائب على العربات التي تحمل البضائع بناءً على عدد العجلات التي تحمل العربة، وعدد الخيول أو الدواب التي تجرها، وكانوا يفتشون حقائب المسافرين وأحيانًا يلزمون التجار بفرش كل البضائع التي يحملونها على الأرض، وإذا عجز التاجر عن دفع الجزية المُبالغ فيه يُساومه العشار لكي يؤجل السداد مع فرض ربا عليه، ولهذا كره الناس العشارين ووضعوهم في مصاف الأمم الوثنية، والخطاة (لو 5: 30) والزناة (مت 21: 31) ومنعوهم من دخول المجامع، ونبذوهم فلا يتعاملون معهم ولا يدخلون بيوتهم. ويقول "القس ليون موريس" عن تحصيل الضرائب في منطقة الجليل: "لا بد أن النظام الروماني الخاص بأعضاء حقوق تحصيل الضرائب كان لا يزال قائمًا، على الرغم من أن الضرائب في هذه المنطقة كانت تُدفع لهيرودس أنتيباس الذي خصص له الرومان العائدات (يوسيفوس). والضرائب التي كان لاوي يجمعها من المحتمل أنها كانت فلوسًا أو ضرائب جمركية أو ضرائب الرؤوس أو ما شابه ذلك. وكان مُحصلوا الضرائب مكروهين بدرجة كبيرة كمتواطئين أو مُبتزين وهم كفئة أُعتبروا خونة، ويصفهم التلمود كلصوص. لقد رأى يسوع لاوي ولم يقل شيئًا سوى "اتْبَعْنِي"، فما كان من لاوي إلاَّ أنه "تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ" (وهذا أمر لم يذكره سوى البشير لوقا فقط) "وَتَبِعَهُ". وربما كان هذا يعني تضحية كبيرة، لأن مُحصلي الضرائب كانوا عادة من الأثرياء. ولا بد أن متى كان أغنى التلاميذ قاطبة. ولا ينبغي أن نتغافل عن البطولة الهادئة في هذا العمل" (160).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل يسوع المسيح هو رجل الأحزان (إش 53: 3) أم أنه العريس مبعث الفرح والسرور..؟ من المعروف أن الأصحاح الثالث والخمسين في سفر إشعياء هو أصحاح آلام المسيح، فهو يصوّر السيد المسيح في آلامه الفدائية، حتى قال عنه: "لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ.." (إش 53: 2، 3). ولكن ليست آلام المسيح مثل آلامنا، لكنها آلام مُعزية ومُفرحة أثمرت لنا الخلاص الأبدي، وهذا ما دعى بولس الرسول للقول: "نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ" (عب 12: 2)، فالسيد المسيح هو عريس البشرية، وبالرغم من أنه رجل أحزان إلاَّ أنه يفيض فرحًا، ودعوته للملكوت دعوة مُفرحة جدًا، وهل هناك شيء أعظم من أن يكون للإنسان المحكوم عليه بالموت والعذاب الأبدي نصيبًا في ملكوت العريس السمائي؟!.! للأسف أن البعض من المسيحيين يرى أن المسيحية ديانة الألم والتزمت، ولا يرون فيها قول الكتاب: "لأَنَّهُ بِكَآبَةِ الْوَجْهِ يُصْلَحُ الْقَلْبُ" (جا 7: 3) فيعبسون وجوههم ويقطّبون جبينهم، ويجهلون أن المسيحية هيَ نبع الفرح والبهجة والسرور، فرحة السجين الذي نال حريته، وبهجة النجاة من حُكم الموت، والسرور بالحياة الأبدية.
وزمن العريس هو زمن الشفاء والفرح والحرية، الذي تنبأ عنه إشعياء النبي:
† " وَيَسْمَعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ. وَيَزْدَادُ الْبَائِسُونَ فَرَحًا بِالرَّبِّ وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ النَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ" (إش 29: 18، 19).
† " حِينَئِذٍ تَتَفَقَّعُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ لأَنَّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ فِي الْبَرِّيَّةِ مِيَاهٌ وَأَنْهَارٌ فِي الْقَفْرِ" (إش 35: 5، 6).
† " لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ" (إش 61: 1، 2).
عندما قبض هيرودس على يوحنا المعمدان وسجنه، أكثر تلاميذ يوحنا من الصوم، ونظرًا للعلاقة القوية بين السيد المسيح ويوحنا، توقع تلاميذ يوحنا أن تلاميذ يسوع يُشاركونهم الأصوام لكي يحصل مُعلِّمهم على الحرية، ولهذا قالوا للسيد المسيح: "لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيرًا وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ" (مت 9: 14)، فحل السيد المسيح هذه الإشكالية موضحًا لهم أنهم يصومون بسبب غياب مُعلِّمهم، وستأتي أيام حين أُغيب عن تلاميذي فحينئذ يصومون " سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ" (لو 5: 35)، وفعل " يُرْفَعُ" في الأصل اليوناني يحمل معنى أُخذ وابتعد وخُطف، وبحسب قول النبوءة قُطِع: "وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ" (إش 53: 8)، فقول السيد المسيح "حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ" يتضمن نبوءة عن آلامه ورفعه على الصليب وموته وقيامته وصعوده.
_____
(158) شرح بشارة لوقا، ص123.
(159) أورده القس أنجيليوس جرجس - يوميات مع كلمة اللَّه - إنجيل لوقا، ص126.
(160) ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص120.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/574.html
تقصير الرابط:
tak.la/b35gr2y