س307: من الذي دعاه المسيح عند مكان الجباية؟ هل هو "متى" (مت 9: 10) أم أنه "لاوي" (مر 2: 14، لو 5: 27)؟ وهل "لاوي بن حلفى" (مر 2: 14) هو أخو "يعقوب بن حلفى" (مت 10: 3)؟ وكيف يدعو المسيح عشارًا مرذولًا من بني جنسه ليكون تلميذا له؟ وكيف يدخل المسيح بيتًا امتلأ بالعشارين والخطاة (مت 9: 10) حتى تلسن عليه الفريسيون (مت 9: 11)؟ ومن أين أقام متى هذه الوليمة بعد أن ترك كل شيء (لو 5: 28)؟ (راجع السيد سلامة غنمي - التوراة والأناجيل بين التناقض والأساطير ص370).
ج: 1ــ دعا السيد المسيح "متى" العشار من مكان الجباية، ومتى هذا له اسم آخر وهو "لاوي"، ومعنى اسم "متى" عطية اللَّه، وهو الاسم الذي دوَّنه القديس متى عن نفسه، أما القديسين مرقس ولوقا فقد سجلا اسمه الآخر "لاوي"، ولا عجب في هذا فكثيرون ممن ذكروا في الكتاب المقدَّس كان لهم اسمان، مثل إبرآم وإبراهيم، ويعقوب وإسرائيل، وجدعون ويربعل، وسليمان ويديديا، وبطرس وسمعان، وتوما والتوأم، ومرقس ويوحنا، وشاول وبولس... إلخ، و"حلفى" والد لاوي (متى) غير "حلفى" والد يعقوب، إذًا لم يكن متى ويعقوب أخين، وإنما كان كليهما تلميذين للمسيح، وهذا التساؤل عتيق الأيام حتى أنه أُجيب عليه سنة 1900م، فجاء في "كتاب الهداية":" (107) قال ورد في (مت 9: 9) الذي دعاه المسيح عند مكان الجباية هو متى، وورد في (مر 2: 14) بأن اسمه لاوي بن حلفى، وورد في (لو 5: 27) أن اسمه لاوي.
قلنا أن القرائن المعنية التي ذكرها كل منهم تدل على أن الشخص واحد فكل منهم ذكر وظيفته المشهور بها وقال أنه كان جالسًا عند مكان الجباية، وأن المسيح دعاهُ إلى إتباعِه وأختارهُ ليكون من الحواريين، فترك كل شيء وتبعه.
(ثانيًا) كثيرًا ما يُسمى الشخص باسمين فبطرس يُسمى سمعان ويُسمى صفا، وتقدم أن أبابكر غيَّر اسمه عند إتباعه محمدًا، والمعهود بيننا للآن أنه إذا انتقل الإنسان من حالة إلى أخرى غيّر اسمه إشارة إلى رفض الحالة السابقة بأذيالها وأطرافها.
(ثالثًا) إقتصار بعض الحواريين على ذكر اسمه بدون ذكر اسم أبيه إكتفاء بالقرينة المعينة للمراد وهو ذكر صناعته وظروفه الخصوصية وهيَ قوله أنه كان جالسًا عند مكان الجباية. ثم أن حلفى أبا يعقوب هو غير والد لاوي" (784).
2ــ كانت الحكومة الرومانية توكل بعض الأشخاص لتحصيل الضرائب الباهظة، ويحصُل مُحصِل الضرائب على نسبة معينة تقريبًا 10%، أي يأخذ عُشر ما يُحصله، وربما من هنا جاءت تسميته بالعشار، ولكيما يحصُل على مبلغ أكبر كان يُبالغ في تقدير الضريبة، فكلما ارتفعت حصيلة الضرائب كلما ازداد دخله، وكانت الحكومة تعضده في اتخاذ كافة أساليب القهر لتحصيل الضرائب، فعُرِف العشارون بالظلم والاستبداد، وكانت هناك أنواع عديدة من الضرائب:
أ - ضريبة الأرض: وهيَ ضريبة عينية تمثل عُشر المحصول من الغلال وخُمس المحصول من الفواكه، ومن الممكن أن تُدفع نقدًا.
ب - ضريبة الدخل: تمثل 1% من دخل الإنسان السنوي.
ج - ضريبة الرأس: وتُفرض على الأشخاص، الابن من سن أربعة عشر عامًا، والابنة من اثنى عشر عامًا.
د - الضرائب على التجارة: وتتراوح من 2,5% إلى 12,5%.
هـ - ضرائب العبور: وتُفرض على العابرين بعض الطرق والقناطر والمواني.
و - ضرائب على المواشي والعربات.
فكان المجتمع يئن تحت ثقل هذه الضرائب، وكره الشعب العشارين وقرنوا أسمائهم بأسماء الخطاة، فطالما وضع هؤلاء العشارون البعض في السجون، كما أعلنوا إفلاس البعض واستباحوا أملاكهم، وكان اليهود لا يقبلون العشارين في المجامع على الإطلاق.
ورأى اليهود في "متى" إنسانًا مكروهًا عشارًا، عميلًا للمحتل الروماني، خائنًا لوطنه، قاسيًا على إخوته، عابدًا للمال. أما السيد المسيح فقد كانت له نظرة مختلفة لأنه يعرف ما في الإنسان، فيستطيع أن يرى الصلاح وسط ركام الفساد، والذهب في طيات الأرض، ولذلك قال لمتى العشار: "اتبعني"، وللوقت ظهر إيمان متى العشار في طاعته السريعة وعدم تردُّده لحظة، وللوقت ترك كل شيء، عمله ومكان العمل، وتبع المُعلم الصالح، فأثبت فعلًا أنه ابن إبراهيم، فطاعته شابهت طاعة أبيه عند دعوة اللَّه له، وكان لكليهما الإيمان ليتبعا المجهول، حتى أنك لو سألت متى: لقد تركتَ كل شيء، فألى أين؟! فأنه يعجز عن الإجابة... أنها مغامرة، فقد ترك عمله الذي لا يستطيع العودة إليه ثانية، بينما التلاميذ صيادي الأسماك متى شاءوا عادوا إلى مهنتهم، وهذا ما لاحظناه بعد القيامة: "قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ. قَالُوا لَهُ نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكَ" (يو 21: 3). وفي الحقيقة إن كان متى قد خسر كل شيء، البيت المريح والربح الوفير والغنى وربما بعض الأصدقاء، لكنه ربح تبعية ملك الملوك ورب الأرباب، وهو لا يدري ساعة دعوته أنه أمام رب الصباؤوت، وقلم العشار الذي طالما ظلم به الناس، سجل به القديس متى كلمة الحياة، فدوَّن إنجيله الذي طالما أنار وينير الطريق للملكوت.
3ــ العشارون والخطاة فئتين مكروهتين لدى الشعب اليهودي، ولا سيما الفريسيون الذين ينظرون لهؤلاء باحتقار وإزدراء شديد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ومع هذا فأنه من أجل هؤلاء جاء السيد المسيح، أما الفريسيون فقد نظروا لمحبة ومجالسة المسيح لهم كأنه نقيصة أو سُبة، وترفعوا عن حضور مثل هذه الولائم، ولكنهم وقفوا كرقباء يحدقون في الأمور ويدينون الديان العادل، ويشتكونه لتلاميذه: "لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ" (مت 9: 11) لعلهم ينجحون في دفع التلاميذ للتذمر والثورة على معلمهم، فهذه هيَ طريقتهم في زرع الخصام، فهنا يشكون المعلم لتلاميذه، وفي مواضع أخرى يشكون التلاميذ لمعلمهم: "وَقَالُـوا لَهُ لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ" (مر 2: 18)، وعندما جاع التلاميذ وأكلوا من سنابل الحقل: "فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ انْظُرْ لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ" (مر 2: 24).
وربما خشى الفريسيون مواجهة المعلم فاشتكوه لتلاميذه: "فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيب بَلِ الْمَرْضَى. فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ" (مت 9: 12، 13)، فقد اهتم هؤلاء الفريسيون بمظهر القداسة الظاهري عن خلاص الخطاة، وما زال بعض النُقَّاد يحملون تلك النظرة الفريسية، نظرة الكبرياء والتعالي، أما اللَّه فما زال يقبل المرضى وينعم لهم بالشفاء، ويقبل الخطاة وينعم عليهم بحياة القداسة، وما زال يفضل الرحمة عن ذبائح المضروبين بالبر الذاتي.
4ــ قال القديس لوقا عن "لاوي": "فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ" (لو 5: 28)، وكان متى حينئذ: "جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَة" (مت 9: 9)، فالمقصود أنه ترك مكان الجباية، وترك عمله، ولكنه لم يكن قد ترك بيته الكبير بكل محتوياته بعد، وما زال في بيته بعض الأموال، ولذلك تمكن من صنع هذه الوليمة العظيمة كعرفان بالجميل لمعلمه، وكفرصة لدعوة أصدقاء المهنة ليتذوقوا ما ذاقه فعلًا، إذ أن كلمة " اتبعني " الذي نطق بها مخلصنا الصالح اقتلعت من قلبه محبة الفضة، بل اقتلعته من حياته السابقة وألقت به في حضن المعلم الصالح، وكأن القديس متى يعيد أمامنا قصة السامرية التي التقت بالمسيح: "فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ. هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِـي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ" (يو 4: 28، 29).
ويقول "الأب متى المسكين": "كانت هذه وليمة وداع الوظيفية وزملاء العمل الذي حضروا جميعًا ليباركوا له دعوته واختيار اللَّه له، مما يدل على أنه كان محبوبًا ومحترمًا بين زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه. وهكذا جذبت الوليمة حتى الخطاة بمعنى الزناة أيضًا... أن المسيح جاء من أجل هؤلاء الخطاة والعشارين والبؤساء الذي يطلبون الحياة. منظر عجيب ومُذهل، الرب القدوس جالس وسط زمرة من العشارين والخطاة والزناة يكسر الخبز ويمرّر كأس حبه المشهور على محبيه الجالسين حوله في ألفة ومسرَّة ودالة وعشق منقطع النظير" (785).
_____
(784) الهداية جـ 1 ص277 ، 278.
(785) الإنجيل بحسب القديس متى ص329.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/307.html
تقصير الرابط:
tak.la/nrdvha3