س 54 : هل يوجد تشابه بين قصة تدوين الأناجيل، وبين قصة جمع القرآن؟
ج : 1ـــ نعم يوجد تشابهات، وكان يجب على بعض النقاد مثل الدكتور موريس بوكاي، وعلاء أبو بكر، والسيد سلامة غنمي، وغيرهم الكثيرين أن يدركوا هذه الحقيقة، فهم يعتقدون أن المسيحيين عجزوا عن حفظ تعاليم السيد المسيح خلال فترة تداول الإنجيل الشفاهي لمدة خمسة وعشرين عامًا، بينما يؤكدون على أن الإخوة المسلمين قد حافظوا على نصوص القرآن التي تداولت شفاهًا لمدة تصل إلى أربعين عامًا، فالسور المكية التي تمثل ثلثي القرآن يرجع تاريخها من سنة 13 ق. هـ إلى السنة الأولى الهجرية، والسور المدنية والتي تمثل ثلث القرآن يرجع تاريخها من السنة الأولى الهجرية إلى السنة العاشرة، وقد جمع القرآن في السنة السابعة والعشرين الهجرية... فهذا اتهام باطل.
2ــ تغافل هؤلاء النقاد أن المسيحية انتشرت بسرعة كبيرة جدًا وأكثر بكثير من انتشار الإسلام، فبينما هاجر مع الرسول من مكة للمدينة بعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة مائة وخمسون شخصًا، وربما فقــدت منهــم بعض النصـوص القرآنية، وجاء في القرآن: " وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الأنفال 8 : 26)، وفي موقعة بدر سنة 2 أو سنة 3 هـ كان جيش المسلمين 313 رجلًا، وهذا يعني أن العدد الإجمالي للمجتمع الإسلامي كان نحو 1500 شخص، وفي سنة 6 هـ عندما اتجه الرسول للحج بعد دعوته بنحو عشرين عامًا كان معه 1400 رجلًا، وهذا يعني أن المجتمع الإسلامي كان تقريبًا 8000 شخص، بينما في اليوم الأول من الكرازة بالمسيح آمن نحو ثلاثة آلاف رجل (أع 2 : 41) وبعد عدة أشهر بلغ عدد الرجال فقط دون النساء والأولاد نحو خمسة آلاف (أع 4 : 4)، وسريعًا ما انتشرت المسيحية خارج أورشليم وعمت الآفاق، وعندما كتبت الأناجيل كان هناك الآلاف من شهود العيان الذين شاهدوا معجزات السيد المسيح وسمعوا تعاليمه، على قيد الحياة... فهل نفقد الثقة في كل هؤلاء؟!
3ـــ جُمع القرآن بعد موت الرسول بنحو سبعة عشر عامًا، فكيف يتأكد الإخوة المسلمون أنه أثناء تداوله شفاهةً لم ينقص منه ولم يزد عليه؟ لا بد أنهم سيقولون أن الوحي يحفظ النص، وهو عين ما نقوله نحن المسيحيين، فنحن نؤمن أن روح الله القدوس قد رافق كتَّاب الأسفار المقدَّسة منذ إمساكهم بالقلم وحتى انتهاءهم مما كتبوه، كان يرشدهم وينشط ذاكرتهم ويذكرهم بكل ما سمعوه من السيد المسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وينير أذهانهم ويوسع مداركهم ويعصمهم من أي خطأ كان، ويساعدهم في انتقاء الألفاظ... هذا هو إيماننا.
4ـــ يقولون أنه لا يوجد لدينا النسخة الأصلية من الأناجيل، ويتجاهلون أنهم هم أيضًا لا يمتلكون النسخة الأصلية التي كُتبت عليها السور من الرقاع (رقائق الجلد)، واللحاف (رقائق الحجارة البيضاء)، والعُسب (جريد النخل) وصدور الرجال، وكل هذا فُقد، لم يوجد منه شيء واحد.
5ـــ يهاجمون الأناجيل الأربعة لاختلاف الأسلوب من كاتب إلى آخر في تناول نفس الحدث، ولا ينظرون للموضوع على أنه نوع من التكامل، فالأناجيل الأربعة تتكامل ولا تتناقض، بينما يقبلون أن القرآن نزل بسبعة أحرف، أي له سبع قراءات مختلفة، فعندما أمسك عمر بن الخطاب بتلابيب هشام بن حكيم وقاده للرسول لأنه يقرأ سـورة بطريقة مختلفة، وسمع الرسول من هذا وذاك حكم بصحة كليهما رغم الاختلاف الذي بينهما موضحًا أن القرآن نزل بسبعة أحرف، فجاء في "صحيح البخاري":.. " أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسـول الله (صلعم) فكدت أساوره في الصلاة فتصبَّرت حتى سلّم فلبَّبته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال أقرأنها رسول الله (صلعم) فقلت كذبـت فإن رســول الله (صلعم) قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله (صعلم) فقلت إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله (صلعم) أرسله أقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسـول الله (صلعم) كذلك أُنزلت. ثم قال أقرأ يا عمر فقرات القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله (صلعم) كذلك أُنزلت، أن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف فأقرأوا ما تيسر منه" (308).
6ـــ بدأ التفكير في جمع القرآن في عصر أبو بكر الصديق، بعدما قُتل عدد كبير من قراء القرآن في حرب اليمامة والاحتمال الغالب أن مَن قُتلوا كانوا يحفظون نصوص من القرآن لم يحفظها غيرهم، وبذلك فُقدت ولم تُسجل في القرآن الحالي، وهذا ما حرك عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر: " وإني أخشى أن يُستحرَّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن. وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن"، فوافقه أبو بكر بعد تردد، وقال لعمر ولزيد بن ثابت: " أقعدوا على باب المسجد، فمن جاء بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه"، وقام زيد بن ثابت بهذا العمل، ووجد آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ولم يجدها مع غيره فكتبها رغم أن الشاهد واحد وليس اثنين (راجع صحيح البخاري جـ 3 ص 225، 226 - باب جمع القرآن).
7ـــ ادعى هؤلاء النقّاد أن الإنجيل الشفهي قد حدث فيه تغيير وتبديل، بينما تجاهلوا أنه أثناء جمع القرآن سقطت بعض النصوص، فعن عبد الرحمن بن عوف خطب عمر في الناس فقال: " ألا وإن أناسًا يقولون ما الرجم في كتاب الله، وإنما فيه الجلد، وقد رجم رسول الله ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به" (راجع ابن كثير تفسير سورة النور آية 2).
وقال ابن ماجه عن عائشة: " نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرًا. ولقد كانت صحيفة تحت سريري. فلما مات الرسول وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها" (راجع ابن ماجة حديث 1944 جـ 1 ص 626 دار إحياء الكتب العربية) كما يقول "دكتور سيد القمني": " ما يتعلق بما جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1 / 29) وأورده ابن الجوزي، عن (عائشة رضي الله عنها) قالت: "لقد نزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشر، وكانت في ورقة تحت سرير بيتي، فلما اشتكى رسول الله (صلعم) (مرض) تشاغلنا بأمره، فأكلتها ربيبة لنا (تعني الشاه) فتوفى رسول الله (صلعم) وهيَ مما يقرأ في القرآن" (ابن الجوزي - جمال الدين): نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، ص 33).. وهكذا يكون وضع آية رضاع الكبير هو ذات وضع آية رجم الشيخ ولا وجود لهما في كتاب الله الكريم، ليس لأنهما نسختا، وإنما لأن الأولى أكلتها الشاة بينما الثانية، لم تُكتب أصلًا" (309).
كما يقول "دكتور سيد القمني" أيضًا: " وعن عمر قال: "ليقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر... وعن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي حتى مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاَّ ما هو الآن... وعن أبي إمامة ابن سهل أن خالته، قالت: لقد أقرأنا رسول الله (صلعم) آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زينا فأرجمهما البتة بما قضيا من اللذة... وعن أبي سفيان الكلاعي أن "مسلمة بن مخلد" قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووه ونصروه وجادلوا عنه القوم الذين غضب عليهم، أولئـك لا تعلـم نفس ما أخفي لهـم منهم من قرة أعين جزاء ما كانوا يعملون" (السيوطي - جلال الدين): الإتقان في علـوم القرآن، المكتبة الثقافية، (بيروت 1973 جـ 2 ص 25، 26).. وقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: " ألم تجد فيما أُنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن" (السيوطـي جـ 2 ص 25)" (310).
8ــ يحتج الأخوة النقّاد المسلمين لوجود عدة أناجيل، ويتجاهلون أنه كان هناك عدة مصاحف:
أ - مصحف ابن مسعود: وكان عبد الله بن مسعود جامعه خادمًا شخصيًا للنبي، وحضر بدرًا وأحدًا، وقال أنه حفظ سبعين سورة من فم النبي مباشرة، ومن المعروف أن قرآن ابن مسعود كان يختلف في ترتيب سوره ولم يحتوي على سورتين، وهما المعوزتين الفلق والناس. كما أسقط سورة الفاتحة، وقال البعض أنه لم يذكرها لأنه لا خوف من ضياعها لتكرارها اليومي في الصلوات، بينما كان يحك المعوزتين من المصاحف ويقول: لا تخلطوا بالقرآن ما ليس منه، أنهما ليستا من كتاب الله، وقال "الطبري" أن ابن مسعود كان يقول الياس هو أدريس، فقراء: وأن أدريس لمن المرسلين. وقرأ سلام علـى أدراسين (الصافات 123، 130 - جامع البيان جـ 23 ص 96، وقال "ابن قتيبة" أن ابن مسعود كان يقرأ (وتكون الجبال كالصوف المنفوش) بدلًا من (العهن المنفوش) (القارعة 5 - تأويل مشكل القرآن ص 24) وقال "الزمخشري" أن ابن عباس بدلًا من (والسارق والسارقة قاطعوا أيديهم) قال: (فاقطعوا إيمانهما) (المائدة 38 - الكشاف جـ 1 ص 459).
وبدلًا من قول مريم: "إني نذرت للرحمن صومًا فلم أكلم اليوم أنسيا" ذكرها ابن مسعود: "إني نذرت للرحمن صمتًا فلن أكلم اليوم انسيا"، وربما كان ابن مسعود يزيد من لفظ النص زيادات تفسيرية هيَ أشبه بتعليقات إيضاحية أدرجت ضمـن النص الأصلي... إلخ، وشمل مصحف ابن مسعود (108) سورة... إلخ.
ب - مصحف أُبي بن كعب: ويعتبر أُبي بن كعب كاتب الرسول في المدينة، وحوى مصحفه على سورتي الخلع والحفد، اللذان لا وجود لهما في مصحـف عثمان، وسورة الخلع: " بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم أنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير. ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك"، وسورة الحقد: " ﷽. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نخشى عذابك ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار مُلحَق" (جلال الدين السيوطي - الإتقان في علوم القرآن جـ 1 ص 64، 65). كما كان في مصحف أُبي من كعب آية عن طمع الإنسان أوردها بعـد آية 24 في سورة يونس، وأُستخدم هذا المصحف في سوريا قبل ظهور مصحف عثمان، وقد ساعد أُبي بن كعب زيد بن ثابت في تجهيز مصحف عثمان.
ج - مصحف ابن عباس: جامعه عبد الله بن عباس المُلقَّب بالبحر، حبر الأمة الإسلامية، وفقيه العصر، وإمام التفسير، وهو من بني هاشم وُلِد سنة 3 ق.هـ، وعُرف مصحفه في البصرة، وحوى سورتي الخلع والحفد.
د - مصحف ابن عباس الأشعري: وحوى سورتي الخلع والحفد.
هـ - مصحف علي بن أبي طالب: وكان مرتبًا بحسب نزول الآيات (راجع المصاحف للسجستاني - باب اختلاف المصاحف).
وجاء في "صحيح البخاري" عن ابن مسعود: " يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأُبي بن كعب"(311).
9ـــ نتيجة تعدد المصاحف وتعدد القراءات حدث لغط انتهى بحرق المصاحف، فجاء في "صحيح البخاري": "حدثنا موسى... حدثنا إبراهيم... حدثنا ابن شهاب": أن أنس بن مالك حدثه أن خذيقة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيقة اختلافهم في القراءة فقال حذيقة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواء من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَق"(312).
وعقَّب على هذا "الدكتور طه حسين" فقال: " أن النبي (صلعم) قال: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ، وعثمان حين حظر ما حظر من القرآن، وحرق ما حرق من الصحف، إنما حظر نصوصًا أنزلها الله وحرق صحفًا كانت تشمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله (صلعم)، وما كان ينبغي للإمام أن يُلغي من القرآن حرفًا أو يحذف نصًا من نصوصه، وقد كلف كتابة المصحف نفرًا قليلًا من أصحاب النبي، وترك جماعة القرَّاء الذي سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وجعل إليهم كتابة المصحف، ومن هنا نفهم سر غضب ابن مسعود، فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن، وهو فيما يقول قد أخذ من فم النبي (صلعم) سبعين سورة من القرآن. ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد، ولما قام ابن مسعود يعترض الأمر، رافضًا تحريق صحف القرآن أخرجه عثمان من المسجد إخراجًا عنيفًا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه" (الفتنة الكبرى - دار المعارف ط 1ج 2 ص 160، 161، 181، 182، 183)(313).
_____
(308) صحيح البخاري جـ 3 ص 226، 227.
(309) الأسطورة والتراث ص 355، 357.
(312) المرجع السابق جـ 3 ص 225، 226.
(313) أورده دكتور سيد القمني - الأسطورة والتراث ص 366، 367.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/54.html
تقصير الرابط:
tak.la/8mbqsq4