س571: كيف يقول بطرس: "يَا مُعَلِّمُ قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا" (لو 5: 5) ثم يعود للصيد ثانية؟ ولماذا ذكر كل من متى (مت 4: 18-21) ومرقس (مر 1: 16-20) دعوة التلاميذ دون أن يذكر أحدهما معجزة صيد السمك الكثير التي سبقت الدعوة، مثلما ذكرها لوقا (لو 5: 1-11)؟ وكيف يتجرأ بطرس ويطرد المسيح من سفينته قائلًا: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي" (لو 5: 8) مُتشبهًا بالشيطان الذي قال: "مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ" (لو 4: 34)؟
ج: 1- كيف يقول بطرس: "يَا مُعَلِّمُ قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا" (لو 5: 5) ثم يعود للصيد ثانية..؟ بحسب المنطق البشري كان من الطبيعي أن لا يعود بطرس ثانية للصيد في هذا اليوم، ولا سيما أن خبرته بأمور الصيد لا يُستهان بها، فإن كان قد فشل في الصيد في أوقات الليل المناسبة جدًا للصيد، فكيف يصطاد في نفس المنطقة في النهار؟! لقد عبر الليل أفضل فترة للصيد دون جدوى، فأي نجاح يمكن أن يحققه في صيد النهار، وإن كانت الأسماك تسبح نهارًا بجوار الشط، فكيف يطيع أمرًا بدعوة للدخول إلى العمق (لو 5: 4).. ومع كل هذا فإن بطرس لم يعتذر مُقدمًا حجته الواهية أنه خبير بشئون الصيد، فكيف ينصاع لنصيحة نجار ليس له خبرة بالبحر، كما أن مشورته ضد العقل والمنطق... لم يحدث هذا لأن بطرس كان لديه فضيلة رائعة تنم عن تواضعه، وهيَ أنه مع كونه غير مقتنع بالفكرة، إلاَّ أن لديه استعداد تام أن يطيع من يحبه، وإذ قد أحب بطرس الرب يسوع لذلك قال له بثقة مُطلّقة: "وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَة" (لو 5: 5). أنها نعمة الإيمان، بعد أن أُستعلنت أمامه قوة كلمة المسيح عندما أمر روح الشيطان النجس فخرج، فاندهش وقال مع القائلين: "مَا هذِهِ الْكَلِمَةُ.لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ" (لو 4: 36) كما أُستعلنت أمامه قوة كلمة المسيح التي أقامت حماته من الحمى الشديدة في لحظة حتى أنها قامت وصارت تخدمهم (لو 4: 39). حقًا أنه بعد أن طوى الليل ردائه، ونشر وجه الشمس ضيائه، وانتاب الفشل هؤلاء الصيادين البسطاء، لم يدركوا أنهم يقفون على أبواب النجاح، فعندما تُغلق الأرض أبوابها، ويُغلق البحر أحشائه، ولا يعود يُعطي ولو القليل من الخير، فإنه حينئذ تنفتح أبواب السماء، فيصير صيادي الأسماك صائدي الناس، وتتحقَّق نبوءة إرميا النبي: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَى جَزَّافِينَ كَثِيرِينَ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَصْطَادُونَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أُرْسِلُ إِلَى كَثِيرِينَ مِنَ الْقَانِصِينَ فَيَقْتَنِصُونَهُمْ" (إر 16: 16) بالجزَّافون أي الصيادون هم الآباء الرسل، ومن بعدهم القانصون أي المُعلِّمين والمُدبرين الذين ينشغلون بصيد النفوس لحساب الملكوت.
2- لماذا ذكر كل من متى (مت 4: 18-21) ومرقس (مر 1: 16-20) دعوة التلاميذ دون أن يذكر أحدهما معجزة صيد السمك الكثير التي سبقت الدعوة، مثلما ذكرها لوقا (لو 5: 1-11)..؟ ركز القديس مرقس على دعوة أول أربعة من التلاميذ أكثر من تركيزه على معجزة صيد السمك الكثير التي سبقت الدعوة، وانتهت باختيار بطرس وأندراوس ويوحنا ويعقوب، لأن القديس مرقس دائمًا يقفز للنتائج النهائية، فما يهمه هو دعوة أوائل الرسل، أكثر من معجزة صيد السمك الكثير، لأن المعجزة حدثت وانتهت، أما اختيار التلاميذ فله فاعليته المستمرة التي تتعدى حدود الزمان، فهيَ حقيقة حيَّة تعيش في كل الأجيال وللآن، فإننا نتبع أثر خطواتهم مُتمثلين بإيمانهم. هكذا كانت نظرة مارمرقس، ونسج على منواله القديس متى. أما القديس لوقا المؤرخ المُدقّق فقد ركز نظره على عظمة هذه المعجزة العجيبة التي انتهت باصطياد أربعة تلاميذ، ثلاثة منهم أعمدة الكنيسة، ويقول "القس سمعان كلهون": "قال بعض المفسرين: لا يعارض "متى" الأمور التي يذكرها "لوقا"، بل يتركها فلا شيء أكثر شيوعًا من أن ما يتركه الواحد يذكره الآخر. وهذا يُنفي الشبهة عن البشيرين المُتهمين أنهم كتبوا باتفاق سابق. ويحمي القارئ من أن يُولَع بدرس ما كتبه الواحد ويُهمل ما كتبه الآخر.." (151).
لقد ركز القديس لوقا على الصورة البديعة عندما زاحمت الجموع يسوع: "وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ الله" (لو 5: 1) ونستطيع أن نقول أن تعبير " كَلِمَةَ الله" تعبير لوقاوي، حيث استخدمه القديس لوقا بكثرة سواء في إنجيله (لو 5: 1، 8: 11، 21، 11: 28) أو في سفر الأعمال حتى أنه في أصحاح واحد استخدمه خمس مرات (أع 13: 5، 7، 44، 46، 48) بينما جاء هذا التعبير " كَلِمَةَ الله" نحو مرة واحدة في كل إنجيل من الأناجيل الثلاث الأخرى (راجع بوب إتلي - لوقا المؤرخ - إنجيل لوقا ص146).. ازدحمت الجموع لسماع " كَلِمَةَ الله"، حتى أن يسوع استقل سفينة بطرس واستخدمها كمنبر للوعظ، وتحرير النفوس من شباك إبليس، وصيد الناس، وكان ليسوع المسيح التأثير القوي الذي يقود كل هذه الأعداد للصمت والإصغاء، فظل صوته يجلجل من خلال الأناجيل عبر صفحات التاريخ، يهز الكيان ويخلق في الإنسان مشاعر الثورة ضد الخطايا والآثام والنقائص، ويزرع في النفوس اشتياقات الملكوت.
كان قد سبق لهؤلاء التلاميذ الالتقاء بيسوع، فمثلًا كان أندراوس تلميذًا ليوحنا المعمدان، وعندما اكتشف المسيا أسرع فدعى أخيه سمعان الذي إلتقى بيسوع فدعاه بصفا الذي تفسيره بطرس (يو 1: 40-42)، فكان هؤلاء التلاميذ يتبعون يسوع بصورة جزئية، تجدهم تارة معه، وتارة في عملهم في صيد الأسماك وإصلاح الشباك. أما في هذه المرة فقد دعاهم يسوع للتبعية الكاملة، فتركوا كل شيء وتبعوه... لقد كافئ الرب يسوع بطرس الذي أعاره سفينته لخدمة الكلمة، فصار بطرس صيادًا للناس، وصارت السمكة رمزًا للمسيحية، فحروفها في اليونانية تُمثِل الحروف الأولى من عبارة: "يسوع المسيح ابن اللَّه المُخلص"، وهكذا تعامل السيد المسيح مع بطرس ورفقائه الخبراء بالصيد من خلال الصيد، مثلما تعامل اللَّه مع المجوس علماء الفلك عن طريق نجم المشرق، وهكذا يتعامل اللَّه في حنوه مع كل إنسان بالطريقة التي تناسبه (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد س239).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- كيف يتجرأ بطرس ويطرد المسيح من سفينته قائلًا: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي" (لو 5: 8) متشبهًا بالشيطان الذي قال: "مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ" (لو 4: 34)..؟ هذا هو الاجتزاء المُخل، فقد اجتزء الناقد عبارة من سياقها، ووظفها بعيدًا عن مقصدها وهدفها، على طريقة "لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ" مع إسقاط "وَأَنتُمْ سُكَارَى" (سورة النساء 43)، فبطرس لم يطرد قط السيد المسيح من سفينته، بل أنه تَخَلَّى تمامًا عن سفينته وشباكه وترك كل شيء من أجل تبعية السيد المسيح... لقد شعر بطرس بعدم الاستحقاق أن يوجد في حضرة الرب يسوع، فتوسل إليه أن يخرج من سفينته، فلا هو وسفينته يستحقا أن يكونا في حضرته المقدَّسة... هل يتصورَّ الناقد أن القديس بطرس الذي أصغى لأحاديث السيد المسيح، وعاين قوة كلمته عندما طرد روح الشيطان النجسة بكلمة منه، وأقام حماته من الحمى الشديدة بكلمة منه، فنهضت من شدة المرض إلى كمال الصحة والتعافي، حتى صارت تخدمهم، فكيف يرفض المسيح؟!!
وهل يتصوَّر الناقد أن بطرس الذي أطاع كلمة المسيح عندما قال له: "ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ" حتى وإن كان غير مقتنع، لكنه قال بإيمان " عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ"، فهل يمكن أن يرفض المسيح؟!! وهل يتصوَّر الناقد أن بطرس الذي عاين سلطان المسيح على الأسماك، وعاين كثرة الأسماك التي لم يرها قط من قبل، حتى صارت شباكهم تتمزَّق وإمتلأت السفينتان وأخذتا في الغرق، فجاء خاضعًا راكعًا أمام الرب يسوع، وهو يشعر من أعماق قلبه أنه رجل خاطئ لا يستحق كل هذا الإحسان الإلهي، فكيف يرفض يسوع؟!!
وكيف يقارن الناقد بين بطرس الرسول الذي ترك كل شيء وتتبع المسيح، وشهد للاهوته، ورعى قطيعه، كارزًا بِاسمه حتى أن ظله كان يشفي الأمراض ويُطرد الأرواح الشريرة، وبين الشيطان الذي صرخ: "آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَايَسُوعُ النَّاصِرِيُّ. أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا" (لو 4: 34) فجاءت صرخته خوفًا وهلعًا وليست قوية وندامة، بينما شعر بطرس بأنه "رجل خاطئ" فأي وجه شبه بين بطرس والشيطان؟!! إن مشاعر بطرس هنا وهو يقول: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ" (لو 5: 8) تُشبه:
أ– مشاعر قائد المئة الأممي الذي حسب نفسه غير مستأهل أن يستقبل السيد المسيح في بيته ولا أن يلتقي به، فأرسل: "يَقُولُ لَهُ يَا سَيِّدُ لاَ تَتْعَبْ لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي. لِذلِكَ لم أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلًا أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ" (لو 7: 6، 7).
ب- مشاعر الشعب اليهودي عندما حلَّ اللَّه على الجبل وإرتج المكان من الرعود والبروق وصوت البوق، حتى أنهم: "وَقَالُوا لِمُوسَى تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا الله لِئَلاَّ نَمُوتَ" (خر 20: 19).
جـ- مشاعر نوح وزوجته: "فَقَالَ مَنُوحُ لامْرَأَتِهِ نَمُوتُ مَوْتًا لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللهَ" (قض13: 22).
د– مشاعر أهل شمس عندما أبصروا تابوت العهد عائدًا بقوة من أرض فلسطين: "يَقْدِرُ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ الرَّبِّ الإِلهِ الْقُدُّوسِ هذَا وَإِلَى مَنْ يَصْعَدُ عَنَّا" (1 صم 6: 20).
هـ- مشاعر أيوب البار عندما قال: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أي 42: 5، 6).
و– مشاعر إشعياء النبي عندما عاين مجد اللَّه: "فَقُلْتُ «وَيْلٌ لِي إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ" (إش 6: 5).
ويقول "القس إبراهيم سعيد": "لم يقصد بطرس أن يُخرج المسيح من السفينة التي كانت وقتئذ في العمق، لكن نفسه الحساسة الشاعرة بخطاياها لم تقوَ على البقاء في حضرة المسيح. هذا شعور إشعياء حين غطى وجهه أمام نور اللَّه في العهد القديم (إش 6). إن هذا البُعد الذي طلب بطرس أن يكون بينه وبين المسيح، لهو الحكم الطبيعي العامل الذي يستحقه كل خاطئ لولا رحمة اللَّه ومحبته في المسيح. وقد كان في إمكان بطرس أن يكتفي بالدهشة كغيره، لكنه دخل إلى العمق الروحي فاستحالت دهشته عبادة" (152).
_____
(151) اتفاق البشيرين، ص143.
(152) شرح بشارة لوقا، ص109.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/571.html
تقصير الرابط:
tak.la/2qpm6yd