س548: هل ظهرت روح إيليا في منظر وشكل يوحنا المعمدان (لو 1: 17)؟ ولماذا عاقب الملاك جبرائيل زكريا الكاهن لمجرد أنه طلب علامة تحقُّق الوعد (لو 1: 18-20)؟ وهل للملاك أن يُعاقب إنسانًا؟ وما الداعي أن تخفي أليصابات نفسها خمسة أشهر بعد حبلها (لو 1: 24)؟
ج: 1- هل ظهرت روح إيليا في منظر وشكل يوحنا المعمدان (لو 1: 17)..؟ قال رئيس الملائكة جبرائيل لزكريا الكاهن عن ابنه يوحنا السابق الصابغ، الذي يسبق المسيا في مجيئه: "وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا" (لو 1: 17)، وليس معنى هذا أن يوحنا المعمدان لم يكن له روح بشرية، واتخذ روح إيليا النبي روحًا له، ففكرة تقمُّص وتناسخ الأرواح Reincarnation أي حلول روح شخص مات في جسد آخر، هيَ فكرة وثنية فاسدة لا نؤمن بها، فالإنسان سيؤدي حسابًا عن أعماله. الإنسان كاملًا جسدًا وروحًا، ثم أن إيليا النبي قد صعد حيًّا ولم يمُت، فكيف يتخلى عن روحه لتسكن في جسد آخر؟! وهل يظل هو حيًّا بلا روح؟!! القصد من قول الإنجيل " يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِه" أي يسلك بمنهج إيليا، وأسلوبه وشجاعته وتقشفه، وفيه تتحقق نبوءة ملاخي النبي عنه (ملا 4: 5، 6).. يشابه إيليا النبي في:
أ– ملبسه إذ يرتدي منطقة من جلد على حقويه (مت 3: 4) مثلما كان إيليا النبي (2 مل 1: 8).
ب- سكنى البرية (لو 3: 2) مع (1 مل 18: 19، 42، 19: 8).
جـ- عاش يوحنا المعمدان بتولًا مثلما عاش إيليا.
د– وبخ إيليا النبي الخطاة، كما أحدر نارًا من السماء فأكلت الخمسين جندي ورئيسهم مرتين (2 مل 1: 10) ووبخ يوحنا المعمدان الخطاة بشدة (لو 3: 9).
هـ- قاوم إيليا النبي الملك آخاب الظالم (1 مل 21: 20-24)، وقاوم يوحنا المعمدان الملك هيرودس الظالم (مر 6: 18).
وعندما طلب أليشع من اللَّه ضعفين من روح إيليا (2 مل 2: 9) فأعطاه اللَّه سُئل قلبه، حتى أن بني الأنبياء عندما رأوه قالوا: "قَدِ اسْتَقَرَّتْ رُوحُ إِيلِيَّا عَلَى أَلِيشَعَ. فَجَاءُوا لِلِقَائِهِ وَسَجَدُوا لَهُ إِلَى الأَرْضِ" (2 مل 2: 15). وبالطبع فإن هذا لا يعني أن روح إيليا تقمصت أليشع، إنما يعني أن أليشع النبي جاء بنفس منهج وقوة وعظمة إيليا النبي.
ويقول "القديس أمبروسيوس": "عاش إيليا في البرية وكذا يوحنا، وكانت الغربان تعول الأول، أما الثاني ففي طريق البرية قد داس كل إغراءات الملاهي، وأحبَّ الفقر مُبغضًا الترف. الواحد لم يسعَ لكسب رضاء آخاب الملك، والثاني احتقر رضا هيرودس الملك.
رداء الأول مزَّق مياه الأردن، بينما الثاني جعل من هذه المياه مغسلًا يهب خلاصًا.
الأول ظهر مع الرب في المجد (عند التجلي)، والثاني يحيا مع الرب في الأرض.
واحد يسبق مجيء الرب الأول والآخر يسبق مجيئه الثاني.
الأول أنزل الأمطار على الأرض بعد أن جفَّت ثلاث سنوات، والثاني غسل تراب أجسادنا في مياه الإيمان" (65).
(راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س331).
ومع الملاحظات اللطيفة في حديث القديس لوقا عن يوحنا المعمدان أن هناك إشارة خفية إلى ألوهية المسيح، فقوله عن يوحنا: "وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا" (لو 1: 16، 17) فإن " أَمَامَهُ" تعود إلى " الرَّبِّ إِلهِهِمْ" وبما أن المقصود أن يوحنا يتقدم السيد المسيح، فالمسيح إذًا هو الرب إلههم: "فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا" (كو 2: 9).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- لماذا عاقب رئيس الملائكة جبرائيل زكريا الكاهن لمجرد أنه طلب علامة (لو 1: 18-20)؟ وهل للملاك أن يُعاقب إنسانًا..؟ عندما أرسل اللَّه ملاكه جبرائيل لزكريا الكاهن يبشره بولادة يوحنا، كان من المفروض أن الكاهن يصدق الملاك ويؤمن بالوعد الإلهي، ولا سيما أنه سبق أن اللَّه أعطى إبراهيم إسحق بعد الكبر، إذ كان عمره مائة عام (تك 21: 5)، ولكن زكريا الكاهن أظهر ريبة وشكًّا في الوعد الإلهي الذي حمله الرسول السمائي الذي ظهر بمجد عظيم: "فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا" (لو 1: 18).. كيف يقول للملاك: "كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا؟" بعد أن أبصر ملاك الرب عيانًا بيانًا، وسمع صوته بأذنيه، في وضح النهار، وداخل الهيكل؟! لذلك تعرَّض للوم من قِبَل رئيس الملائكة الذي قال له: "أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ الله" (لو 1: 19) (وأنت لا تصدقني؟!!). وهنا ملاحظة جانبية إذ تظهر عظمة الملاك في تواضعه، فينسب ويرجع عظمته للَّه الواقف أمامه... وأعطى الملاك الكاهن العلامة التي طلبها: "وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا" (لو 1: 20). فالعلامة مُرتبطة بإتمام الوعد، وهيَ أنه يخرس، ومن المعروف أن الصمم يرتبط بالخرس، لذلك جاءت العلامة أنه لا يتكلم ولا يسمع حتى يتم الوعد، حتى أنهم عندما أرادوا الحديث معه استخدموا لغة الإشارة (لو 1: 62). وقد أوضح الملاك لزكريا السبب الذي دعاه أن يُعطيه هذه العلامة التي تحوي العقوبة في طياتها، قائلًا له: "لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِه" (لو 1: 20).. تأخر زكريا وهو في القدس وقلق الشعب عليه، وخشوا أن يكون قد لحق به أذى، وتسجَّسوا من إبطائه، ولا يمكنهم أن ينصرفوا قبل أن يخرج الكاهن ويهبهم البركة ويسمح لهم بالانصراف، وأخيرًا خرج إليهم الكاهن حاملًا في جسده العلامة التي طلبها، فإذ هو لا يتكلم ولا يسمع فتفاهموا معه عن طريق الإشارة.
ويرى البعض أن في هذه العلامة الصعبة كان الخير، كل الخير للكاهن. فعوضًا عن تركيز نظره إلى حالته كشيخ وأن زوجته متقدمة في أيامها، بدأ يركز فكره في مواعيد اللَّه وقوته الفاعلة، وفي زمن مجيء المسيا الذي طالما تحدث عنه الأنبياء وانتظرته البشرية، وانشغل بالمسيا وسرَّت نفسه بابنه السابق الصابغ الذي يتقدم أمام سيده مثل الرسول الملكي الذي يتقدم موكب الملك، وعمله العظيم في رد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار ويهيئ شعبًا مستعدًا للَّه، وقد ظهرت هذه المشاعر المقدَّسة عندما انفكت عقدة لسانه ونطق بتسبحته الرائعة، ولسان حاله يقول: "آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ" (مز 116: 10). وأيضًا حفظ الكاهن في صمته سر الولادة، فيقول: "الخوري بولس الفغالي": "زكريا يطلب علامة أو بالأحرى "معرفة" فوق تلك التي كُشفت له، وكأن كلمة اللَّه تحتاج إلى أن تبرّر نفسها. عند ذاك ترافقت عطية الَّله مع المجازاة... في " بُكم" زكريا واستحالة النُطق عنده. تكلم اللَّه فصار الإنسان أصم وأخرس (لو 1: 22، 62) ولكننا لسنا أما عقاب... بل أمام علامة دوّنت في لحم زكريا ودمه. فبفضل هذا البُكم سيحفظ سر الولادة، وستكون الولادة المنتظرة عند أليصابات علامة لمريم"(66).
هل للملاك أن يُعاقب إنسانًا..؟ نعم ما دامت هذه العقوبة تتفق مع المشيئة الإلهيَّة، فقد غار جبرائيل على مجد اللَّه، إذ كيف لهذا الكاهن المُسن المختبر الأيام ودارس الشريعة أن يشك في الوعد الإلهي؟!.! وقد سبق الملاكان وضربا أهل سدوم وعمورة بالعمى في زمن لوط (تك 19: 11) لم يكن خطأ زكريا أنه طلب علامة، ولكن خطأه في أنه شك وارتاب تجاه الموعد الإلهي، بدليل أن "إبراهيم" طلب علامة بإيمان فأُعطيت له (تك 15: 6-21)، وطلب "جدعون" أكثر من علامة بإيمان فنال طلبه (قض 6: 17، 36، 39)، وحصل "حزقيا" على علامة شفائه إذ رجع الظل عشر درجات (2 مل 20: 10)، وأعطى اللَّه "موسى" عبده علامتين، علامة العصا التي تتحوَّل إلى حيَّة، وعلامة اليد البرصاء (خر 4: 2، 3، 6-8).
3- ما الداعي أن تخفي أليصابات نفسها خمسة أشهر بعد حبلها (لو 1: 24)..؟ قال القديس لوقا: "وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ" (لو 1: 24).. لم تخفي نفسها بسبب الحمل لأنه عار، بل العار كان في العُقم، فبالحبل نزع اللَّه العار عنها: "هكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ" (لو 1: 25). إنما أخفت نفسها:
أ– لأنها شعرت بالحرج الشديد، إذ كيف تحمل وتلد بعد عقوريتها وهيَ متقدمة في أيامها؟! ولا سيما أن هذا بلا شك سيثير فضول الجيران وأهل المدينة فتصير حديث المدينة، ولا سيما بسبب ما تداول من أحاديث بشأن زوجها الصامت.
ب- لأن الذي في بطنها أعظم مواليد النساء، ابن الموعد، رسول المسيا مُشتهى الأجيال، الذي يتقدم أمامه بروح إيليا العظيم في الأنبياء، فهيَ تشعر أن في أحشائها كنز عظيم حوُّطت عليه من خلال خلوتها وعزلتها التي استمرت خمسة أشهر، قبل أن يعرف الأقرباء بقصد حبلها.
_____
(65) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص29.
(66) إنجيل لوقا جـ 1 - ظهور الكلمة والرسالة في الجليل، ص104.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/548.html
تقصير الرابط:
tak.la/6gzbd9w