س563: هل معمودية يوحنا كانت تغفر خطايا التائبين (لو 3: 3)؟ وإن كانت لا تغفر الخطايا فما لزومها؟ وكيف أعدَّ يوحنا الطريق أمام السيد المسيح (لو 3: 4، 5)؟ وهل نبوءة إشعياء (إش 40: 3، لو 3: 4) لا تنطبق على يوحنا لأنه يتحدث عن صوت صارخٍ في البرية أي في الصحراء، بينما كانت كرازة يوحنا وسط الناس؟
ج: 1- هل معمودية يوحنا كانت تغفر خطايا التائبين (لو 3: 3)..؟ قال إنجيل لوقا عن يوحنا المعمدان: "فَجَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (لو 3: 3) فكرازة يوحنا صاحبها معمودية التوبة، مع وعد بمغفرة الخطايا عن طريق معمودية العهد الجديد، فمعمودية يوحنا كانت لتحريك القلوب تجاه التوبة، وشاهدة على توبة الإنسان، وليس لمغفرة الخطايا، لأن مغفرة الخطايا تأتي من معمودية الروح القدس (مت 3: 11) والروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع المسيح لم يكن قد تمجَّد بعد، وبينما كان يوحنا يعمد التائبين العائدين للَّه بكل قلوبهم لم يكن السيد المسيح قد صُلب ومات ودُفن وقام بعد، والمعمودية التي تهب مغفرة الخطايا هيَ في حقيقتها موت مع المسيح وقيامة معه، فأجرة الخطية موت، والمسيح الذي هو أقوى من الموت هو الذي مات عنا وقام وأقامنا معه، ونحن نأخذ مفاعيل موت المسيح وقيامته في معمودية العهد الجديد، التي لم تكن متاحة في معمودية يوحنا التي كانت تصحح السلوك الجسدي فحسب، بينما معمودية العهد الجديد تُطهِر الجسد والروح أيضًا. ولذلك الذين اعتمدوا بمعمودية يوحنا وظلوا على قيد الحياة اعتمدوا على يد الآباء الرسل، مثل الذين اعتمدوا في أفسس بمعمودية يوحنا، فماذا فعل بولس الرسول؟: "فَقَالَ لَهُمْ فَبِمَاذَا اعْتَمَدْتُمْ؟ فَقَالُوا بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. فَقَالَ بُولُسُ إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ قَائِلًا لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ أَيْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَلَمَّا سَمِعُوا اعْتَمَدُوا بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (أع 19: 3-5). وقد سبق مناقشة هذا الموضوع فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 6 س489.
ونضيف أيضًا قول "القديس يوحنا الدمشقي": "لأنه لم تكن الذبيحة قُدمت بعد، ولا انحدر الروح القدس، ولا انحلت الخطية، ولا ارتفعت العداوة، ولا انمحقت اللعنة، فكيف أزمع الغفران أن يكون..؟ فيوحنا جاء لينذر بمعمودية التوبة في برية اليهودية، ومن ثم كانت هذه المعمودية تفتح طريقًا لتلك المعمودية التي للمسيح فيما بعد. أي أن المعمودية اليهودية كانت تفتح الباب المؤدي إلى معمودية كنيسة العهد الجديد.." (يوحنا الدمشقي - كتاب 4 فصل 9) (126). وإن كانت معمودية يوحنا لا تغفر خطايا التائبين إلاَّ أنها كانت لها فائدة عظيمة، فهيَ تمثل باب التوبة، وشاهد إثبات على توبة التائبين، وأيضًا هيأت وأهلت القلوب لاستقبال العريس، ومن يرى أن معمودية يوحنا كانت بلا قيمة لأنها لا تغفر الخطايا كمن يقول أننا لسنا في حاجة إلى صديق العريس!.! كان ليوحنا دور هام في الشهادة للحق: "يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قِائِلًا هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يو 1: 15).
2- كيف أعدَّ يوحنا المعمدان الطريق أمام السيد المسيح (لو 3: 4، 5)..؟ كان هناك ارتباط قوي بين خدمة يوحنا المعمدان السابق الصابغ، وبين خدمة السيد المسيح، فكان يوحنا بمثابة رسول الملك الذي يتقدم موكبه:
أ– كان الشعب ينتظر المسيا على أنه ملك أرضي عظيم ينقذهم من بطش الحكم الروماني ويحرّرهم من سطوته، ويعيد أمجاد داود وسليمان، فجاء يوحنا المعمدان وصحح هذه المفاهيم الخاطئة، فالمسيا القادم قال عنه " هُوَذَا حَمَلُ الله الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو 1: 29).
ب– سبق يوحنا وحرث الأرض غير الممهدة ليعدها للزراعية فجاءت كرازة يوحنا كالعاصفة هزت الضمائر وحركت القلوب الصخرية، والذين علقوا آمالهم على أنهم أبناء إبراهيم أدركوا أن اللَّه قادر أن يُقيم من الحجارة أي الأمم أولادًا لإبراهيم، فأسرعوا مُعترفين بخطاياهم وقبلوا المعمودية، بالرغم من أن المعمودية كانت معروفة أنها للأمم المختونين الذين يُريدون أن يتهودوا، وليست لليهود... ثم جاء الزارع ربنا يسوع المسيح ليُبذر البذار فتنمو وتُثمر ثلاثين وستين ومائة.
جـ- كدَّ يوحنا الأحجار من الجبل وهيأها وزرع الأمل في النفوس بمجيء المسيا الذي هو كائن قبله وأقوى منه وغير مستحق أن يحل سيور حذائه. ثم آتى الرب يسوع وصقل هذه الأحجار وبناها هيكلًا مقدَّسًا له.
د– جاء يوحنا يُعلن: "الآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ" (يو 3: 9) ليحرك القلوب للتوبة، ثم جاء السيد المسيح سريعًا ليرطب النفوس بزيت نعمته معلنًا عن مهمته: "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ" (مت 12: 20).
هـ- جاء يوحنا صوت صارخٍ: "يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" في برية هذا العالم، ثم جاء أقنوم الكلمة المتجسد ليكمل الكرازة ببشارة الملكوت وقد صيَّر الأرض سماءً.
و– جاء يوحنا كآخر أنبياء العهد القديم، ثم جاء السيد المسيح ليبدأ العهد الجديد.
ز– جاء يوحنا ليعد الطريق فشجع المتضعين المنسحقين: "كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ" ويهدم عظمة المتكبرين المرائين: "كُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ" كما جاء لكي " تَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً" (لو 3: 5).. جاء يهيئ القلوب بالتوبة، فجاء المسيح الملك فوجد الطريق معبَّدًا والقلوب مهيئة لاستقبال الكرازة بالملكوت.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل نبوءة إشعياء (إش 40: 3، لو 3: 4) لا تنطبق على يوحنا المعمدان لأنه يتحدث عن صوت صارخٍ في البرية أي في الصحراء، بينما كانت كرازة يوحنا وسط الناس..؟ تنبأ إشعياء النبي عن يوحنا قائلًا: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ. أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلًا. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُل بَشَرٍ جَمِيعًا لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ" (إش 40: 3-5) وهكذا أدرك مرقس الرسول أول من كتب من الأنجيليين، وأشار إلى يوحنا (مر 1: 2، 3)، وهكذا أدرك أيضًا القديس متى أكثر من ربط بين العهدين القديم والجديد، وأشار لهذا المعنى (مت 3: 3)، وهذا ما أدركه كذلك لوقا الإنجيلي (لو 3: 4-6).. فهل ما فهمه الإنجيليون الثلاثة واتفاقهم عليه، وهل ما قبله الآباء الرسل والكنيسة الأولى واستقر في وجدانها كان مفهومًا خاطئًا؟!! كما أن يوحنا المعمدان، الكاهن بن الكاهن، خدم وعمَّد وكرز ليس في الهيكل، إنما بحسب القديس متى أنه خدم: "فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ" (مت 3: 1)، وبحسب القديس يوحنا: "فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ" (يو 3: 23) وهيَ منطقة هادئة بعيدة عن المنطقة العامرة بالسكان، ولذلك قال القديس مرقس: "وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ" (مر 1: 5).
وربما سبب هذا اللبس أن إشعياء النبي أشار إلى البرية أي الصحراء، كما أشار للقفر، ولو أدرك الناقد أن إشعياء النبي يقصد المعنى الروحي، ما كان اعترض وظن أن نبوءة إشعياء لا تنطبق على يوحنا المعمدان... لقد انحدر المستوى الروحي لبني إسرائيل وانشغلوا بالشكليات، وصرفوا النظر عن جوهر العبادة، وهذا واضح ومؤكد من توبيخات كل من يوحنا المعمدان والسيد المسيح لهذا الشعب، فقد أشبه بمن يعيش في برية قفرة، بلا أي ثمر روحي في حياتهم... وهذا التفسير يتمشى تمامًا مع بقية النبوءة، فمثلًا عندما قال إشعياء " كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ" فهو يشير إلى المتواضعين المُخلصين مثل الآباء الرسل ولعازر وأختيه وغيرهم، فإن حياتهم ارتفعت وامتلأت وشبعت بالمسيح. وقول إشعياء: "وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ" أشار للمتكبرين مثل الكتبة والفريسيين والصدوقيين بمن فيهم من رؤساء الكهنة وغيرهم، فهؤلاء كانوا يمثلون قامات دينية مرتفعة وكشف السيد المسيح حقيقتهم لأنهم أبعد ما يكون عن الحياة الروحية الأمينة. وكذلك قول إشعياء: "وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا" مثل المرأة الخاطئة وزكا العشار وغيرهم من الخداعين المكرة والمرائين الذين رجعوا إلى استقامة الطريق ومجَّدوا اللَّه في حياتهم، وقول إشعياء " وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلًا" فالجنود ذو الأخلاق الخشنة مثل الوحوش أطاعوا حكمة اللَّه، وصاروا نفوس سهلة مريحة، وهلم جرا...
إذًا هذه النبوءة تنطبق تمامًا على يوحنا المعمدان صاحب الصوت الصارخ (إش 40: 3) بينما السيد المسيح هو كلمة اللَّه... يوحنا المعمدان هو الملاك الذي هيئ الطريق أمام سيده (ملا 3: 1) وجاء السيد المسيح وشهد ليوحنا المعمدان أنه: "لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (مت 11: 11) وأنه: "أَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ" (لو 7: 26) وهو " السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ" (يو 5: 35).
_____
(126) أورده القس أنسطاسي شفيق - الفداء في إنجيل لوقا، ص261.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/563.html
تقصير الرابط:
tak.la/9zdzysr