س572: إن كان من المفروض أن الأبرص يعتزل المجتمع ويُقيم خارج المنطقة السكانية فكيف إلتقى الأبرص بالسيد المسيح في إحدى المدن (لو 5: 12)؟ ولماذا جاء الفريسيون ومعلموا الناموس من كل قرية في الجليل واليهودية وأورشليم، وما معنى أنه: "كَانَتْ قُوَّةُ الرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ" (لو 5: 17)؟ وهل قول لوقا أن أصدقاء المفلوج: "دَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الأَجُرِّ" (لو 5: 19) يخالف للواقع لأنهم لم يعرفوا في فلسطين الأَجَّر؟
ج: 1- إن كان من المفروض أن الأبرص يعتزل المجتمع ويُقيم خارج المنطقة السكانية فكيف إلتقى الأبرص بالسيد المسيح في إحدى المدن (لو 5: 12)..؟ قال لوقا الإنجيلي عن السيد المسيح: "وَكَانَ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ فَإِذَا رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصًا. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ.." (لو 5: 12). كانت الشريعة توجب على الأبرص أن يترك أسرته وبيته ويُقيم خارج المنطقة السكنية، مُنعزلًا عن الناس حتى لا يكون سبب عدوى للآخرين (لا 13)، فكان الناس يشمئزون منه ويهربون من أمامه، وإذا اقترب الناس دون قصد من المنطقة التي يُقيم فيها الأبرص، كانت الشريعة توجب على الأبرص أن يصيح " نَجِسٌ نَجِسٌ" (لا 13: 45) حتى ينبه القادم فيبتعد. وبلا شك أن الأبرص كان يقع تحت ضغط نفسي هائل من جراء هذا العزل وذاك الرفض والاشمئزاز والهرب منه، حتى أن "د. مكدونالد" Mad Donald الذي أقام مستعمرة لمرضى البرص في "إتو" بالولايات المتحدة، قال: "البرص مرض نفسي كما هو جسدي. لأن حالة المريض بالبرص تختلف عن حالة أي مريض بمرض آخر، إذ يصاحب الخجل والخوف والإحساس بالذنب المريض باستمرار. ولاشمئزاز الناس منه وابتعادهم عنه خوفًا من العدوى، كثيرًا ما يُفكر الأبرص في الانتحار فعلًا"(153).
وواضح أن هذا الرجل الأبرص كان لديه إيمان قوي في قدرة يسوع على شفائه لذلك تجرأ واقتحم المدينة وإلتقى بيسوع، وقد فعل هذا بالرغم من أن حالته كانت متأخرة وقد استشرى المرض في جسده، فوصفه القديس لوقا بأنه: "رَجُلٌ مَمْلُوءٌ بَرَصًا". كان برصه شديدًا ولكن كان إيمانه أشد وأقوى، والدليل على قوة إيمانه أنه لم يقل للسيد المسيح "هل تقدر أن تطهرني؟"، إنما قال له: "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي"، فقد كان متأكدًا تمامًا من قدرة يسوع على شفائه، ولكن أراد أن يطمئن من جهة إرادته، فقال له: "إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي".. وأيضًا لم يقل له: "تقدر أن تشفيني" بل قال له: "تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي" لأن الأبرص هو نجس في نظر الناس، وهذا كان أشد ما يؤلمه، ولهذا بحث عن تطهيره أكثر من بحثه عن الشفاء. ومن المُلاحظ أيضًا أنه من أدب لوقا الطبي أنه لم يذكر اسم المريض، ولا مكان مسكنه، لأن البرص مرض مُشين يشير للخطية، فكل منهما ينجس الإنسان، ولذلك كان الأبرص يشق ثيابه ويكشف رأسه ويُغطي شاربه، ولو أطلَّ برأسه في بيت فإنه ينجس هذا البيت، وكل من البرص والخطية يشوه جمال الإنسان، وكل منهما يخلف وراءه آلامًا نفسيه قاسية، بل أن الأبرص والخاطئ كليهما في حُكم الميت: "وَأَمَّا الْمُتَنَعِّمَةُ فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ" (1 تي 5: 6). وفي العصور الوسطى كان المسيحيون يُصلون على الأبرص صلاة الموتى علامة على أنه محكوم عليه بالموت. وكل من الأبرص والخاطئ يحتاج للمسة إلهيَّة لشفائه، فعندما ضُربت مريم أخت موسى بالبرص، لم يستطع موسى رئيس الأنبياء أن يفعل معها شيئًا، بل أنه صرخ: "اللّهُمَّ اشْفِهَا" (عد 12: 13)، وعندما طلب ملك آرام من ملك إسرائيل أن يشفي نعمان السرياني، مزَّق ملك إسرائيل ثيابه قائلًا: "هَلْ أَنَا الله لِكَيْ أُمِيتَ وَأُحْيِيَ" (2 مل 5: 7) فاللَّه هو الذي يشفي الأبرص الذي هو في حكم الميت، فالشفاء من البرص يُحتسب قيامة من الأموات (راجع مدارس النقد - عهد جديد جـ 6 س496).
والأمر الذي جعل الرجل يندهش أن السيد المسيح مدَّ يده ولمسه، فمنذ أن إجتاحه البرص حرمه من أي لمسة من أي إنسان سواء كان قريب أو بعيد، حتى جاءت اللمسة الإلهيَّة الحانية الشافية فأزالت كل الآثار النفسية التي خلَّفها هذا المرض، فنال الشفاء النفسي والجسدي. ويجب أن نؤكد أن السيد المسيح عندما لمس الرجل لم يكسر الناموس الذي منع لمس الأبرص (لا 5: 13). لقد هرب البرص من أمامه، فهو شمس البر الذي تهرب الظلمة من أمام وجهه. إذًا نستطيع أن نقول أن السيد المسيح لمس الرجل بعد أن طهر، فبلمسه إياه دلَّل على أن الرجل نال الشفاء، وفي لمسه لرجل طاهر فهو لم يكسر وصية الناموس. ثم أوصى يسوع هذا الرجل الذي شُفي من برصه أن لا يقل لأحد، بل يمضي ويُري نفسه الكاهن ويقدم الذبيحة عن تطهيره بحسبما أوصيت الشريعة " شَهَادَةً لَهُمْ".. فلماذا نهاه عن أن يُخبر أحدًا، بل يُري نفسه للكاهن " شَهَادَةً لَهُمْ"؟:
أ- لأن الناموس أوصى أن لا أحد يلمس الأبرص بعد شفائه إلاَّ بعد أن يحكم الكاهن بأنه قد تماثل للشفاء الكامل وأنه طاهر.
ب- لكي يأخذ هذا الرجل فرصته ليتأمل في عِظَم المراحم الإلهيَّة، فلا ينشغل بأحاديث جانبية مع الناس، مُتغافلًا عِظَم المعجزة.
جـ- لو رآه الكهنة يخالط الآخرين لآثار هذا حسدهم، وربما يتهمه الكاهن بأنه لم ينال البرء الكامل من دائه.
د– أراد السيد المسيح أن الجموع تعرفه على أنه الفادي والمُخلص، أكثر من أنه صانع الآيات والمعجزات.
هـ- ليعلمنا أن نهرب من المجد الباطل.
و– حتى لا ينشغل الرجل بالعودة إلى أسرته، والاحتفال بشفائه ويتقاعس عن الذهاب للكاهن، فلا تصل للكاهن تلك الشهادة الحيَّة الناطقة بقدرة يسوع الشفائية، فهو المسيا ابن اللَّه الحي... , " شَهَادَةً لَهُمْ" أي أن السيد المسيح لم ينقض ولم يُحطم الشريعة، إنما أوصى الرجل الذي نال الشفاء أن يذهب للكاهن الذي كان بمثابة مفتش الصحة، فهو الذي يُعلن شفائه، كما أوصاه أن يُقدم الذبيحة عن تطهيره، فالسيد المسيح لم يتعدى على الكهنوت ولم يتعدى على ناموس موسى، فهذه شهادة أن السيد المسيح لم يكسر الناموس. ويقول "القديس كيرلس الكبير" أن اليهود: "كانوا يسعون أن يعاملوا المسيح مُخلصنا كلنا باحتقار، ولقد قالوا صراحة " نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ الله وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ" (يو 9: 29) لذلك كان من الضروري أن يقتنعوا بواسطة الحقائق الفعلية أن مستوى موسى أقل من مجد المسيح، لأن موسى كان أمينًا كخادم في بيته، وأما المسيح فكابن على بيت أبيه (عب 3: 5، 6). إذًا فمن هذا الشفاء للأبرص؟ يمكننا أن نرى بوضوح تام أن المسيح يفوق ناموس موسى بما لا يُقارن، لأن مريم أخت موسى، هيَ نفسها ضُربت بالبرص لأنها تكلمت ضده، وموسى تألم جدًا بسبب إصابتها، ولأنه لم يكن في مقدوره أن يُزيل المرض من أخته فإنه سقط بوجهه أمام اللَّه قائلًا: أتوسل إليك اللهم اشفها (عد 12: 13)، فلاحظوا هذا إذًا أنه أولًا كان هناك توسل، لقد سعى بالصلاة أن يحصل على رحمة من فوق، أما مُخلص الكل فتكلم بسلطان إلهي: "أُرِيدُ فَاطْهُرْ" لذلك فإن نزع البرص كان شهادة للكهنة لكي يعرف أولئك الذين يعطون أعلى رتبة لموسى أنهم يضلون عن الحق" (154).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- لماذا جاء الفريسيون ومعلموا الناموس من كل قرية من الجليل واليهودية وأورشليم وكانت قوة الله لشفائهم..؟ لقد عمّت الآفاق سمعة وشهرة السيد المسيح، وكان رد فعل الفريسيين ومعلمي الناموس متباين، فقليل منهم كانوا يعتقدون بتقوى يسوع ورسالته السمائية، أما الكثيرون فقد أساءوا الظن، واعتقدوا أنه يسلك ضد الناموس، فعندما يصنع معجزة في يوم سبت فإنه لا يحفظ للسبت كرامته ووقاره، وبالرغم من أن عدد الفريسيين لم يكن ضخمًا، فعددهم في القرن الأول كان نحو ستة آلاف شخص، ولكن تأثيرهم على الشعب كان قويًا، لأن الناس نظروا لهم نظرة إكبار وإجلال على أنهم مفروزين لخدمة اللَّه، بينما لم يتوافقوا مع السيد المسيح الذي كشف ريائهم وشبهَّهم بالقبور المُبيضة المُزينة من خارج، أما من داخل فهيَ مملوءة عظام أموات وكل نجاسة... تجمع الكتبة والفريسيون والناموسيون معلموا الناموس من أورشليم، فجاءوا لفحص أقوال وأعمال يسوع والتأكد من صدقها، لأنه من مُنطلق مسئوليتهم التصدي للأنبياء الكذبة الذين يضللون الشعب (تث 13، 18: 20-22)، ولهذا السبب ذهبوا من قبل ليوحنا المعمدان يسألونه عن شخصيته وعمن أرسله ليُكرز (يو 1: 19-25)، وكان من المفروض أن يكون هؤلاء القادة حرَّاس العقيدة، ولكن ضُربوا بضربة الرياء (مت 23). لقد تجمع هؤلاء مع أولئك، ذو النوايا الحسنة مع ذوي النوايا السيئة، تجمعوا من الجليل شمالًا ومن اليهودية جنوبًا، فأصحاب النوايا الحسنة مع الذين ظنوا عن جهل، وليس عن قصد، أن يسوع ليس من اللَّه، كانت عليهم قوة اللَّه لشفائهم... لم يكونوا مرضى جسديين، ولم يعانوا من أمراض عضوية، لكنهم كانوا مرضى بالحسد والحقد والغيرة والرياء، فنالوا البرء من أمراضهم هذه، وانفتحت أعينهم على الحقيقة. أما الذين جاءوا بنوايا خبيثة، فبلا شك لم ينل أحد منهم الشفاء. فمع أن قوة المسيح الشافية كانت تكفي الجميع، لكن لم يستفد منها إلاَّ من شعر بالاحتياج إليها، فلا يستفيد من الكهرباء من يجهل قوتها ونواميسها.
3- هل قول لوقا أن أصدقاء المفلوج: "دَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الأَجُرِّ" (لو 5: 19) يخالف للواقع لأنهم لم يعرفوا في فلسطين الأَجَّر..؟ ذكر القديس متى قصة المفلوج دون أن يذكر أنهم أنزلوه من السقف بسبب الزحام (مت 9: 1-8)، وذكر مارمرقس أن أصدقاء المفلوج: "كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ" (مر 2: 4) دون أن يذكر طبيعة السقف، والحقيقة أنه في القرن الأول في أرض فلسطين كان سقف البيت عبارة عن عروق خشبية، تفصل الواحد عن الآخر مسافة نحو المتر، ويفرش عليها بالعرض أغصان من الشجر، بينما في مصر كان يفرد عليها جريد النخيل، ثم توضع فوق الأغصان طبقة عازلة من الطين، وكانوا يتركون فتحة في وسط السقف تظل مفتوحة صيفًا كمدخل للضوء والهواء، وتُغلق شتاءً تجنبًا لبرد الشتاء، ويبدو أن معجزة شفاء المفلوج جرت في الشتاء، فاضطروا إلى فتح الفتحة لينزلوا من خلالها المفلوج. وهناك احتمالين:
أ– أن القديس لوقا الذي كتب لليونانيين، وصف لهم السقف بما يناسب ثقافتهم، فذكر " الأَجُرِّ" أي "القرميد" الذي كان شائعًا لديهم.
ب- جاء في "قاموس الكتاب المقدَّس" عن " الأَجُرِّ": "لفظ فارسي معرَّب، وهو الطوب، وكلمة طوب من أصل هيروغليفي، ويصنع من الطين ويجفف في الشمس، وهو اللبن، وقد يُحرق بعد ذلك في "قمائن" لتزداد صلابته. وهناك دلائل على أن الإنسان في ما بين النهرين قد صنع الطوب منذ سنة 350-300 ق.م لعدم توفر الأحجار... وفي بابل القديمة استخدموا الطوب المحروق (الأحمر).. لكن الطوب المحروق قلما كان يُستخدم في مصر قبل العصر الروماني. كما لم يُعرف البناء بالطوب الأحمر في فلسطين" (راجع موقع الأنبا تكلا). ومع هذا فإنه لا مانع أن القليل من منازل فلسطين قد استخدمت الأُجَّر في سقوف المنازل، أو على الأقل في الفتحة التي تتوسط السقف، وهذا ما شجعهم على فتح الفتحة. أما لو كان السقف من الطين لانهال التراب على الجالسين في البيت. وأكد البعض أن الأُجَّر كان معروفًا في فلسطين قبل الميلاد (راجع القس ليون موريس - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا ص117).
وجاء في "الموسوعة الكنسية": "كانت توجد فتحة في السقف يغطونها بالأخشاب في الشتاء ويرفعونها في الصيف، فرفعوا هذه الألواح الخشبية الموجودة بين الطوب الأُجَّر (وهو الطوب المحروق الذي يُغطي السقف ليمنع نفاذ مياه الأمطار)، وربطوا فراش المشلول ودلوه من السقف، فنزل قدام رب المجد يسوع" (155).
_____
(153) أورده وليم باركلي - ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص80.
(154) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الإسكندري، ص101.
(155) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد - جـ 2 بشارتي لوقا ويوحنا، ص66.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/572.html
تقصير الرابط:
tak.la/tffqzp2