س55 : ما هيَ الدوافع التي دفعت الكنيسة لجمع الأسفار القانونية؟
ج: ظهرت بعض الدوافع والضروريات دعت الكنيسة إلى تجميع الأسفار المقدَّسة للعهد الجديد المعترف بها، ومن هذه الدوافع نذكر الآتي:
1ـــ رأت الكنيسة في هذه الكتابات كنوزًا ثمينة وجواهر كريمة ينبغي الحفاظ عليها حتى لا تطولها يد العبث، لذلك جمعت هذه الأسفار إلى بعضها البعض، وبذلت الكنيسة أقصى ما في وسعها لنساخة أكبر عدد من هذه الأسفار بدقة متناهية لتوفر لكل كنيسة محلية نسخة تقرأ منها في صلواتها الليتورجية بجوار قراءة أسفار العهد القديم، كما قامت حركة ترجمات واسعة لهذه الأسفار لتوفر لكل شعب الأسفار المقدَّسة بلغته التي ينطق بها فتُرجمت للسريانية واللاتينية في بداية القرن الثاني، وتُرجمت للقبطية في نهاية القرن الثاني الميلادي... وهلم جرا، هذا بالإضافة للاحتفاظ بها في لغتها اليونانية الشعبية التي كُتبت بها، والتي كانت تمثل لغة التفاهم العالمية.
2ـــ احتياج الكنيسة الشديد لهذه الأسفار المقدَّسة كطعام يومي تقدمه لأولادها، حتى يتعمقوا في حياة التقوى، ويتفهموا الأمور اللاهوتية، كما تم تخصيص بعض الفصول لقراءتها في الصلوات الليتورجية، مثلما يستخدم كتاب "القطمارس" في كنيستنا القبطية، فيجمع كل يوم قراءات من المزامير والأناجيل وسفر الأعمال ورسائل بولس الرسول والرسائل الجامعة، بالإضافة لقراءة أسفار بالكامل في بعض المناسبات مثل الأناجيل مع سفر أيوب خلال أسبوع الآلام وسفر الرؤيا في ليلة أبوغالمسيس... إلخ.
3ـــ ظهور عدد ضخم من كتب أبو كريفا التي نُسبت للرسل كذبًا، فظهرت عشرات الأناجيل التي حوت قصص غير حقيقية ولا سيما لتغطية فتـرة الطفولة والصبوة للسيد المسيح، وحياة السيدة العذراء... إلخ مما لم تُدونه الأناجيل القانونية، فكان لا بد من فرز هذا من ذاك، فأقرت الكنيسة قانونية الأسفار المقدَّسة القانونية واستبعدت كل كتب أبو كريفا، ولنا عودة للحديث التفصيلي عن كتب أبو كريفا في الباب الأخير من هذا البحث إن شاءت نعمة الرب وعشنا.
4ـــ رفض ماركيون في القرن الثاني الميلادي جميع أسفار العهد القديم، كما رفض جميع الأناجيل باستثناء إنجيل لوقا بعد أن أستبعد منه الأصحاحين الأول والثاني، والاقتباسات من العهد القديم والإشارات إليه، فقال "القديس إيرينيؤس" عــن مركيون: " فأنه يشوه الإنجيل بحسب لوقا إذ يزيل منه كل ما هو مكتوب عن ولادة الرب، ويستبعد جزءً كبيرًا من تعليم الرب، الذي فيه يعترف الرب بأنه خالق هذا الكون هو أبوه. وبالمثل فقد أقنع (مرقيون) تلاميذه أنه هو نفسه أكثر جدارة بالتصديق من أولئك الرسل الذين سلَّمونا الإنجيل، مزودًا إياهم ليس بالإنجيل، بل بمجرد شذرة منه. وبنفس الطريقة أيضًا قلَّص عدد رسائل بولس، حاذفًا كل ما قاله الرسول من جهة الله الذي خلق العالم، أنه هو أبو ربنا يسوع المسيح، وأيضًا تلك المقاطع من الكتابات النبوية التي اقتبسها الرسول لكي يعلّمنا أنها أعلنت مسبقًا عن مجيء الرب" (314).
فقد قبل مارقيون عشر رسائل فقط من رسائل بولس الرسول (رو، 1، 2 كو، غل، أف، في، كو، 1، 2 تس، فل) بعد أن حذف منها أي إشارات بأن خالق الكون هو أبو ربنا يسوع المسيح، لأنه كان يعتقد بإلهين، أولهما إله العهد القديم الذي خلق العالم وهو إله اليهود، فهو إله قاسي، وثانيهما الإله الطيب الذي أرسل ابنه يسوع المسيح للعالم، فحذف ماركيون من رسالتي رومية وغلاطية ما له صلة باليهودية (رو 1 : 17، 19-21، 3 : 31 - 4 : 25، 8 : 19، 10 : 5-11 : 32، والإصحـاح 15، 16 : 26، غل 1 : 18 - 24، 3 : 6 - 9)، وقال عنـه "الشهيد يوستين" (100 - 165م): " فإن الشياطين الأشرار قدموا أيضًا ماركيون النبطي الذي يحض الناس على إنكار أن الله هو خالق كل الأشياء، ما في السماء وما على الأرض، وأن المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء هو ابن الله، كما ادعى ماركيون بأنه يوجد إله آخر غير الخالق، وأيضًا ابن آخر" (الدفاع الأول 1 : 58)(315).
وقد وضع ماركيون أفكاره الهرطوقية في كتاب دعاه "المتناقضات"، وادعى أن تلاميذ المسيح أساءوا فهم رسالته، ولذلك فإن تعاليمه الشخصية جديرة بالثقة أكثر من تعاليم الرسل، وأن الذي أدرك رسالة المسيح هو بولس الرسول الذي عرف أن يسوع المسيح جاء من الإله الطيب، وليس من إله العهد القديم، وسر قبوله لإنجيل لوقا أنه كان شريكًا ورفيقًا لبولس الرسول، وأسماه "إنجيل الرب"، كما دعاه البعض "إنجيل مركيون"، وبهذا كوَّن ماركيون قانونًا مشوَّهًا للعهد الجديد مكوَّن من إحدى عشر سفرًا، ورفض بقية الأسفار، فكان لا بد للكنيسة أن تتخذ خطوة إيجابية في التأكيد على قانونية الأسفار الصحيحة للعهد الجديد، وجمعها معًا، حتى لا تنتشر قائمة ماركيون وكأنها القائمة الصحيحة.
ويقول "أف. أف. بروس" F. F. Bruce : " ترجع الأهمية الرئيسية لماركيون في القرن الثاني في رد الفعل الذي أحدثه بين قادة الكنائس الرسولية، فقد حفز قانون ماركيون الكنيسة الجامعة لتحديد قانون العهد الجديد بأكثر قوة ليس ليسود على قانون العهد القديم بــل ليكمله. وهكـذا بصفــة عامـة فقد قــاد تعليـم ماركيون الكنيسة الجامعـة لتحديــد إيمانهـا بحرص أكثر بنصوص محسوبة لتُقصي التفاسير الماركيونية" (F. F. Bruce, the Spreding Flame. 252)(316).. كما قال "بروس" أيضًا: " وقد حفز انتشار أفكار ماركيون بصورة واسعة الكنيسة لكي تعبر عن أسبقيتها في وضع قانون أسفار العهد الجديد للآخرين" (F. F. Bruce, the Canon of Scriptures P. 144) (317).
وحسنًا أن نُلقي الضوء قليلًا على بدعة ماركيون التي انتشرت واستمرت حتى القرن الخامس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقد وُلِد ماركيون في مدينة سينوب على شاطئ البحر الأسود شمال تركيا نحو 120م، وكان أبوه أسقفًا للمدينة، فتربى في أسرة مسيحية، وكان متوقد الذكاء، محبًا للزهد والتقشف، يميل لحياة التأمل، وعمل في التجارة، وامتلك عدة سفن تعمل في مجال النقل، وكوَّن ثروة طائلة، وبسبب انحرافه عن الإيمان اختلف معه أبوه وحرمه من الاشتراك معه في الصلاة، فقصد روما سنة 140م وتبرع بمبلغ ضخم للكنيسة قُدّر بنحو مائتي ألف من عملة روما، ليتودَّد لشعبها، ولكن عندما شك مسيحيو روما فـي إيمانه وطالبوه بكتابة إيمانه، اكتشفوا على الفور ضلاله، فحرموه وردوا له كل المبلغ الذي تبرع به للكنيسة، وفي نحو سنة 144م ترك روما وعاد إلى آسيا الصغرى ونصَّب نفسه أسقفًا، وكان قد تأثر بالغنوسية بسبب تردده على مدرسة سردون (Cerdo) الغنوسية في روما، حتى أن يوسابيوس القيصري قال نقلًا عن القديس إيرينيؤس: " أما ماركيون البنطي فقد خلَّف كردون (وهو رجل سوري معلم ماركيون)، ووسع تعاليمه، ونطق بتجاديف مزرية" (يوسابيوس ك 4 : 11 : 2) مع أن ماركيون لم يكن غنوسيًا، لأنه لم يؤمن بنظرية الانبثاقات والأساطير والملء والبليروما (مسكن أو ملء اللاهوت) والأيونات (الأشخاص السمائيون الخالدون) التي آمن بها الغنوسيون، كما اعتقد بأن الخلاص متاح للجميع وليس لأصحاب المعرفة فقط كما يعتقد الغنوسيون، وآمن ماركيون بالثنائية، فإله العهد القديم هو الإله العادل القاسي سريع الغضب إله اليهود، وإله العهد الجديد هو الإله الصالح الطيب السامي المترفّع عن المادة الذي لم يخلق العالم، إنما أرسل يسوع المسيح الذي ظهر فجأة في كفر ناحوم، وأن عملية التجسد لم تتم بالولادة من بطن العذراء، إنما تمت وقت العماد، وقد أثار إله العهد القديم أتباعه من اليهود لصلب المسيح، ولهذا رفض ماركيون جميـع أسفار العهد القديم، ونادى ماركيون بأنه لا خلاص خارج كنيسته، وبسبب نشاطه وذكاءه وغناه استطاع أن ينشر كنيسته في أنحاء العالم، وظلت الماركونية إلى القرن الخامس، ويقول "القديس إيرينيؤس": "وبوليكاربوس نفسه قال "لماركيون" حينما قابله مرة وسأله "ماركيون": أتعرفني؟، فقال له بوليكاربوس: "أنا أعرفك أنت بكر الشيطان". هذا هو الرعب الذي كان عند الرسل وتلاميذهم حتى من مجرد الاتصال الشفهي من مفسدي الحق" (ضد الهرطقات 3 : 3)(318)، وقال عنه الشهيد يوستين أن ماركيون أقوى الهراطقة، كما قال عنه: " وقد صدَّق هذا الرجل (ماركيون) أناس كثيرين كما لو أنه هو وحده العالِم بالحقائق وهم يهزأون بنا بالرغم من أنهم لا يستطيعون أن يبرهنوا على ما يقولون، ولكنهم كحملان غير عاقلة خطفها ذئب"(319)، ووضع يوستين مؤلفًا ضد معتقداته الخاطئة، كما ألف ترتليان خمسة كتب ضد ماركيون.
5ـــ كانت هناك ضرورة لتحديد الأسفار المقدَّسة القانونية بسبب بعض البدع والهرطقات التي بدأت تنتشر، فقد اعتقد "مونتانوس" بأن إعلان الله مستمر، وأن الوحي لم ينقطع عن العالم، بل أنه مستمر في شخصه، فهو (مونتانوس) يُمثّل الوحي ويُمثّل الروح القدس، وبالتالي فإن الأسفار الإلهيَّة لا تتوقف، بل أعتبر أن رسائله قد تقبَّلها من الله، وكان يفضل إنجيل يوحنا عن بقية الأناجيل، لأنه تحدث كثيرًا عن الباراقليط، وقد حكمت عليه الكنيسة بالحرم سنة 160م.
6ـــ طالما أضطهد الأباطرة الرومان المسيحيين وحاولوا القضاء على الأسفار المقدَّسة، فقد تعرضت هذه الأسفار للحرق والإبادة في زمن داكيوس (249 - 251م) مما جعل المؤمنون يتشبثون بها بالأكثر، فكان هناك ضرورة لتحديد الأسفار القانونية التي يتشبث بها المؤمنون، وقد يدفعون حياتهم ثمنًا لهذا، أمَّا الأسفار المزيَّفة أبو كريفا فلا ينبغي أن يتشبثوا بها، وقصة استشهاد الشماس العريس "تيموثاوس" وعروسه "مورا" صلبًا لرفضهما تسليم الأسفار المقدَّسة لإريانوس والي أنصنا خير شاهد على مدى تمسك المسيحيين بالكتب المقدَّسة.
ويقول المؤرخ الكنسي "يوسابيوس القيصري": " في السنة التاسعة عشرة من حكم دقلديانوس... حيث كان أسبوع آلام المخلص قد قرب أُذيعت أوامر ملكية في كل مكان تأمر بهدم الكنائس إلى الأساس وحرق الأسفار المقدَّسة بالنار.." (320).. هذا يعكس مدى حقد الشيطان على تلك الأسفار الإلهيَّة، والأمر المدهش أنه بعد إصدار هذا المرسوم بنحو 25 سنة، كلَّف الإمبراطور قسطنطين يوسابيوس القيصري بعمل خمسين نسخة كاملة من الكتاب المقدَّس على حساب الإمبراطورية، وجاء في أمر التكليف هذا: "من المنتصر مكسيموس أغسطس قسطنطين إلى يوسابيوس، لقد وجدت أنه من المناسب أن أُعلم قداستك لنسخ خمسين نسخة من الأسفار المقدَّسة... على أن تُنسخ على جلود معدَّة وبطريقة قابلة للقراءة وفي شكل مناسب قابل للحمل بواسطة نُساخ متخصصين ومتمكنين في مهنتهم. أساقفة الإيبارشيات تسلموا أوامرنا... وتزويد كل الأشياء الضرورية من أجل إعداد هذه النسخ... " (Philip Schaff, the Nicene and Past – Nicene Fathers 1 : 549) (321).
وقد جمعت أولًا رسائل بولس الرسول وتم تداولها وأقرت قانونيتها، ثم جمعت الأناجيل الإزائية الثلاث متى، ومرقس، ولوقا، ثم ضم إليهم إنجيل يوحنا، ثم جمعت رسائل الجامعة وسفر الرؤيا، ومع بداية القرن الثاني كانت أسفار العهد الجديد قد جمعت وعمت الآفاق في مصر وشمال أفريقيا، وسوريا، وفارس، وأسيا الصغرى، والهند، وأطراف الجزيرة العربية، واليونان، وروما وقبرص، وإن كان الاعتراف بسبعة أسفار منها وهيَ رسالة العبرانيين ورسالة يعقوب، ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة، ويهوذا، وسفر الرؤيا قد تأخر بعض الوقت.
_____
(314) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - ضد الهرطقات جـ 1 ط 2013م ص 115.
(315) ترجمة الأستاذة أمال فؤاد - القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد ص 84، 85.
(316) أورده القمص عبد المسيح بسيط - قانونية أسفار العهد الجديد ص 56.
(317) المرجع السابق ص 56.
(318) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - ضد الهرطقات جـ 2 ط 2016م ص 21.
(319) ترجمة الأستاذة أمال فؤاد - القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد ص 85.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/55.html
تقصير الرابط:
tak.la/97x8czk